بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و آله الطاهرين .
وبعد . . .
" إن الأثر القصصي ينبغي أن يكون انطباعا مباشرا عن الحياة "
جميس جويس
" لا بد أن يكون ( القاص) قادرا على تصوير الفرح كقدرته على تصوير الألم "
جبرا إبراهيم جبرا
القصة و القصة القصيرة و القصيرة جدا (الأقصوصة) و الرواية لها أصولها وجذورها الممتدة في عمق الزمن مع رعاية الاختلاف الملحوظ فيما طرأ عليها من تطور فني و شكلي ,وعلى سبيل الإشارة إلى تلك الأصول نذكر بعضها :
مقامات الحريري
بديع الزمان الهمداني
ألف ليلة و ليلة
كليلة و دمنة
الأساطير الشعبية من قلب الجزيرة العربية
و فوق ذلك كله القصص القرآني الكريم و الهدي النبوي الشريف الأمر الذي يعكس الدور الكبير الذي تلعبه القصة في حياة الأمم و الشعوب مكونة و مشكلة ثقافته و مرسية قواعده في التربية و التعليم .
و بيئتنا الأحساء تمثل مناخا جميلا و أرضا خصبة نبتت فيه القصة بأصنافها المتعددة من قاصين من الجنسين رجالا و نساء و من بين أولئك الأدباء القاصين الذين أسهموا في نمو هذا الفن الأدبي الجميل في هذه المنطقة الأحساء وأحد أبنائها المبرزين السيد حسين العلي في مجموعته القصصية " سفر المرايا " و هذه المشاركة احتفاء بهذا الإصدار . . .
" سفر المرايا " للقاص الأحسائي السيد حسين العلي يضم بضعا و عشرين قصة ضمن مئة و ست عشرة ورقة , تلك المجموعة القصصية تعكس بمراياها أشخاصا و أحداثا زمانا ومكانا و . . . أحوال المجتمع الذي يحيط بالقاص من خلال سرد قصصه الرائعة و التي أسهم القاص في تجليتها ببيان جميل و خيال مجنح , في لغة سهلة عذبة متدفقة بعيدة عن الصنعة و التكلف و هذا طابع عام في مجموعته القصصية " سفر المرايا " .
لم أطلع على هذا السفر إلا بعد أن بعث إلي أخي الأستاذ : جابر الخلف نسخة منه للقراءة الناقدة التي نستهدف من خلالها الاستفادة لنا . فقرأت المجموعة مركزا على بعضها - لضيق الوقت - , فكانت ثمرة القراءة بعض المرايا التأملية التي اجتذبني اليها الكاتب بأسلوبه فاسترعتني فيها جوانب تستحق التأمل و الوقفات و إليكم بعض هذه الوقفات :
الوقفة الأولى : وَسْم هذه المجموعة " سِفْر المرايا " " السِفر بالكسر : الكتاب و قيل هو الكتاب الكبير . . قال الزجاج : قيل للكاتب سافِر و للكتاب سِفر لأن معناه أنه يبين الشيء و يوضحه " لسان العرب بتصرف
" المرآة بكسر الميم : ما ينظر فيها و جمعها المرائي و الكثير المرايا " اللسان . و أحسب أن القاص قد وفق في اختيار هذا الاسم , فإن من يقرأ مجموعته يعرف المغزى الذي يرومه الكاتب في نقل الواقع الاجتماعي بصدق و شفافية دون الحاجة إلى المزايدة و خلق الأساطير وإغراق في الخيال , و ما كان فيها من خيال رائع إنما وظفه الأديب القاص في خدمة فنه الذي اختاره لإيصال رسالته . . .
الوقفة الثانية : الشخصيات في" سفر المرايا "
الشخصيات في القصة : هي الأوعية التي يصب فيها القاص أفكاره . و الشخصية التي مثلت مسار الأحداث في " سفر المرايا " هي شخصية الكاتب , و هي الممثلة للأحداث غالبا و هناك شخصيات أخرى تلعب دورا هاما في أحداثها كما يلاحظه القارئ في قصة " ذلك الباب الموارب . . " ص 97 حيث الأم و العمدة و زهرة و مريم وو . . . و الشخصيات بأبعادها , سواء البعد الاجتماعي أو النفسي أو الجسدي كلها قد وظفها الكاتب في قصصه حسب حاجته إليها و لعلها مجتمعة في قصة " ذلك الباب الموارب " و قصة " عطش الماء " ص 71
الوقفة الثالثة : الزمكان
الزمان و المكان في سير أحداث القصة واحد و قد يتعدد و هذا ما يطالعنا في قصة " المدرس " ص 13 و قد يكون خياليا متعددا حسب رؤية القاص و حاجته .
الوقفة الرابعة : الأحداث و الوقائع
تبدأ بأسلوب من الأساليب الخبرية أو الإنشائية و تأخذ في النمو و التصاعد حتى تصل لحظة التنور و الحبكة في تماسك بنائي جميل .
الوقفة الخامسة : توظيف الأشكال الفنية
المجموعة القصصية تشتمل على أشكال فنية أضفت بعدا جماليا وظفه الكاتب في مجموعته القصصية و سأشير إلى بعضها على سبيل الاستشهاد منها :
( أ ) المونولوج : ( أي حديث النفس ) على الرغم من أنه شكل من أشكال المسرح إلا أن القاص لا يفتأ و لا ينفك يستخدمه في قصصه بين الحين و الأخرى و مثال ذلك القصة بعنوان " رجل " تلك القصة التي تحكي تقمص المرء رداء ليس له و ليس فيه له نصيب منه حيث ادعي مهنة ليس مهنته الأساس . . و مطيته في ذلك الكذب الصراح الأمر الذي يفقده ثقة الآخرين و إن حاول معاودة الثقة فكما يقال يستطيع بعض الناس أن يشتري غيره من الضعفاء بالمال لكنه لا يستطيع أن يكسبهم ثقته لأنها جوهر كامن و معدن أصيل لا يتلون . . . في هذه القصة مونولوج جميل وظفه القاص اسمعه من خلال أحداث قصته " رجل " [ قلت لنفسي يجب أن أواصل الصراخ أو الحديث عن نفسي بصوت جهوري في هذا الظلام . فأنا وحدي و هذه ليست شكوى و لا استعطاف مشاعر الآخرين , فحضور الآخرين له ثمنه و أنا لا أطيق تحمله , لهذا أغلقت حتى نافذتي و حرمت عيوني من رؤية ذلك الجسد الممشوق . . .
أضحك على نفسي الآن ...
لهذا التصور , أنا رجل كل جسد عندي لذيذ و دافئ و شهي و ممشوق حتى أمل منه .
المهم الآن ماذا أقول لنفسي حتى أهرب من شعور المرارة الذي خلفه كذبي . . ؟ "
ص26
( ب ) المونودراما : و هو أيضا شكل مسرحي كالمنولوج لكنه أوسع أداء منه . . استخدم القاص هذا الشكل المسرحي في قصته " مرايا الكلام " تأمله و هو يتحدث قائلا : ( يخونني التعبير كلما أردت سرد الحكاية . . . سيدي أنت تحدث نفسك في المرآة منذ ساعة ) ص 31- 41
الوقفة السادسة : الخيال المجنح و السريالية
يحتاج القاص للخيال احتياج الشاعر للمبالغات فيطير مع الخيال أينما طار لكن القاص هنا استفاد من عنصر الخيال ليضفي على قصصه لمسة فنية جميلة تخرجه في حلة قشيبة كما استخدم عنصر السريالية ( تفاصيل حلم ) و أحسبها امتداد لذلك الخيال فهي أحلام يقظة نجد هذا في قصته ( جيران ) ص 43 يقول : " منذ ولدت و أبصرت عيوني الحياة و والدي يعلمني كيف أقبل يد و رأس الشيخ و يقول لي دائما يا بني هذا أبوك الروحي . . . أفزع من أثر حلم أثر في داخلي حلم حلم الأول أفرع من فراشي فأجد المرآة صامتة بجواري ) ص 43 – 49
الوقفة السابعة : تأمل مجرد
القصة " عطش الماء " ص 71 فيها نقد اجتماعي لمن يتعامل مع المرأة كجسد مجرد لكنه ليس الجسد المباح بل الجسد المستغل – بفتح العين – إنه جسد الخادمة – أحد أبعاد الشخصية – التي جاءت طلب قوتها لتواجه به مصاعب الحياة إنه يهم بترحيلها لكنه يكر راجعا ليبقيها في بيته فريسة ينتظر الفرصة المناسبة ( لأن الماء لن يرتوي من الماء ) إنها حقيقية يعيشها بعض الناس غير أن الصمت الواجم هو الذي يخفي كثيرا من الحقائق .
القصة " ذلك الباب الموارب " ص 97 ضمن النقد الاجتماعي ترسم من خلال تفاصيلها الصورة الوحشية التي يمارسها الأقوياء ضد الضعفاء مستغلين المرأة سلعة رخيصة لهم , تعقبها نتائج وخيمة خلفتها يد الجريمة . . إنه المشهد المؤلم لتلك اليتيمة التي اغتصبها العمدة بصورة وحشية فغدت ضحيته و حين هتفت صارخة كان الرجال حائرين كيف ينادون العمدة و هو مختبئ في البيت و كيف يكشفون السر و زهرة اليتيمة لا أحد لها إنها حياة الغاب التي لا تعرف الرحمة ...
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم
قصة جمعت أبعاد الشخصية اجتماعي نفسي جسدي
الوقفة الثامنة : ملاحظات عامة
يقول العماد الأصفهاني : " أني رأيت أنه ما كتب أحدهم في يومه كتابا إلا قال في غده : لو غُيّر هذا لكان أحسن و لو زيد ذاك لكان يستحسن , و لو قُدّم هذا لكان أفضل, و لو تُرك ذاك لكان أجمل و هذا من أعظم العبر و دليل على استيلاء النقص على جملة البشر "
لدي ملاحظتان :
الأولى : ما يخص التسمية
فمعلوم لدى القلص القارئ . . . ان الاسم له دور كبير في إيصال الهدف المطلوب للمتلقي فمثلا اسم " زهرة " في مقام الذل والإهانة غير مناسب في نظري و إن ورد صفة في موضع آخر في نفس القصة . . .
الثانية : الأخطاء المطبعية
أود أن أشير إلى بعض الأخطاء المطبعية :
- " لون أبيض و ليس أبيضا " ص 21 و الصحيح ( و ليس أبيض ) بالفتح لأنه ممنوع من الصرف .
- " ترددت لا أعرف لما أنا متردد " و الصحيح ( لِمَ ) بكسر اللام و فتح الميم لدخول حرف الجر على ( ما ) الاستفهامية .
- " . . . وهذا الذي أود أن تعرفون اليوم . . . " و الصواب ( أن تعرفوا ) فعل مضارع منصوب و علامة نصبه حذف النون . .
- " سبحان الله حتى إن وجهينا متقابلين . . " و الصواب ( متقابلان ) خبر إنّ
- " . . . و نعود دون أن يشعر بنا أحدا " و الصواب ( أحد ) فاعل مرفوع ص 99
و أخيرا يبقى كتاب [سفر المرايا] كتابا رائعا في فنه , جميلا في أسلوبه , صادقا في و صفه . . . قدمه القاص السيد رسالة تعكس بمراياها الحقيقة كما هي إنها الغيرة التي انطلقت من عاطفة صادقة لتسهم في بناء مجتمع نقي وراقٍ و سليم من المعاول الهدامة . .
" سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين "
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
* حسين علي البوصالح