يوميات مشاهد ـ جابر الخلف

[منتدى السهلة الأدبي]

يوميات مشاهد .. !!


1ـ تسمّرَ ملايين المشاهدين أمام الفضائيات منذ 14 يناير 2011 لمشاهدة ماذا كان يجري في تونس، وبعد بضعة أيام سمع العالم، ولأول مرة منذ عهود الاستقلال خبرا جديدا وصادما (الرئيس التونسي زين العابدين بن علي أصبح من الخلعاء)، ولأول مرة نسمع نحن العرب مصطلح (الرئيس المخلوع)، بدلا من (الرئيس المؤبد)، وكان الحدثُ دراماتيكيا إلى درجة عدم إمكانية رصده أو قياسه .

2ـ بعد أحدَ عشرَ يوما نفضَ الشعبُ المصري أسمالَ التاريخ، وانتفض من تحت ركام نظام استبدادي قمعي .. مخترقا هذه المرة حاجز الصوت والخوف معا .. وتحركت أمةٌ بحجم أممٍ، وارتبكت قارات، وانتقَضَت قرارات .. واستحق المصريون وسام الشرف والبسالة من بعدُ، كما استحقها التونسيون من قبلُ !!
3ـ يهمني جدًا أن أجددَ فرحي، فأول مرة أعيشُ وقائع ثورات اجتماعية (إنسانية) عربية نعاصرها عن وعي حارق بهذا الحجم، كنا نقرأ عن ثورات عربية سابقة في بطون الكتب وظهورها، أما هذه المرة فكنا نشاهدها عِيانا جهارا نهارا أمام أعيننا وأحاسيسنا لحظة بلحظة .. وهذا أمر له قيمته المعنوية .
4ـ ما يثير الإعجاب أيضا في هاتين الثورتين أنهما بلا إيودلوجيات .. بلا شعارات سواء كانت قومية أو إسلامية، أو غير ذلك .. إنها غضب شعبي عام وعارم نحو التغيير والعدل الاجتماعي والمساواة والحرية والتطور والتقدم، والمطالبة بدولة المجتمع المدني، وسيادة القانون، واحترام الحقوق والواجبات .
ففي برنامجه المحترم (حوار مفتوح) نقل غسان بن جدو حوارا مباشرا بين متظاهرين تونسيين، أحدهما من التيار(اليساري)، والآخر من التيار(الإسلامي)، التقيا مصادفةً في شارع واحد في مظاهرة واحدة بالعاصمة ضد نظام زين العابدين بن علي، وقد تعانقا عناقا حارا . وكذلك هو موقف المسلمين والأقباط في ميدان التحرير، وإقامة صلاة الجمعة، وقداس الأحد في نفس الميدان، وكان لهذا الموقفين المشرفين معان رمزية وطنية، وليست دينية سياسية بحتة .
5ـ كنت مرتاحا جدا للشعار الذين استعملته قناة الجزيرة (مصرُ تُحدّثُ عنْ نفسِهَا) .. ! وإن كنت قد لاحظت تعبئة وتأجيجا ضد النظام الحاكم، خرجت عن حدود المهنية حسب رأي بعض المحللين، وقد عدّه المشاهد العربي وقوفا صائبا في نصرة الشعوب ضد طغاتها، أما وجهة نظري فكنت أرجو من الجزيرة الالتزام بشعارها (مصر تحدث عن نفسها)، وعدم الاصطفاف الذي لن تستطيعه في مواقع أخرى .
6ـ من المهم رصد كثير من الكلمات والألفاظ التي استحالت إلى مفاهيم، مثل مفردة (البلطجية)*، فهي قد اجتاحت القاموس العربي بقوة نبض الشارع المصري، وهي تعبير يصف حالة عامة، وليست صفة مفردة، وهناك مفردات وتعبيرات أخرى سياسية وإعلامية وثورية وثقافية واجتماعية، من أهمها: الشعارات والأغنيات التي وظفها المتظاهرون في المظاهرات، وهي كثيرة وطريفة، وتستحق دراسة كاملة .
7ـ من المميز أن رياح التغيير هبت من المغرب العربي (تونس)، وانتقلت إلى مشرقه (مصر)، ولهذا الأمر دلالات سياسية وثقافية وفكرية مهمة، وكانت العادة أن رياح التغيير والتقدم والنهضة تهب من المشرق العربي إلى مغربه، ولكن المعادلة هذه المرة قد انقلبت، وهذه هي طبيعة الثورات، وفي كتاب (حوار المشرق والمغرب) بين المفكر د. محمد عابد الجابري (المغربي)، وبين المفكر د. حسن حنفي (المشرقي) تفاصيل هذا الظاهرة بشكل علمي . ولهذا دلالة مهمة ، وهي أن الشعوب العربية أمة واحدة .
8ـ من اللافت جدا حضور (الإصرار) الشعبي على التغيير في مقابل (التعنت) الرسمي في مقاومة أمواج التغيير ولججه، ولكن دائما (الجماهير أقوى من الطاغوت)، كما عبر السيد محمد باقر الصدر يوما ما، ثم تفرد به الخلود !! وقد عبر عنها الشعب التونسي والمصري بلغة أكثر فصاحة في الساحات والميادين العامة، ومنها فكرة (المبيت بعرفة ميدان التحرير)، وإغلاق مجلس الوزراء حتى إسقاط النظام .
9ـ من يشاهد مدن تونس وقراها، وميادين مصر وساحاتها، يرى مزيجا من الغضب والبهجة، وخليطا من الثورة والفن، يسمع تلحينا وغناء وصلاة ودعاء، يرى بكاءً وضحكا، يشاهد حياة وموتا، بل حتى زغاريدَ وأفراحا وزواجا .. وهذا له دلالات على شعبية الثورة وسلامتها من الإيدلوجيات والشعارات المضجرة والمملة .. إنه يرى تراجع الشعارات، وتقدم الشعوب، وقد أبهرني حرص الشعب المصري على تنظيف المكان ونظافته .
10ـ النجاح في توظيف المواقع الاجتماعية، مثل الفيس بوك، والتويتر، واليوتيوب، توظيفا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا احترافيا رغم كل الصعوبات كان نجاحا باهرا يحسب للشباب المصري، فقد صنعوا (إعلام المدونيين)، وكانت تصنع سبقا صحفيا دفع وكالات الأنباء، والقنوات الفضائية تنقل عنهم بسند صحيح غير مبتور أو منقطع، فهي تنقل عن مواطن بن مواطن .. !!
11ـ كان يضايقني الاختلاف حول تسمية ما حصل في تونس ومصر، هل هو ثورة أم احتجاج أم انتفاضة أم أم .. ، وكانت القنوات تطلق على ما يحصل حسب توجهاتها ومنطلقاتها، ويظل المصطلح في مثل هذه الحالات غير ضروري إطلاقا، الناس في الميدان كانت تخلق المصطلحات، وتؤكد على ما تشاء، وتلغي ما تشاء متى ما تشاء . كل هذه المصطلحات تعبر عن جزء محدود مما حصل ..!!
12ـ كنتُ مشغولا بعض الوقت بإعراب الجملة التي كان يكررها المتظاهرون في ميدان التحرير، وهي (الشعبُ يريدُ إسقاطَ النظامِ)، فكان الإعراب: الشعبُ مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه (الضمة الوطنية)، والنظامِ: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره (الكسرة الشعبية) .
13ـ من مزايا هاتين الثورتين أنهما بلا قيادات دينية، وبلا مرجعيات حزبية، بل كانت القيادات والمرجعيات والنقابات تابعة لما قام به الشعب في تعبيره العفوي عن الظلم والاستبداد .. وكانت القيادة تتم بطريقة تحرك الموجة نحو أخرى، حتى استحال إلى موج شعبي من فوقه موج .. ولجج وطنية من فوقها لجج، وتحولت القيادة من تنظيمات وهيكليات إلى يد (مدون) محترف، و(بائع) خضار صامد .
14ـ من جماليات الثورة التونسية والمصرية إنهما (ثورة شعبية عامة) أخذت من القصيدة العربية صفاتها، أخذت من (العمودية) انتظامها وجزالتها، ومن (التفعيلة) كثافتها ونضجها، ومن (النثرية) حريتها وتدفقها وحيويتها .
إنها ثورة تشبه (الحقيقة)، ولا يشبهها (المجاز)، تعبر ب(التصريح) ولا تكتفي بـ(التلميح)، (صورها) [color=window****]موَّارة بالكناية (المكنية) وبـ(التصريحية) أكثر . [/color]
إنها ثورة (بليغة) بلا (إطناب)، (فصيحة) بلا (تهويل)، (سندها) متصل صحيح رواه مواطن عن مواطن بلا انقطاع، و(متنها) مشرق الدلالة بلا نزاع، تخلو من (المحسنات البديعية)، فلا (تورية) أو (ترصيع)، وإنما محسناتها (عدالة اجتماعية) و(حرية فكرية) و(نزاهة قانونية) !!
15ـ في خضم أحداث مصر، حاولتُ توسيع دائرة فهمي أكثر، فحرصت على قراءة كتابين للمفكر السياسي محمد حسنين هيكل، أحدهما بعنوان (مصر والقرن الواحد والعشرون)، والآخر بعنوان (1995 باب مصر إلى القرن الواحد والعشرين)، وفي الكتابين قراءة استشرافية لما كان سيحصل، وقد فوجئت برغبتي الجامحة لإكمال الكتابين، فقد كنت غير حريص على متابعة (محمد حسنين هيكل) في برنامجه بقناة الجزيرة (مع هيكل)، فقد كنت أشعر بالملل والضجر من حجم المعلومات، وكثافة التحليلات، ولكنني في الكتابين كنت مستغربا ومندهشا من قدرة (هيكل) على التحليل السياسي، ومزجه بالأسلوب الأدبي الساحر .. فشكرا للأحداث التي دفعتني لقراءة هاذين الكتابين الصغيرين حجما، الكبيرين مضمونا، العميقين تحليلا .

جابر عبدالله الخلف


6 ربيع الأول 1432هـ
ــــــــــــــــــــ

* لفظة (البلطجية) مصدر صناعي، وهي جمع (بلطجي) بالجيم المصرية، وقد أجاد اليمنيون فيما بعد في اشتقاق جمع آخر لها، وهو (بَلاطجة)، باللهجة اليمانية، وهو جمع طريف ظريف، أولعت به وسائل الإعلام، وانتشر مقرونا بمسحة من الفكاهة بمعناها التراجيدي المفرط في الضحك.

 

 

[مشاهد الذاكرين]

بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا للأستاذ جابر الخلف بحجم الساعات التي قضاها في متابعة الأحداث
أحببت أن إضيف فائدة لغوية طريفة عن معنى كلمة : بلطجي أو بلطجية
وهي كلمة مصرية من أصل تركي
( بلطة ) أصلها Balta بالتركية و تعني ( فأس ) .
بلطجي: اي حامل الفأس الذي بمقدوره ان يؤذي غيره .
لكنها في مصر تطلق علي كل من يؤذي الناس و يخاف الناس من
ايذاءه اتقاء لشره .
مكونة من (بلطة) وتعني الشيء الحاد أو الذي يقطع و(جي) وهي أداة تعني صاحب المهنة ، فكأن معناها صاحب الفأس .
ومعناها فرض الرأي بالقوة و السيطرة على الآخرين و إرهابهم و التنكيل بهم ، وفي الاصطلاح استعمال القوة لتحقيق مصالح خاصة نابعة من احتياج صاحب القوة فردا كان أو جماعة أو دولة لموارد الآخرين وتوظيفها لمصلحة نفعية خاصة .

 

 

[أبوحسن]

من الممتع المرور بمواضيعك أخ جابر
تعجبني طريقتك في تناول مثل هذه المواضيع..

دمت بخير عزيزي

 

 

[منتدى السهلة الأدبي]

العزيز (أبوحسن) تحياتي لك بحجم جمال حروفك

أنا كذلك أشعر بمرورك الممتع على كلماتي ، فأنت تهبها بقراءتك لها لونا من الحياة، ولا شك أن سعادتي بمرورك يشبه سعادة الحقل بمرور الأطيار

لا تبخل عليّ بملاحظاتك ؛ كي أزداد سعادةً

لك ودي إلى أبد الورد

(جابر الخلف)