31-03-2010, 08:16 PM | رقم المشاركة : 1 |
منتدى السهلة الأدبي
|
من ملامح التعددية في المنطقة الشرقية ــ عبدالله بن علي الرستم
من ملامح التعددية في المنطقة الشرقية الأحساء نموذجاً عبدالله بن علي الرستمتعريف التعددية: لعله لا يوجد تعريف دقيق للتعددية، لأنها أخذت تعريفات كثيرة، ولعلّ أقرب تعريف لها، هو: التنوّع في المسألة الواحدة والتكثّر، قال الشاعر ابن نباتة السعدي (1) : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ: مثال ذلك: التعددية الدينية أي: تنوّع الدين الذي ينتمي إليه البشر، كالإسلام والمسيحية واليهودية، وكذا لو قلنا التعددية المذهبية، أي: كثرة المذاهب في الديانة الواحدة، مثال ذلك في الإسلام السنّة والشيعة. تمهيد: تعتبر التعددية بشكل عام شئ من ضرورات الحياة، وإنَّ في كل شئ تعدداً ما خلا الله عز وجل؛ لأنه واحد أحد، وبغض النظر عمَّا ورد في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة حول هذا الأمر، فإن هذه المسألة تُعَدْ من جواهر الحياة وطبيعتها، ذلك أنّها قضيّة فطريّة أشارَتْ إليها الآيات الكريمة. إن المنطقة التي تعيش فيها عدة تعدديات سواء كانت تلك التعدديات ثقافية، دينية، مذهبية ... الخ، بلا شك إنها تشكل ثقافة معينة لها أثرها على المستوى البعيد والقريب، وكذلك تؤثر سلباً وإيجاباً على أبناء المنطقة، وذلك بحسب نمط المعيشة المتخذ في ذلك، وحسب التعامل الذي يتعامل به أبناء تلك المنطقة. وفي الوقت ذاته ما زالت المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية تشهد حراكاً ثقافياً بين مد وجزر، خصوصاً لو رجعنا إلى تاريخ المنطقة لرأيناه يعيش عدة تعدديات وعدة ثقافات هي وليدة وجود الأقوام والحضارات والدويلات التي مرت بالمنطقة، وهذا ناتج عن احتضان المنطقة لهذه التعدديات باعتبارها عاشت، وما زالت تعيش في احتضان التعدديات المختلفة، فهي منطقة تجارية وزراعية وصناعية وعلمية، يفدُ إليها الآسيوي والأفريقي والأمريكي كلٌ بحسب حاجته، وهذه الوفود لها تأثيرها في استيراد وتصدير بعض العادات والتقاليد المختلفة، وكذلك اختلاف الانتماءات الدينية والمذهبية للمواطنين والمقيمين، مما دعا أهل المنطقة إلى احترام أتباع الديانات الأخرى، والمذاهب المختلفة في الدين الواحد، باستثناء بعض المسلّمات التي تعتبر خطوطاً حمراء لا يمكن لأي شخص أن يتعداها كائناً من كان. كيف نشأت التعددية ؟ لمسألة التعددية عدة بواعث وأقوال حول نشأتها، ومنها: العامل النفسي، والعامل الاجتماعي .. إضافة إلى العامل السياسي الذي له دوره الأساس والأبرز في نشوء مثل هذه الأفكار والمطالبة بتحقيقها على أرض الواقع، لأن المسألة ليست مجردة من كل شئ، بل لها أصول وجذور عند المنادين بهذه المسألة، فبعض الناس من يفهم هذه المسألة بنحو تأصيلي خاضعة لمنهج علمي، ومنهم من تختلط عليه المفاهيم، والأغلب لا يدرك منها إلا المعنى السطحي الخالي من العلم، إلا أنه لا بد في هذه المسألة الالتزام بضوابط التفكير والطرح والممارسة، يقول الفيسلوف البريطاني جون هيك: " إذا كان الخلاص هو كل ما يقوم عليه الدين، فما هو المقصود بالخلاص؟ فلا يكفي أن نعتبرها فكرة تعبدية أو غيبية، بل لا بد من فهمها بنحو متماسك عبر ربطها بقيمة وكيفية الوجود الإنساني"، علماً أن هيك "خُلقت فيه طاقةُ اندفاعٍ جديدةٍ لتأسيس تأويلٍ فلسفيٍ ولاهوتيٍ جديدٍ لجوهرِ المسيحيةِ ولشخصِ المسيح. فالتعددية الدينية لم تكن مصدر إشكالات منطقية وأخلاقية فقط، بل كانت بحسب جون هيك، مدخلاً لاكتشاف وعي ديني جديد" (2) . وسنسلط الضوء في هذه الوريقات على شئ من هذه التعدديات التي عاشتها وما زالت تعيشها المنطقة: التعددية الثقافية: نشأت عدة ثقافات في المنطقة، وهي مختلفة باختلاف أسبابها، وبشكل عام لكل مجتمع له مشارب ثقافية معينة أثّرت في ثقافته وعاداته وتقاليده إلا ما ندر، ومن تلك المجتمعات مجتمعات المنطقة الشرقية التي استوعبت واحتوت عادات وتقاليد وثقافات الآخرين وذلك لأسباب عديدة، منها: 1. اختلاف التوجهات الفكرية، فمع وجود المحافظة على العادات والتقاليد، إلا أنه لا يوجد بأس من قبول أي أمر فيه مصلحة الجميع وإن كان خارجاً عن المألوف مع إعطائه صبغة اجتماعية مقبولة، أو حلاً وسطاً. 2. كثرة الهجرات العلمية والتجارية، وهذا معروف لكل من يقرأ تاريخ المنطقة، فقد كانت هجرات علمية إلى إيران والعراق وسوريا ومصر وغيرها، أما الهجرات التجارية فكانت إلى دول الخليج وداخل الجزيرة العربية. 3. مجئ الوافدين من العمالة الأجنبية والعمل في القطاعين الحكومي والخاص وغير ذلك، كالعمالة الأمريكية والكورية والاندونيسية والفلبينية والهندية والبنجلادشية وغيرهم، وهذا له أثره الواضح في تغيّر معايشة هذه الثقافات على المدى البعيد، سواء في نمط المعيشة، أو استخدام بعض المصطلحات الدخيلة على اللهجة في الحياة اليومية. 4. الوضع السياسي الذي عاشته المنطقة في ظل دويلات وحكومات مختلفة، وذلك بدءاً من اليهودية والمسيحية قبل الإسلام وفترة وجيزة بعد الإسلام، مروراً بعمّال الدولة الإسلامية والأموية والعباسية والقرامطة وثورة علي بن محمد صاحب الزنج والدولة العيونية والوجود العثماني الأول والثاني وكذا الوجود الفارسي والهندي والبريطاني والبرتغالي وحكومة الخوالد والجبريين والعصفوريين إلى حكومة آل سعود في الوضع الحالي، كل هذه الأحداث السياسية لها تأثيرها في كل شئ يتعلق بالحياة وبنمط التفكير. 5. التزاوج بين أبناء المنطقة وأبناء دول الخليج الإمارات وقطر والبحرين والكويت ودول الجوار سوريا والعراق وإيران، وغيرها من الدول التي لا تشكل ظاهرة في عملية التزاوج، بل أفرادها يعدون على الأصابع. هذه بعض النقاط المتعلقة بتواجد عدة ثقافات مع ذكر بعض الأسباب المتعلقة بتعدد الثقافات في هذه المنطقة على سبيل الإيجاز. أما المسألة الأخرى فهي: التعددية المذهبية: قبل الولوج في قضية التعددية المذهبية، فإن هناك أمراً مهماً كان موجوداً في عهد صدر الإسلام يجب عدم إغفاله أو استغفاله وهو: التعددية الدينية، أي: وجود ديانات أخرى غير الإسلام في ظل الدولة الإسلامية، حيث ذكرت بعض المصادر التاريخية أن النصرانية والمجوسية واليهودية قد بقيت في البحرين حتى بعد الإسلام، وأنهم لا زالوا يزاولون طقوسهم ويدبرون أمورهم الدينية بحرية تامة في ظل الإسلام (3) . ودليل ذلك أن المنذر بن ساوى أرسل إلى النبي (ص) رسالة يصف فيها الوضع السائد في المنطقة، حيث يقول: ( إني قرأتُ كتابك على أهل هَجَر فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه وفي أرضي مجوس ويهود فأحدِث إليَّ في ذلك أمرَك ). فأجابه الرسول الأعظم (ص) بقوله: ( من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي: ... فمن استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا، ومن لم يفعل فعليه دينار من قيمة المعافري ) (4) . كذلك من مظاهر التعددية في عهد الرسالة قصته صلى الله عليه وآله وسلم مع نصارى نجران، حيث دعاهم إلى الإسلام سِلْمَاً، فلمَّا رفضوا دعاهم للمباهلة فرفضوا ووافقوا على دفع الجزية كعقد ووثيقة بينهم وبين رسول الله (ص)، وكذلك العهود المأخوذة على يهود بني قينقاع ويهود بني النضير ويهود بني قريضة ويهود خيبر، فقد كانوا يعيشون بحقوقهم ويمارسون طقوسهم الدينية دون إيذاء من أحد، فلما نقضوا العهود بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله، ووضحت خيانتهم وعدائهم، حاربهم رسول الله لنقضهم العهد ولعدم رغبتهم النزول على حكم رسول الله (ص). وهناك أحداث كثيرة مارسها النبي (ص) لتحقيق الأمن والأمان في الدولة الإسلامية وحفظ حقوق المنتمين إلى الديانات السماوية الموجودة في عهده مطبّقاً في ذلك شريعة السماء، وذلك نحو قوله: ( ألا لا يُقتَلُ مؤمِنٌ بكافِر، ولا ذو عهد في عهده ) (5) ، ونحو قوله: ( وإن يهود بني عوفٍ أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلمَ نفسه وأثم فإنه لا يُوتِغُ إلا نَفْسَه وأهل بيته ) (6) . ولذا لا غضاضة من وجود تعددية مذهبية، باعتبار أن غير المسلم بإمكانه العيش في ظل الدولة الإسلامية، فكيف بمن ينتمي إلى الإسلام ؟!! ولذا تعتبر مسألة تعدد المذاهب، مسألة في غاية الحساسية إذا تم تناولها من غير زاوية التعقل، باعتبار أنَّ لكل مذهب من هذه المذاهب طريقة معينة في ممارسة طقوسه الدينية رغم التشابه الكبير بينها، وإنَّ المشتركات بينها أكثر من القضايا الخلافية، ذلك لأنها تنتمي إلى ديانة واحدة وهي الإسلام، فمع وجود تعدد المذاهب عاش الناس في هذا الجزء من الجزيرة العربية عيشة الأخوّة بجميع أبجدياتها، لا فرق بين أتباع هذا المذهب أو ذاك المذهب، يتقاسمون عناء الحياة في كل حركة، علماً أن الشئ البارز على مستوى المنطقة هو: وجود طائفتين كبيرتين وهما ( الطائفة السُنّية بمذاهبها، والطائفة الشيعية بمرجعياتها )، ثم إن هناك الكثير من مظاهر الانسجام بين أتباع هاتين الطائفتين، ومنها: الحركة التعليمية: حيث كان معلمو الشيعة من النساء والرجال في الكتاتيب يعلّمون أبناء السنّة العلوم المختلفة كالقراءة والكتابة والحساب والعكس، وذلك في جميع القُرى التي يعيش فيها أبناء الطائفتين، ولعل أبرز معلّم في المنطقة هو السيد ياسين النحوي الذي تم اعتماد تدريسه من قبل الجهات الحكومية، ودرس لديه الكثير من أبناء الإخوان السنّة، وهذا ليس على سبيل الجانب الذكوري !! بل حتى على الجانب النسائي. الحركة الاجتماعية: وهذه أقوى من تلك، حيث إنّ مقومات الترابط الاجتماعي كبيرة ومتداخلة فيما بينهم، فقد كانت هناك حالة صحية في التعامل مع هذا النوع من الانسجام والترابط، ذلك أنه كانت أخوّة بالرضاع بين أبناء الطائفتين، وسبب هذه الحالة الظروف الصحية والاجتماعية التي فرضت نفسها على الواقع الاجتماعي في فترات مختلفة، وتارة لا يوجد ظروف اجتماعية ولا ظروف صحية، بل هي روح التعايش الإسلامي بين أبناء هذه المنطقة. العادات والتقاليد: وهذه فرعٌ من الحركة الاجتماعية التي أنتجت بعض التقاليد والعادات المستلّة من الدين الإسلامي، فقد كان التزاور على أوجه في المناسبات المختلفة، يواسون بعضهم في الأحزان، ويشاركون أنفسهم في الأفراح، وهذه قيم تراثية وإسلامية تكاد تندرس في الوقت الحاضر بفعل الظروف الاقتصادية وغيرها، بل إن كثيراً منها لا يتم التركيز عليها حول من سنّ هذه العادة أو تلك.. كالقرقيعان، وليلة النافلة .. وغيرهما. الخلاصة: الإيمان بالتعددية الدينية وغيرها من التعدديات أمرٌ وارد قد تفرضه البيئة بنحو من ظروف الحياة اليومية .. ولكن ليس على نحو الإجمال، بل على نحو تعدد الفهم وليس تعدد الحقيقة، وذلك بالتوضيح الذي سقناه في الحديث الآنف الذكر، وإن كان ثمة إيمان لدى البعض بوجوب التعددية فهي لفظية وليست حقيقية، وإن كانت حقيقة فهي في المحصلة النهائية تسعى إلى تحقيق التعايش وليس التعددية بمعنى التقارب الذي ينحو منحى تفعيل ما يُسمى القواسم المشتركة، ذلك أنه لا يوجد قواسم مشتركة بين الأديان، لأن كل ديانة تقول بأن الحقّ معها، والحال كذلك في عملية تعدد المذاهب وغيرها. ثم إنه في الوقت نفسه بدلاً من تكبّد العناء في البحث عن التعددية والتنظير لها، فالأجدر هو البحث عن الحقيقة قبل كل شئ، فتعدد الديانات لا أحد ينكره، ولكن لا بد هناك من حقيقة تحتاج من يبحث عنها، وذلك لاستحالة كثير من الحقائق أن تحمل وجوهاً متعددة. إضافة إلى ذلك ثمة فروقات كبيرة بين التعددية الدينية وغيرها من التعدديات التي لم نتطرق لها كالتعددية الثقافية، والقبلية، والعِرقية، والقومية ... وغيرها، فتلك لها سبيلها وطريقتها التي تختلف اختلافاً كلّياً في النظرية والتطبيق عن التعددية الدينية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: (1) الموسوعة الشعرية CD، ويأتي الشطر الثاني تارة: ( تنوعت الأسباب والداء واحد ). (2) التعددية الدينية في فلسفة، جون هيك ( المرتكزات المعرفية واللاهوتية )، د: وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم ــ ناشرون،المركز الثقافي العربي ــ بيروت ــ لبنان، ط1 ــ 1428هـ، ص51. (3) تاريخ الحركات الفكرية، الملا ص 32. (4) تاريخ الحركات الفكرية، الملا ص 56. (5) المجتمع المدني في عهد النبوة ( خصائصه وتنظيماته الأولى )، د/ أكرم ضياء العمري، مطابع الجامعة الإسلامية ـ المدينة المنورة، ص 115 (حيث يخرج لهذا الحديث لأكثر من مصدر)، علماً أنه يضعف أحاديث مشاركة اليهود مع النبي (ص) في غزواته، وهذا ليس محل بحثنا، في حين أن هناك من يقوّي مرويات مشاركة اليهود معه في غزواته (ص). (6) المصدر السابق ص 121. يوتغ: يفسد ( راجع اللسان ).
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|