الاحتكاك الحضاري
ففي الفترة التي صار فيها السلاطين العثمانيون يستعيرون القوانين الغربية فاتحين بذلك أفقاً جديداً من الاحتكاك بالثقافة الغربية التي طرحت مفاهيم الحد من سلطة الحاكم وحق الشعوب ولكن من منطلق الثقافة الغربية، ولهذا تزايد البحث عن جذور للحرية في الثقافة الإسلامية الى جانب محاولات تركيب مفاهيم ملفقة من التراث ومن الثقافة الغربية وبمرور الزمن صارت مشكلة الحرية تطرح نفسها بقوة في إطار محاولات النهوض.
ومع وجود محاولات التوفيق وجدت أيضاً محاولات لانتزاع مذهب في الحرية يستند الى الرؤية الإسلامية الأصيلة، ولهذا برزت من جديد مشكلة تعدد التصورات، فصرنا نواجه اتجاهاً يدعوا الى استعارة الرؤية الغربية واتجاهاً توفيقياً وثالثاً يدعو للعودة الى المنابع وهو طبعاً أعاد البحث من جديد في التيارات التي انطلقت في الصدر الأول للإسلام، وبذلك انحصرت المشكلة بدءاً في اختيار النظام السياسي فهل يصار الى نقل التجربة الغربية ام يتم الاعتماد على شكل توفيقي ام العودة الى النظام الإسلامي بنوعيه الشوروي أو التعييني.
وبالنظر لما هو سائد من أفكار يواجه مذهب التعيين للحاكم من قبل الله نقد لأنه يقاس على منظومة الحقوق الغربية التي ترفض (الحق الإلهي) الذي يعني سلب حرية المواطن في اختيار السلطة التي تمثله، بينما يبدو النظام الشوروي الذي يحكم فيه أهل الحل والعقد أكثر قرباً من الأوضاع السائدة في العالم المعاصر الذي يروج فيه الحديـث عن الديمقراطية، ولهذا فان البحث بدقة عن الفوارق من زاوية معيارية يصبح فيها النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي على طاولة واحدة مطلوب لأجل إثبات التطابق مع النظام القيمي وقدرة هذا النظام على تحقيق العدالة، خصوصاً ان النظام الديمقراطي لا يدعي قدرة مطلقة على تحقيق العدالة بل إن اكثرما يدعيه انه استطاع ان يقلص من فرص الظلم الاجتماعي وهذا امر يستوي فيه مع بقيه الأنظمة.
رؤية في النظام الديمقراطي
كما ان هناك الكثير من الثغرات تواجه النظام الديمقراطي على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي والتطبيقي وبالتالي فهو يواجه صعوبات جدية ويتم التغاضي عن تلك الصعوبات، فمثلا لحد الآن لا يستطيع منظرو الديمقراطية الإجابة على سؤال مفاده (متى تشكل مجموعة من الأفراد كياناً (شعباً) جديراً بحكم ذاته ديمقراطياً)[6] ، إذ ان تطبيق الديمقراطية يحتاج الى مجموعة من الناس تعي حقوقها ثم تمارسها وهذا أمر ليس متوفراً دائماً، اذ يؤكد (العديد من المنظرين عبر التأريخ على ان الديمقراطية ما كانت ممكنة حقاً إلاّ في حالات امتلاك الجماهير للكثير من المعلومات والحنكة السياسية)[7] ، مع أن النموذج الأمريكي للديمقراطية يعاني صعوبة من حيث (قدرة الأمريكيين التي تقل يوماً بعد يوم على المشاركة في القرارات السياسية التي تؤثر في حياتهم. إن القرارات المصيرية يتم اتخاذها في واشنطن.. هذه القرارات يتم إعدادها بواسطة خبراء في الاقتصاد وخبراء عسكريين.. أما دور الجمهور في تشكيل هذه القرارات فانه يتضاءل يوماً بعد يوم)[8]
والخلاصة أن الديمقراطية يشار اليها من خلال معالم قائمة في الممارسة وفي الإطار النظري وفي الأهداف حيث (يعزى وجود الديمقراطيات الجماهيرية المعاصرة الى اختراع عصري نسبياً ألا وهو الحكومة التمثيلية، فمنذ زمن الإغريق القدماء وحتى عصر روسو كانت الديمقراطية تعني المشاركة المباشرة في شؤون الحكم)[9].
كما إنها (تفترض مسبقاً ثلاثة أنواع من المساواة الأخلاقية الذاتية (الحقيقية) لكل الأشخاص والتي تعبر عنها فريضة ان الأشخاص البالغين مخولون للحصول على استقلالهم الذاتي من خلال تقديرهم لما هو الأفضل لانفسهم، ويتبع ذلك المساواة السياسية كما قدرتها المعايير الخاصة بالعملية الديمقراطية)[10] ، وهي تنحو نحو تحقيق العدالة، ولذلك (فلن تضع العملية الديمقراطية اقل من متطلبات العدالة التوزيعية)[11] ، اذ ان الجميع مشاركون في صناعة الخير وبالتالي فهم شركاء بالانتفاع منه.
وفي ظل هذا الغموض حول الكثير من الجوانب النظرية للنظام الديمقراطي فإننا نجد تركيزاً من اغلب المنظرين على بعض المعالم من قبيل الاتفاق (على أن تركيز السلطة خطر لابد من تلافيه دائماً إلاّ انهم يختلفون في كيفية معالجة المشكلة)[12] ، ولهذا حاول البعض بواسطة (فكرة الفصل الدستوري والمؤسساتي للسلطات الى ثلاثة فروع رئيسة: هي التشريعية والتنفيذية والقضائية.. وعليه ينبغي وضعها في مؤسسات منفصلة كل منها تقوم بوظيفة مراقبة السلطتين الأخريين)[13].
بينما لا نجد في أصل الديمقراطية مثل هذا التصور، لكنه نشأ عندما آلت (دولة المدينة) الى الزوال بفضل الدولة القومية وفي تحول ديمقراطي ثان انتقل مفهوم الديمقراطية من اطار دولة المدينة الى مجال الدول القومية الأكثر سعة. وكان من شأن هذا التحول بروز مؤسسات سياسية جديدة الى حيز الوجود والى هذا الجمع الجديد من المؤسسات نشير بشكل عام بعبارة ديمقراطية)[14].
فالديمقراطية نظام سياسي لــم يتحدد بدقة رغــــم مرور فترة طويلة على ولادته، ومما يعتبر سبباً مهماً في عدم فهم ما نعنيه بالديمقراطية في عالم اليوم هو إنها تطورت عبر الآلاف من السنين وانبثقت من أصول متنوعة وأن ما نفهمه من عــبارة (ديمقراطية) يختلف عما تعكسه من مـــعنى لأي من مـــواطني أثينا إبان حكــم بيريكليس. وقد امتزجت المفاهيم الإغريقية والرومانية وتلك الخاصة بالقرون الوسطى وعصر النهضة مع مفاهيم القرون اللاحقة لتخرج بخليط غير منتظم بجمع الجانب النظري والممارسات العملية ويفتقر في اغلب الأحيان الى الانسجام[15].
والنتيجة التي يصل إليها البحث هو أن التشابه لا يسوغ الوصول الى أحكام، وكما يتصور البعض بوجود نقد للإسلام فإن هناك نقوداً أكثر أهمية توجه للديمقراطية وأن النظام الديمقراطي ليس ديمقراطياً دائماً اذ انه يخرج عن الأبعاد التي تتبناها الديمقراطية حيث تقوم الأنظمة الغربية على فرض الإلحاق بها بواسطة الإكراه ولا تعترف لهذه الشعوب بحق تقرير المصير.
ولعل الإسلام وحده يستطيع الإدعاء بأن فرص تطبيقه لا تزال قائمة ذلك أن الفترة القصيرة التي كان للقانون أو النظرية حضور لم تسمح بإبراز حقيقة هذا النظام على ان ما ينسب من الخير والتطور البشري سواء في العالم الإسلامي وخارجه بما في ذلك العالم الديمقراطي يعود الفضل فيه الى حكم الإسلام، ولهذا فان الحرية في الإسلام جديرة في بحث أكثر جدية لاستجلاء معالمها كما يبينها العلماء من اجل الوصول الى مزيد من التكامل بالنسبة للتجربة البشرية والوصول الى عالم أكثر عدالة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الديمقراطية ونقادها رو برت دال ترجمة نمير عباس مظفر مراجعة د. فاروق منصور دار الفارس للنشر والتوزيع سنة 1995، ص517.
[2] راجع النظم السياسية والحريات العامة الدكتور أبوا لزيد المتين مؤسسة الشباب الجامعية الإسكندرية، ص24.
[3] نفس المصدر، ص23.
[4] الحرية الإسلامية للإمام المرجع السيد محمد الشيرازي مؤسسة الرابطة الإسلامية للنشر والاعلام دار الفردوسي، ص 36.
[5] نفس المصدر، 36.
[6] الديمقراطية ونقادها ـ مصدر سابق، ص517.
[7] دور المواطن في الديمقراطيات الغربية! ترجم بإشراف وتحرير د. احمد يعقوب المجدوبة. شارك في الترجمة محفوظ الجبوري تأليف رسل جيه. دالتون. بيروت. لبنان سنة 1996، ص39.
[8] الديمقراطية وقرار الجماهير، تأليف دانييل بانكلوفيتش، ترجمة كمال عبد الرؤوف صادر عن الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية القاهرة 1993، ص16.
[9] دور المواطن في الديمقراطيات، مصدر سابق، ص236.
[10] الديمقراطية ونقادها، مصدر سابق، ص518.
[11] نفس المصدر، ص518.
[12] نفس المصدر، ص51.
[13] نفس المصدر، ص13.
[14] نفس المصدر، ص13.
[15] نفس المصدر، ص13.