الإجازة هي الشهادة العلمية لتأهيل الطالب المتلقي من قبل الأستاذ بعد إتمام ما تعلمه وإتقانه لذلك العلم، أو الفن على أتم وجه.
و ( الإجازة ) كمصطلح أول ما عُرف عند أهل الحديث (1) ، فكانوا يقولون أجزت فلان بن فلان بالرواية عني تلك الرواية أو هذه الحادثة.
أما إذا أردنا أن نتوسع في تعميم مفهوم ( الإجازة ) ككل فهي شهادة علمية يمنحها أستاذ لتلميذه كتوثيق علمي لإتمامه وإتقانه لهذا الفن وأهليته في تعليمه للآخرين .
فلا نستطيع أن نحدها بزمن معين، أو بعلم معين، إذ إن هنالك الكثير من الآثار التي تدل على منح بعض الأستاذة في بعض العلوم والفنون لتلامذتهم بشكل وآخر.
وقد تطور فن كتابة الإجازة من زمن لآخر، فلم تعد مجرد كتابة أسطر قليلة لتبيان أهلية هذا الطالب العلمية، فنرى أن تعدد الأساليب والطرق والديباجات المستخدمة في كتابة الإجازة. فهناك إجازات كتبت على الشكل النثري (2) ، وأخرى كتبت بنظم شعري (3) ، إلى استخدامها بشكل دائري أو غيرها، مما يدل على دوام تطلع الأساتذة في تجديد أسلوب وطريقة وشكل الإجازة.
ما يهمنا في هذا الموضوع تسليط بعض الأضواء على الإجازات الخطية لا سواها،وكيف كان الخطاطون يجيزون بعضهم في كتابتهم الخطية، لأنه وبالرغم أن الخطاطين من أفضل من اعتنى بفن ( منح الإجازة ) من حيث صياغة التعابير المستخدمة في الإجازة، إلى الاهتمام في إخراجها من حيث الكتابة الخطية والزخرفة الملتفة حولها.
الإجازة الخطية:
لم تكن الإجازة الخطية سابقة للإجازات الممنوحة في العلوم الأخرى، كإجازات شيوخ رواة الحديث، وعلماء القرآن الكريم، وبعض العلوم والفنون الآخر، لكنها بكل تأكيد لم تكن جديدة العهد، وأقدم ما وصل إلينا كما يذكر ذلك الشيخ الخطاط محمد طاهر الكردي في كتابه ( تاريخ الخط العربي وآدابه ) ص 342:
( ... يُقال أن الخطاط عبدالرحمن بن الصائغ هو أول من اخترع إعطاء الشهادة لمن يستحقها وتسمى عند الأتراك الإجازة أي أجيز لصاحبها بتعليم غيره. وقد كانت العادة الجارية قديماً عند الخطاطين أن لا يضع الكاتب اسمه على القطعة التي كتبها إلا بعد أن يحصل على الإجازة "الشهادة" ).
شروط الإجازات الخطية:
للإجازات الخطية شروط لابد من توفرها، منها التالي:
أن يتصل الخطاط المجيز بالخطاط المجاز اتصالاً مباشراً، والسر الكامن وراءه هو أن الاتصال المباشر مدعاة إلى تعليم الخطاط الأستاذ المجيز للطالب المجاز بعض أخطائه التي يقع فيها، ومن ثم يرى مدى استفادته في تجاوز تلك الأخطاء وكتابة ما نصحه به بالشكل الصحيح المطلوب.
وحتى بعد ولوجنا عالم الإنترنت والاتصال السريع، فإن الخطاط المجيز يصر على أن يتصل به الخطاط الطالب المجاز اتصالاً مباشراً ولو لعدة جلسات متتالية يشاهده يكتب أكثر من مرة، فإن وجده أهلاً لذلك طلب منه قطعته التي أراد أن يجيزه عليها.
لابد للطالب الذي يسعى إلى نيل شهادة ( الإجازة الخطية ) من أستاذه أن يكتب قطعةً خطية تحتوي على أكثر من نوع من الخط العربي، ويتم الاعتماد الأكبر على إتقانه لهذه القطعة على أنواع ثلاثة من الخطوط: ( خط الثلث وهو عميدها، وخط النسخ، وخط الإجازة )، والبعض يعتمد على خطين فقط: ( خط الثلث، وخط النسخ ).
أن تكون الكتابة الخطية التي يُريد الخطاط الطالب إجازتها مكتوبة وفق قواعد الخط العربي الأصيلة.
فائدة الإجازة الخطية:
كما هو حال الإجازة الفقهية من كونها الشهادة الخطية التي تأذن له الابتداء باستنباط الأحكام الفقهية، فإن الإجازة الخطية هي البوابة للإذن لهذا الطالب بوضع اسمه تحت مخطوطته، فالخطاطون لا يرتضون أن يضع الطالب المتعلم اسمه تحت كتابته إلا بعد أن يتقن قواعد الخط العربي وأصوله وأسراره، كنوع من الحفاظ على هذا التراث من العابثين؛ ولكي لا يتعلم التلميذ من قطعة خطية لا ترقى لمستوى التعلم فيتدهور حال الخط وتعلمه.
لذا كانت الإجازة البوابة الوحيدة لمن أراد أن يرتقي من كونه طالباً إلى أستاذ في هذا الفن.
طرق الحصول على الإجازات الخطية:
للحصول على الإجازة الخطية ثلاث طرق:
أولها: أن يكون قد تتلمذ على يد أستاذ بارع فترة من الزمن فأتقن قواعد الخط العربي وأصوله، ووجده الأستاذ أهلاً لأن يحصل على الإجازة فيطلب منه أن يكتب مقطوعته الخاصة، فيكتبها ثم يجيزه.
ثانياً: أن يكتب الخطاط قطعته الخاصة والتي يرغب في الحصول على إجازته، ومن ثم يريها الأستاذ فيقيمها، فإن كانت تليق بالإجازة من حيث ضبطها لأصول وقواعد الخط العربي منحه الإجازة.
ثالثاً: أن يقلد إحدى القطع الخطية المشهورة لأحد عمالقة الخط العربي فيجيد تقليدها، وذلك من ناحية طريقة كتابتها الخطية، بالإضافة إلى اشتراكها بنفس نوعية الورق والحبر وسمك الكتابة، فلا يكاد يفرق الخطاط أيهما الأصل وأيهما التقليد، فإن أتقنها أجازه الأستاذ عليها.
وهذا النوع هو أصعب أنواع الإجازات الخطية، والتي لا ينالها إلا كبار الخطاطين، وما إجازة درويش محمد أغا الفيضي، والذي قلد خطوط إسماعيل المكي. إلا نموذجا لهذا النوع من الإجازات .
أشكال لوحة الإجازة الخطية:
تعتلي الإجازات الخطية أفضل اللوحات الخطية من ناحية الإخراج والإبداع، حيث يعتني الخطاط الذي يسعى للحصول على الإجازة الخطية بالاهتمام بهذه اللوحة ( القطعة ) أيما اهتمام، حيث إنها تعتبر الشهادة العلمية التي يحصل عليها من قبل أساذته أو من قبل كبار الخطاطين المتواجدين بعصره.
لذا فإن هذه القطعة الخطية تكون مزخرفة بشكل رائع تشد نظر المشاهد لها، كما أن بعضا من الخطاطين يحرص على تذهيبها بالذهب الخالص كنوع من الاهتمام والفخر بهذه الإجازة.
وعند مراجعتي للكثير من نماذج الإجازات الخطية وجدت أن لها أشكالاً متنوعة، ولكنها تشترك عادةً في الأشكال التالية:
الشكل الأول: ويحتوي على ثلاثة حقول في القطعة الواحدة:
الحقل الأول: ويحتوي على خط ( ثلث سطري )، يكتب به كلمات معدودة: آية كريمة، أو حديث شريف، أو جزء منهما، أو حكمة مشهورة.
والحقل الثاني: يحتوي على خط النسخ الدقيق، وهو ثلث سمك
( خط الثلث ) المكتوب بالحقل الأول.
أما الحقل الثالث: فيترك فارغاً لكتابة الإجازة من قبل الأستاذ المجيز. وهذه أشهر أنواع الإجازات بالعهد القديم.
ونذكر مثالاً على هذا النوع من الإجازة إجازة الخطاط غالب الفوزي، منحت له من قبل أستاذه الخطاط سليمان الكاشفي:
كتب داخل الحقل الأول بخط الثلث السطر: ( العلم علمان، علم الأبدان ثم علم الأديان )، ثم كتب في داخل الحقل الثاني بخط النسخ: ( قال رسول الله (ص): ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ).
وكتبت الإجازة الممنوحة داخل الحقل الثالث وبسطرين: ( الحمد الله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، فلما رأيت صاحب هذا الخط غالب الفوزي قد تكمل بحسن الخط، واستحق أن يكتب اسمه تحت كتابته أجزته بتحرير اسمه تحت قطعته، وأنا الفقير على الله تعالى السيد سليمان الكاشفي ). مقاس القطعة: 22 × 15 سم.
الشكل الثاني: ويحتوي على أكثر من ثلاثة من حقول:
الحقل الأول والثاني هو نفسه بالنوع الأول، مع ترك عدد من حقول بعدد الأساتذة الخطاطين الذي يريد أن يحصل على إجازة خطية منهم، فقد يترك لثلاثة خطاطين، وقد يترك لأربعة خطاطين أو أكثر أو أقل.
وأذكر لهذا النوع إجازة الخطاط أحمد الحمدي، والذي منحت له من قبل: ( حافظ حسين الصبرين، وإسماعيل الزهدي ) سنة 1276هـ.
وقد كتب بالحقل الأساس الأعلى بخط الثلث ( حب الوطن من الإيمان )، وكتب في الحقل الثاني بخط نسخ دقيق ممتد: ( قال رسول الله (ص): أنزل القرآن على سبعة أحرف، صدق رسول الله ).
وكتبت الإجازتان داخل مستطيلين جانبهما منحنيان، ملئت الفراغات بينهما بأزهار ملونة، نصها:
ــ الإجازة الأولى: ( بسم الله الرحمن الرحيم، أجزت بوضع الكتبة لنامق هذه القطعة الميمونة المباركة المستحسنة، أعني به السيد أحمد الحمدي أفندي طول الله عمره وزاد علمه ومعرفته، ونال ما يتمناه أمين.
وأنا العبد المذنب السيد الحاج حافظ حسين الصبري، إمام جامع سليمية سنة 1276هـ ).
ــ الإجازة الثانية: ( الحمد الله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، أذنت بوضع الكتبة لنامق هذه القطعة المرغوبة الميمونة المباركة اللطيفة الخط لصاحبه السيد أحمد الحمدي أفندي طول الله عمره وزاد علمه ومعرفته آمين يا معين، وأنا المذنب السيد إسماعيل الزهدي سنة 1276هـ ).
قياس القطعة: 27 × 19 سم.
الشكل الثالث: ويحتوي على خمسة حقول في القطعة:
الحقل الأول بخط الثلث، والحقل الثاني بخط النسخ، والحقل الثالث بخط الثلث، والحقل الرابع بخط النسخ، والحقل الأخير يُترك لكتابة الإجازة من قبل الأستاذ المجيز.
وهذا النوع من الإجازة قليلة التداول، ومنها: إجازة الخطاط درويش محمد أغا الفيضي البغدادي، والتي منحه إياها الخطاط نعمان الذكائي، وقد كتب في الحقلين الأول والثالث وداخل مستطيلين ( رب يسر ولا تعسر رب تمم بالخير وبه )، والحقل الثالث ( الحروف الأبجدية من الألف وحتى حرف العين )، أما الحقلين الثاني والرابع فكتبت بخط النسخ ونصها:
( بسم الله الرحمن الرحيم. قال النبي (ص): ( ثلاث لا تقبل صلاة منهم، من تقدم قوماً وهم كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، والدبارُ أن يأتيها بعد أن تفوتهُ، ورجل اعتبد مُحرراً. اللهم ).
خط الإجازة التي منحها إياه الخطاط نعمان الذكائي:
( قد مشق نامق هذه القطعة المستحسنة درويش محمد آغا الفيضي علي إسماعيل مكي أفندي آل أراستو في خط خطه، فلما رأيته مستكملاً للقواعد أجزت له أن يكتب اسمه تحت ما ارتسمه، وأجاز غيره إذا استكمل رسمه، وأنا الفقير نعمان الشهير بالذكائي، غفر له سنة
1217هـ ).
مقاس القطعة: ( 20 × 19 سم ).
الشكل الرابع: الإجازة على كتابة الطالب الخطاط حلية نبوية، أو قطعة شعرية مدحاً للنبي الأعظم محمد (ص).
وكانت الحلية أو القطعة الشعرية في السابق تكتب على شكل سطر بخط ( الثلث السطري ) وسطر أخر بخط ( النسخ الدقيق )، وأشهر إجازة تم منحها على هذه الشاكلة تلك القطعة الرائعة للخطاط محمد شوقي سنة 1282هـ، وقد تم التوقيع عليها من قبل سبعة من الخطاطين كإجازة له، وكما هو مؤرخ في ذيل تلك القطع.
أما النوع الأشهر في العصر الحديث فهو الإجازة على كتابة الحلية النبوية الشريفة بشكلها المعروف، حقل بالأعلى يكتب بخط الثلث، أو خط المحقق ( وهو شبيه بخط الثلث ) يكتب فيها عادةً ( البسملة )، وأسفلها أربع دوائر صغيرة،يكتب فيها بخط الثلث أو الإجازة ألقاب النبي محمد (ص)، أو أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، أو اسم ( محمد، وعلي، والحسن والحسين ).
وتتوسط هذه الدوائر الأربعة دائرة كبيرة يكتب فيها بخط النسخ الدقيق وصفاً للنبي الأعظم (ص) مستقى من كلامٍ للإمام أمير المؤمنين (ع).
وفي أسفل هذه الدائرة الكبيرة وما حولها من دوائر أربع، حقلاً مستطيل الشكل، يكتب به عادةً: الآية الشريفة ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) أو الآية الشريفة ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).
وفي الأسفل منها مستطيل يُكمل ما تم من وصفٍ للنبي (ص)، وبهذا المستطيل نفسه يتم كتابة الإجازة، أو بمستطيل أخر أسفله.
وكان ممن مُنح الإجازة الخطية على نفس هذه الأسلوب والطريقة الخطاط هاشم محمد البغدادي من قِبل أستاذه ــ أخر عباقرة الخط العربي بتركيا ــ الخطاط حامد الآمدي.
وقد كتب الأستاذ حامد في منحه للإجازة: ( بسم الله الرحمن الرحيم، ولي التوفيق ونعم الرفيق، وبعد فلما كان نامق هذه القطعة الميمونة أعني به السيد هاشم محمد البغدادي وقد رأيت قواعد هذه القطعة موافقة لم اسم البراعة المرغوبة على القواعد المرضية، يعني مرسومة على حدود واضع الأصل. أجزت أن يكتب اسمه تحت مكتوباته، زاد الله عمره معرفة، أمين يا معين، وأنا المذنب موسى عزمي المعروف بحامد الآمدي، غفر الله ذنوبهما ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
الهوامش:
(1) ذكر هذا أسامة ناصر النقشبندي، في إجازات الخطاطين، ص 15.
(2) انظر رحلة ابن جبير، ص 179.
(3) انظر ديوان صفي الدين الحلي، ص 481، وتاج العروس، ص 5، ص 369.