![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 1 |
طرفاوي بدأ نشاطه
|
![]() بين السيِّد الشهيد محمَّد باقر الصدر والسيِّد الشهيد محمَّد الصدر المقارنة على أساس الحفر الآركيولوجيِّ لمشروع الصدرين كتابات - باسم الماضي الحسناويّ إنَّ مساحة الإنتشار الواسعة لفكر السيِّد محمَّد باقر الصدر [قده] في الأوساط الفكريَّة والفلسفيَّة بمختلف تياراتها واتجاهاتها ومدارسها الإيديولوجيَّة المتنوِّعة إنما تعود أسبابها إلى جملةٍ من الظروف والملابسات الموضوعيَّة التي توفَّرت لفكر السيِّد الشهيد محمَّد باقر الصدر، بعضها عائدٌ إلى شخصيَّة السيِّد الشهيد نفسه ومنهجه التفكيريِّ الخاصّ، مضافاً إلى المرحلة الزمنيَّة التي احتضنت إبداعه الفكريَّ والفلسفيَّ والفقهيَّ والأصوليَّ على حدٍّ سواءٍ، وبعضها الآخر عائدٌ بشكلٍ مباشرٍ إلى ما تهيَّأ لفكره بعد استشهاده [قده] من الظروف والإشتراطات التي كانت ذات فاعليَّةٍ وتأثيرٍ كبيرين في أن يصبح فكره الإسلاميُّ النيِّر محطَّ الإهتمام الواسع والكبير في مختلف الأوساط الحوزويَّة والثقافيَّة والأكاديميَّة في العالم، وبإمكاننا أن نشير إلى تلك الظروف الخاصَّة الداخلة في تكوين شخصيَّة هذا المفكر المبدع وفكره، بالإضافة إلى الإشارة المفصَّلة كذلك إلى الظروف العامَّة التي كانت تنتمي إلى خارج مدار الذات بالنسبة له ضمن محاور نجملها في هذه النقاط: النقطة الأولى: بالإمكان القول إنَّ السيِّد الشهيد محمَّد باقر الصدر [قده] قد مارس الكتابة الإبداعيَّة الفلسفيَّة والإيديولوجيَّة في وقتٍ مبكرٍ من حياته المباركة، إبان العهد الملكيِّ في الفترة التي مثلت ضعفه وبوادر انهياره، إذ قلَّت فاعليَّة الرقابة على المنشورات والمطبوعات إن لم نقل إنها انعدمت تماماً. آية ذلك أنَّ الكثير من الأحزاب والتنظيمات السياسيَّة التي كانت تعلن عداءها للسلطة الملكيَّة بشكلٍ واضحٍ وسافرٍ كانت موجودةً بفروعها المتعدِّدة بلا خوفٍ أو حذرٍ من الحكومة، وما ذلك إلا بسبب أنَّ الضعف وأمارات الإنهيار كانت فاعلةً وواضحةً في جسد السلطة إلى الحدِّ الذي أجبرها على التعامل بتسامحٍ كبيرٍ مع هذه الأحزاب والتنظيمات السياسيَّة المناوئة التي لو كانت السلطة في غير حالتها تلك قويَّةً ومتمكنةً من الإمساك بمقاليد الأمور بقبضةٍ من حديدٍ لما ترددت لحظةً في قمعها وإزالتها من خارطة الوجود. وبعد سقوط النظام الملكيِّ في العراق تعاقبت حكوماتٌ لم تكن دكتاتوريتها تصل إلى الحدِّ الفظيع الذي كانت عليه سلطة البعث الجائرة، خاصَّةً في الفترة التي أعقبت تولي صدام حسين للسلطة، حيث دفع السيِّد محمد باقر الصدر نفسه الشهيدة ثمناً للموقف الجهاديِّ الصلب الذي تمسك به حتى الرمق الأخير من حياته. فما نريد تركيز الضوء عليه من خلال هذه النقطة هو الإختلاف الكبير بين ملابسات الشرط الزمانيِّ الذي اكتنف حياة السيِّد محمد باقر الصدر من حيث الفترة التي استوعبت سنيَّ الإبداع عنده، وبين الشرط الزمانيِّ الآخر الذي اكتنف حياة السيِّد محمد الصدر [قده] من حيث الفترة العصيبة التي اكتنفت سنيَّ إبداعه وكتابته الفكريَّة في مختلف مجالات الإبداع المتشعِّبة لديه، حيث كان نضوجه الفكريُّ الكبير متزامناً تقريباً مع قوة شكيمة الدولة الإستبداديَّة بقيادة البعث، إذ إنه شرع في كتابة الموسوعة المهدويَّة العظيمة التي هي من مؤلفات شبابه في السبعينات من القرن المنصرم، وشرع في تأليف كتبه الأخرى سواءٌ الفقهيَّة أو الفكريَّة والفلسفيَّة والتفسيريَّة الأخرى في الزمن الذي أعقب ذلك في ظلِّ ظروفٍ لا يعرف مرارتها إلا من عاش تفاصيلها الماسأويَّة إبان اشتداد الأزمة بعد إعدام المرجع الشهيد محمد باقر الصدر وانطلاق شرارة الحرب مع إيران، فمن الطبيعيِّ أن تكون منهجيَّة السيِّد محمد الصدر متأثرةً ونابعةً من الرؤية الحصيفة للتعامل مع ظروف الدكتاتوريَّة العصيبة تلك، فكان أن اختار لنفسه [قده] هذه المنهجيَّة الإبداعيَّة الجديدة الفريدة التي وإن لم تكن لتوجد لولا ما تستدعيه تلك الظروف من التقيَّة المكثفة والكتابة الغامضة والمركزة، إلا أنها كانت سبباً أيضاً في رأيي لأن يكون النصُّ الإبداعيُّ الصدريُّ في مختلف الموضوعات عند السيِّد محمد الصدر مفتوحاً على عوالم من الإبداع والفكر والرؤى والفلسفة والإلهام لا تقع تحت طائلة العدِّ والحصر في الكثير من الأحيان، لكنَّ هذه الخاصيَّة رغم ما يقال عن حسناتها الأكيدة لا يمكن أن تكون نافعةً ولا ملهمةً إلا بالنسبة إلى العدد القليل من المفكرين الموسوعيين الذين تنقدح في رؤوسهم عشرات الأفكار الخارقة بمجرد ملامسة أذهانهم لتلك النصوص والكتابات، لكنَّ الشريحة الأكبر من المثقفين مهما قيل عن مستواهم الثقافيِّ ليسوا على هذه الدرجة من سعة الإطلاع والموسوعيَّة، لذلك تراهم يجدون صعوبةً كبيرةً في هضم هذه الكتابات من خلال القراءة السريعة المتعجلة أو من خلال القراءة السطحيَّة الأولى، ناهيك عن العجز الحقيقيِّ الذي يكونون عليه عن التوصل إلى المعاني والدلالات الواقعيَّة العميقة بالنسبة إلى العديد من الأطروحات والأفكار المبثوثة في مطاوي كتب السيِّد الشهيد محمد الصدر [قده] علماً أنها تقع في الصميم من الفكر الفلسفيِّ الحديث وإشكالياته العديدة وأطروحاته ومدارسه المختلفة والمتنوِّعة، حيث يزعم الغالبيَّة العظمى من هؤلاء الإطلاع الواسع والتبحُّر فيه. بينما لم يكن الحال على هذه الدرجة من الصعوبة والعسر في علاقة هؤلاء بشطرٍ واسعٍ ومهمٍّ من كتابات السيِّد الشهيد محمد باقر الصدر ومؤلفاته الفلسفيَّة خصوصاً، فلقد كتبت مؤلفاته بلغةٍ واضحةٍ تؤدي مقاصدها بلا كثير عناءٍ أو تكثيفٍ في عباراتها وتراكيبها، مضافاً إلى أنَّ منهجيته لم تكن قائمةً على أساس تضمين النظريات الفلسفيَّة والأطروحات الفكريَّة الخاصة به في ثنايا ومطاوي الكتب والمؤلفات المخصصة للبحث في موضوعاتٍ مغايرةٍ وبعيدةٍ عن نوع تلك الإشكاليات والأطروحات، فلكلِّ كتابٍ من كتبه تقريباً غايةٌ محددةٌ وواضحةٌ من أوَّل الكتاب إلى آخره، لا يبتعد فصلٌ عن فصلٍ فيها من حيث الغاية والهدف في الإرتقاء بالمستوى البحثيِّ المنهجيِّ للفكرة المطروحة التي تشكل مداراً مركزياً وحيداً للبحث بمجمله، كما هو الحال مع كتاب [فلسفتنا] أو مع كتاب [اقتصادنا] أو مع كتاب [الأسس المنطقيَّة للإستقراء] ...إلخ. فلو استثنينا كتاب موسوعة الإمام المهديِّ وقليلاً من كتب الشباب الأخرى ككتاب [حقوق الإنسان] فلن نجد كتاباً آخر مؤلفاً طبقاً لهذه المنهجيَّة، بسبب ظروف التقيَّة المكثفة الصعبة كما قلنا، وبسبب الطابع المرجعيِّ الواضح الذي طبع شخصيَّة السيِّد الشهيد محمد الصدر منذ فترة الثمانينات، حيث كان يشعر بالمسؤوليَّة الملقاة على عاتقه في خدمة العلم الحوزويِّ نفسه وتجديده باتجاه ما كان يؤمن به من المضامين التقدميَّة التي شكلت فيما بعد المعالم الرئيسيَّة والمحددات المنهجيَّة لما أطلق عليه اسم [الحوزة الناطقة]. لذلك فإنك تراه قد سعى إلى كتابة فقهٍ جديدٍ ينزاح أكثر فأكثر نحو الهموم والفلسفة الإجتماعيَّة، بحيث انه كان يستهدف بالإضافة إلى الغاية التقليديَّة في إطلاع المثقَّف المسلم على الفتاوى الفقهيَّة وطرائق الإستدلال عليها بأسلوبٍ بسيطٍ ومختصرٍ غايةً أخرى لا تقلُّ أهميَّةً عن هذه الغاية الرئيسيَّة إن لم تزد عليها، وهي أن يكون المثقفون المسلمون من الشباب خصوصاً مطلعين على التحليل العلميِّ والتفكيك الموضوعيِّ للأطروحات التي تتألف منها الفلسفات الغربيَّة بمختلف مدارسها التي تختلف قليلاً أو كثيراً مع توجهات الإسلام وفقهه وفلسفته ومنهجه في الحياة. النقطة الثانية: كانت مؤلفات السيِّد الشهيد محمد باقر الصدر استجابةً واقعيَّةً لنوعٍ من التحدِّي كان موجوداً بالفعل في الساحة الإسلاميَّة عموماً، وفي الساحة العراقيَّة على وجه الخصوص، وكانت تلك الحقبة الزمنيَّة المحدَّدة التي ظهرت فيها مؤلفات السيِّد الصدر الأوَّل حقبةً غاصَّةً بالمدارس والإيديولوجيات الكبرى التي يشكل كلٌّ منها هرماً فلسفياً قائماً بذاته، بحيث يكون لكلِّ مدرسةٍ فلسفيَّةٍ أو إيديولوجيَّةٍ في العالم الحديث آنذاك تخومٌ لا يتعداها ولا يسمح لنفسه بالإنفتاح على الإتجاه الآخر الذي غالباً ما يكون متقاطعاً معه بشكلٍ كلِّيٍّ، فلا تقف مدرسةٌ فلسفيَّةٌ مع الأخرى على أرضيَّةٍ مشتركةٍ إلا نادراً وفي القليل من التفاصيل والجزئيات، على خلاف الأمر في العقود القليلة اللاحقة، حيث انتهى عهد الإيديولوجيات الكبرى المستقلة المتقاطعة تقريباً، منذ الفترة التي بدأ فيها التصدُّع يتسلل إلى الماركسيَّة والأحزاب الشيوعيَّة في الإتحاد السوفيتيِّ وغيره، أي منذ مطلع الثمانينات على وجه التقريب، حتى انتهى الحال بالإتحاد السوفيتيِّ إلى التفكك والتحلل النهائيِّ في أعقاب حرب الخليج الثانية مباشرةً، حيث انتهى عصر الإيديلوجيات الكبرى المتقاطعة إلى الأبد، وانفرد المارد الأمريكيُّ بالعالم، ليطبق عليه قسراً النهج الليبراليَّ الأمريكيَّ المراوغ، حيث أصبحت اتجاهات التفكير الإيديولوجيِّ في العالم تميل إلى التعايش النسبيِّ أو الكلِّيِّ مع هذا النهج الغالب بحكم ما يسيطر عليه من عناصر القوَّة والغلبة الماديَّة في مختلف المجالات العسكريَّة والسياسيَّة والإقتصاديَّة والإعلاميَّة ....إلخ. إذن، بما أنَّ تلك الفترة التي كتب في إبانها الصدر الأوَّل مؤلفاته الفلسفيَّة المهمَّة المعروفة هي فترةٌ يشكل التفكير الإيدلوجيُّ المدرسيُّ السمة البارزة فيه، فمن البديهيِّ ومن المناسب جداً أن يتجه الفلاسفة والمنظرون المسلمون من طراز السيِّد الشهيد الصدر الأوَّل والشهيد مرتضى مطهري والمماثلين الآخرين هذا الإتجاه نفسه في كتابة المؤلفات ذات السمة المدرسيَّة التخصصيَّة في بلورة معالم الفلسفة الإسلاميَّة الجديدة التي تصلح أن تتمتع بوجودٍ قويٍّ متينٍ مماثلٍ أو متفوقٍ في مقابل الوجود والإنتشار الواسع لتلك الفلسفات والإيديولوجيات المتقاطعة جزئياً أو كلياً مع الإسلام. على حين أنَّ أمر التنظير الفلسفيِّ في الفترة التي امتدَّت من نهاية السبعينيات إلى الآن اتخذ مساراً آخر مختلفاً بعض الشيء عن ذلك المسار، بالرغم من أنَّ البناءات الفلسفيَّة التي تمَّ إنجازها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بقيت على أهميتها من ناحية استلهامها والإستفادة من مقولاتها وتفاصيلها وجزئياتها من قبل الفلاسفة المعاصرين الذين لا يكاد الواحد منهم يفصح عن انتمائه النهائيِّ إلى اتجاهٍ محدد، فكلُّ فيلسوفٍ تراه معجباً ببعض أطروحات الماركسيَّة مثلاً إلا أنه ليس ماركسياً، أو تراه مدافعاً متحمساً عن أطروحات الوجوديَّة وسارتر، بيد أنه ليس وجودياً ولا سارترياً، وحتى بعض الفلاسفة المثاليين أو الواقعيين يدافعون مثلاً عن بعض المعطيات الإيمانيَّة في الأديان، إلا أنهم لا يعتبرون أنفسهم فلاسفةً إلهيين أو ميتافيزيقيين أو إيمانيين على الإطلاق.. وهكذا. يستدعي مثل هذا الإتجاه في الكتابة الفلسفيَّة بعد أن أصبح هو السائد داخل الأوساط البحثيَّة والأكاديميَّة في العالم كله أسلوباً آخر للمعالجات الفلسفيَّة في الإتجاه المقابل. من هنا نجد أنَّ السيِّد محمد الصدر [قده] قد التفت إلى هذا الأسلوب الجديد في الطرح الفلسفيِّ واتخذ منهجيته الجديدة في بثِّ الأطروحات الفلسفيَّة داخل كتبه كلها سواءٌ كانت فقهيَّةً أو أخلاقيَّةً أو أصوليَّةً أو تفسيريَّةً، ولم يتخذ الطريقة الكلاسيكيَّة في تخصيص الكتب المستقلة لأطروحات الفلسفة. لكنَّ هذه المنهجيَّة الجديدة كما لا تخلو من الإيجابيات التي تعود بالغنى المعرفيِّ على الفكر الإسلاميِّ فإنها تواجه بعض الصعوبات المهمَّة على صعيد توصيل المعنى والدلالة الفلسفيَّة الصحيحة إلى القراء العاديين. ومن المستحسن أن نذكر جانباً من الإيجابيات والصعوبات المحتملة بإفراد إشارتين لكلٍّ منهما: الإيجابيات المحتملة: الإشارة الأولى: إنَّ المنهجيَّة الجديدة في تضمين الأطروحات الفلسفيَّة داخل الموضوعات الدينيَّة المختلفة والمتنوعة تخلِّص الفلسفة من دائها الأزليِّ القديم، وهو كونها تحلق في فضاءات التجريد ولا تلامس الواقع الإشكاليَّ إلا نادراً، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين أن تذكر الأطروحة الفلسفيَّة عائمةً في فضاء الذهن وبين أن تأتي بها عندما يستدعيها واقع الإشكاليَّة الفكريَّة التي تكون بصدد بحثها من الجوانب الدينيَّة والإجتماعيَّة والسياسيَّة وغيرها كما هو واضح. الإشارة الثانية: من شأن هذه المنهجيَّة الفلسفيَّة أن تقلب أغلب المسائل العقائديَّة أو الفقهيَّة إلى إشكالياتٍ فلسفيَّةٍ ضخمة، بحيث لا تبدو كما كانت في أوَّل أمرها قبل إخضاعها للبحث الفلسفيِّ طبقاً لهذه المنهجيَّة المبتكرة سطحيَّةً وساذجةً، حيث يتمُّ قبولها غالباً بصفتها مصادرةً لم يبرهن الدليل الفلسفيُّ أو العقليُّ عليها. ومن الواضح ما لهذه المنهجيَّة من الأثر الفاعل في تنمية أذهان المتلقي المسلم للأفكار والمضامين العقائديَّة والدينيَّة التي يتشكَّل منها وجدانه الروحيُّ في نهاية المطاف. الصعوبات المحتملة: الإشارة الأولى: تكون الأطروحات الفلسفيَّة مطويَّةً في داخل المسألة الفقهيَّة أو الأصوليَّة أو الإجتماعيَّة أو التأريخيَّة، فلا يتمُّ الإلتفات إليها إلا في القليل النادر، وإذا تمَّ الإلتفات إليها فلا يكون مأخوذاً في هذا الإلتفات مدى أهميَّة الإنتباه إلى المرتكزات والأسس النظريَّة التي تنهض عليها الإشكاليَّة المطروحة من ناحيتي النقض والإبرام، لذلك تبدو تلك الأطروحات والمعالجات الفلسفيَّة المتضمنة في هذه المؤلفات كما لو أنها أجنبيَّةٌ عن الموضوع، أو أنها مجرَّد فضولٍ معرفيٍّ يمكن الإستغناء عنه بسهولةٍ دون أن تتأثر مادَّة الكتاب بشكلٍ سلبيٍّ من هذا الإستغناء المفروض، والحال أنَّ ما يشكِّل العظمة الواقعيَّة لتلك المؤلفات هي هذه المعالجات والأطروحات الفلسفيَّة التي تبدو في عين القارئ السطحيِّ ضرباً من الزيادة والتوسُّع والفضول. الإشارة الثانية: تحتاج الرؤية الشموليَّة العامَّة للمنجز الفلسفيِّ المبثوث داخل الموضوعات والعناوين الدينيَّة المختلفة إلى جهدٍ استثنائيٍّ من القاريء العاديِّ ومن الباحث المتخصِّص معاً، لكي تتجمَّع هذه الشذرات الفلسفيَّة في إطار بناءٍ فلسفيٍّ متماسكٍ ومتكامل، وليس هذا فحسب، بل إنَّ هذا الأمر يتطلَّب جهوداً جبارةً من الباحثين الذين يجب أن يكونوا من طرازٍ خاصّ، أي من ذلك الطراز الذي قرأ فاستوعب تراث السيِّد الشهيد محمَّد الصدر، بالإضافة إلى كونهم قد هضموا واستوعبوا الفلسفات الغربيَّة الحديثة بكلِّ مدارسها ومشاربها واتجاهاتها، مضافاً إلى ما ينبغي أن يكون عليه حالهم من الإطلاع المكثَّف والمركَّز على الفلسفة الإسلاميَّة التقليديَّة ومدارسها واتجاهاتها وعلم الكلام الإسلامي على ما فيه من الإشكاليات الفكريَّة العميقة، ناهيك عن ضرورة أن يكون هؤلاء الباحثون على درجةٍ كبيرةٍ من الإطلاع والتبحُّر في العلوم الإسلاميَّة فقهاً وأصولاً وعلم تفسيرٍ وعقائد... إلخ. وإلا لا يمكن أن توكل هذه المهمة الخطيرة إلى المثقفين السطحيين مهما كانت مراتبهم الأكاديميَّة أو درجاتهم الحوزويَّة، لأنَّ البحث والكتابة بحدِّ ذاتيهما فنٌّ لا يمكن أن يمتلك الإنسان ناصيته من خلال حيازة تلك المراتب والشهادات فقط كما يعرف هذه الحقيقة الناصعة كلُّ خائضٍ غمار البحث عموماً، والبحث الفلسفي وبلورة النظريات الفكريَّة والفلسفيَّة على وجه الخصوص. فما عدا بعض التجارب القليلة التي تصلح للإستثناء لم توجد حتى الآن تلك المجموعة النادرة من الباحثين الذين يحسنون النهوض بأعباء هذه المهمة الجليلة فيما يخصُّ الكتابة حول التراث الفكريِّ والفلسفيِّ للسيِّد الشهيد محمَّد الصدر كما توفرت تلك المجموعة النادرة بالفعل فيما يخصُّ الكتابة حول التراث الفلسفيِّ للسيِّد محمد باقر الصدر. وهذا واحدٌ من أهمِّ الأسباب الواقعيَّة التي حالت دون أن يأخذ فكر السيِّد محمَّد الصدر وفلسفته مكانهما اللائق بهما حقاً في الأوساط الفكريَّة والفلسفيَّة العالميَّة، بل إنهما لم يحصلا على مكانتهما المستحقَّة لهما على المستوى المحلي كذلك مع شديد الأسف. النقطة الثالثة: لهذه النقطة علاقةٌ وطيدةٌ بالنقطة السابقة، فلقد توفرت للسيِّد الشهيد الصدر الأوَّل نخبةٌ ممتازةٌ من الكتّاب الذين درسوا الفلسفة وتخصَّصوا بها، وكان المجال مفتوحاً للغاية أمام الكتاب المعارضين للنظام الصدامي في العراق لكي ينشروا كلَّ نتاجاتهم وتتمَّ رعايتها من جهاتٍ عديدة، وليس الحال مشابهاً فيما يخصُّ الجانب المتعلِّق بالسيِّد الشهيد الصدر الثاني، لأسبابٍ يمكن إيجازها فيما يلي: السبب الأوَّل: لم تسمح الظروف العصيبة للسيِّد الشهيد محمَّد الصدر بأن يرعى بعلمه وفكره من خلال التدريس رعايةً مباشرةً طلابه فترةً تكفي لبلوغهم مرحلة الإجتهاد مثلاً، فبقي فكره [قده] حبيس مؤلفاته وكتبه إلا من بعض الطلاب الجادِّين الذين يبذلون وسعهم في مواصلة الدرب العلميِّ على هداه [قده] بعد استشهاده، وهذا وحده يشكِّل فارقاً جوهرياً بين التجربتين بحيث ترك أثره البالغ على عدم انتشار فكر السيِّد الشهيد الصدر، الإنتشارَ الخليقَ به، خاصَّةً فيما يتعلَّق بالجوانب الفلسفيَّة التي هي مدار الإهتمام في الحديث عنها من خلال هذا البحث. السبب الثاني: إنَّ السيِّد الشهيد محمَّد الصدر إبان حياته المباركة كان شديد الإهتمام بالطاقات المبدعة والإمكانيات الفكريَّة داخل المجتمع المتديِّن من كافَّة الطبقات الإجتماعيَّة، وقد أصدر توجيهاته رغم قسوة الرقابة آنذاك لتأسيس مجلَّة الهدى من أجل هذه الغاية، حيث كان السيِّد الصدر مع علوِّ مكانته في الإجتهاد والمرجعيَّة ينشر دراسةً أو مقالةً في كلِّ عددٍ جنباً إلى جنب الدراسات والمقالات التي يكتبها مجموعةٌ من الشباب الذين لم يكن يشترط فيهم أن يكونوا من المعمَّمين أو الحوزويين، وكانت تحظى كتاباتهم بالرعاية والإهتمام من سماحته مباشرةً، وكان يقيم المعارض ويشجِّع على إقامة الندوات الفكريَّة وطباعة الكتب، ولم يكن يتردَّد مطلقاً في أن يخصِّص جانباً من الحقوق الشرعيَّة لهذا الغرض، ومن المؤكَّد أنَّ هذه الطاقات الشابَّة لا بدَّ من متابعتها بالرعاية والإهتمام اللازمين، ليوجد لدينا كتّابٌ مبدعون من الطراز الأوَّل، كما يجب أن لا يحصل الإنكفاء عن خطَّة السيِّد الشهيد في هذا المجال، لكي لا تتبعثر الجهود التي بذلها السيِّد الشهيد في هذا المجال. لذلك فإنَّ مشروع الكتابة والتنظير حول فكر السيد الشهيد محمد الصدر لم يتبلور إلى درجةٍ ترقى إلى مستوى الطموح حتى الآن، وإن كان العمل قائماً على قدمٍ وساقٍ خلال الفترة الحاليَّة، لأنَّ مشروعاً كهذا يحتاج إلى بلورة الكثير من الجهود العلمية واستغلال العديد من المواهب الفكرية والكتابية من بين أتباع الحوزة العلمية الناطقة، وسيأتينا المستقبل بالثمرات اليانعة لهذه الجهود إن شاء الله تعالى. أمّا على الجانب الثاني فقد تهيَّأت لفكر السيِّد الشهيد محمَّد باقر الصدر هذه النخبة الثقافيَّة خلال الزمن الطويل المعتدِّ به بعد استشهاده، ولم يكن جلُّهم من المعمَّمين بطبيعة الحال، بل ربما كان المفكِّرون الحوزويون هم النسبة الأقلّ قياساً إلى العدد الهائل ممن تكونت منهم النخبة التي كتبت ونظَّرت وطوَّرت المفاهيم والأطروحات والنظريّات الفكريَّة والفلسفيَّة التي اتضحت من خلالها معالم عبقريَّة السيِّد الشهيد. ورغم ذلك فإنَّ فكر السيِّد الشهيد محمَّد الصدر وتأثير مدرسته الرساليَّة امتدّا بعيداً بحيث لامسا الأعماق القصيَّة من الكيان الفكريِّ والثقافيِّ والفلسفيِّ للإسلام، سواءٌ داخل الأروقة الحوزويَّة أم خارجها، بفعل الحراك الجهاديِّ العظيم الذي دفع في مقابله الأثمان الغالية من نفسه ونفوس ذويه قدِّس سرُّه، وقد وفَّرت هذه الأجواءُ الفرصةَ المناسبةَ لفكره كي يأخذ المدى المناسب له، وإن لم يكن يمثل إلا خطوةً بسيطةً مما يستحقُّه من مساحة الإنتشار، ولم يعد خارج منطقة التأثر بفكره وفلسفته ومجمل الفقرات التي يتشكَّل منها مشروعه الجهاديُّ الكبير حتى خصومُه الذين وضعوا العقبات في طريقه إبان حياته، وقد تمثل هذا التأثر في المسارات التالية: المسار الأوَّل: عندما شرع السيِّد الشهيد في صلاة الجمعة فعليّاً في مسجد الكوفة المعظم اعتبرها الكثير من الفقهاء بدعةً لا يجب الإندراج فيها أو تشجيعها أو السير على خطى السيِّد الشهيد في إحيائها بعد أن كان الخطُّ المرجعيُّ التأريخيُّ العامُّ مؤيداً لتعطيل هذه الشعيرة الإسلاميَّة المهمَّة، إلا أنَّ السيِّد الشهيد أقام الأدلَّة الإجتهاديَّة الدامغة على صحَّة إقامتها، بل على وجوبها حتى في زمان غيبة الإمام المعصوم عليه السَّلام. وها نحن الآن نشاهد صلاة الجمعة تقام في كلِّ أنحاء العراق من قبل وكلاء منصوبين من قبل كافَّة المراجع تقريباً، وما هذا إلا دليلٌ دامغٌ على صحَّة المسار الذي اختطَّه السيِّد الشهيد وقوَّة عزيمته التي أصرَّ بها على إحياء هذه الشعيرة الإسلاميَّة المهجورة طيلة التأريخ الشيعيِّ الطويل، ولا تجد الآن أحداً من المراجع الكرام أو من غيرهم من يشكِّك أو من يناقش ولو مناقشةً بسيطةً حول شرعيَّة إقامة هذه الصلاة، بل إنَّ الكلَّ كما قدمنا مندرجون ومتحمِّسون لإقامتها مع أنَّ الذرائع التي كان مخالفوه قدِّس سرُّه يتذرَّعون بها ضدَّ رأيه الإجتهاديِّ الصائب ما زالت موجودةً وقائمة. المسار الثاني: ليس هذا فحسب، بل إنَّ الكثير مما دعا إليه السيِّد الشهيد في فترة الصراع مع الطاغية، مثل زيارة الإمام الحسين عليه السَّلام سيراً على الأقدام في الخامس عشر من شعبان، بالإضافة إلى ما دعا إليه من إحياء ولادات الرسول الأعظم وآل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ووفياتهم بما يناسب من الإحتفالات التي لا تتقاطع مع الإلتزام الشرعيِّ الواجب أصبح كذلك مما يعمل بموجبه مقلِّدو المراجع الآخرين، بل هم يبدون الحماسة عينها إزاء تلك المناسبات الدينيَّة، ويمنحونها الواجب من التوقير والرعاية والإحترام. أما التأثير الأكبر الذي تركه النهج الرساليُّ لسماحة السيِّد الشهيد على البنية العميقة للفكر الدينيِّ والحوزويِّ خاصَّة، فلا يمكن أحداً أن يتغاضى عنه بمجرَّد أن يبدي في حديثه النيَّة الخالصة بأن يكون منصفاً، فلم يكن الفكر الدينيُّ داخل الحوزة قبل السيِّد الشهيد منحازاً إلى أن يكون للشريعة موقفٌ من الحياة السياسيَّة أو أن يكون لها رأيٌ في صياغة القوانين والدساتير العامَّة التي تحكم المجتمع الإسلاميَّ في كلِّ دولة، إلا ما حصل في إيران، لكنَّ الحوزة مع ذلك لم يكن لديها نزوعٌ عمليٌّ جادٌّ للعمل الحركيِّ والتدخل بالشؤون الخاصة بالحياة السياسية للمجتمع العراقيِّ المسلم، مع استثناء الحالات الفرديَّة القليلة التي ضحى فيها بعض العلماء بأنفسهم من أجل هذا المسعى. لكنَّ الحوزة الآن وإن كانت في بعض أروقتها مصرَّةً على الموقف القديم من الناحية النظريَّة، إلا أنها بجميعها تتجه نحو تفعيل الدور الحوزويِّ في التدخُّل بالشؤون المفصليَّة أو المركزيَّة في العمل السياسيِّ من الناحية العمليَّة، وليس زعماً خاطئاً أن يقال إنَّ هذا التوجه لم يكن ليوجدَ لولا الدور الرياديُّ لمرجعيَّة السيِّد الشهيد محمَّد الصدر الذي رسخته في هذا الإتجاه، وإلا لكان الموقف العامُّ للحوزة النجفيَّة إلى هذه اللحظة نسخةً طبق الأصل من مسيرتها الإنعزاليَّة خلال ثمانين عاماً من التأريخ الذي جعل دور الحوزة الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية بعد أن تمَّ فصل الدين عن السياسة مع سيادة الفكر العلمانيِّ في كلِّ مفاصل الحياة داخل العراق. إنَّ كثيراً من الأفكار العبقريَّة الخارقة عندما يقف ضدَّها الخصوم ليس على أسسٍ منطقيَّةٍ معقولةٍ يبررها الواقع العقلانيُّ الموضوعيُّ لا يستطيعون الوقوف ضدَّها إلى النهاية، بل إنهم لا يستطيعون أن يحصنوا أنفسهم منها، لأنها مما يستدعيه الواقع الموضوعيُّ الحاكم على كلِّ التخرُّصات غير الواقعيَّة وغير المعقولة، وكذلك كان الحال مع أغلب الأفكار والأطروحات والمشاريع التي تبناها السيِّد الشهيد محمَّد الصدر قدِّس سرُّه الشريف، وتلك إحدى الدلائل الواضحة على استثنائيَّة هذا العالم الربانيِّ المجاهد في تأريخ الحوزة الدينيَّة الشريفة على مدى مئات السنين بعد الأئمة المعصومين عليهم السَّلام. المسار الثالث: إنَّ السيِّد الشهيد وإن لم تسمح له ظروف الإستشهاد بمواصلة مسيرته الرساليَّة في تربية المجتمع الدينيِّ تربيةً تكون بمستوى ما في ذهنه من عبقريَّة الأفكار والأطروحات الإلهيَّة والإنسانيَّة الخارقة، إلا أنَّه استطاع في فترةٍ وجيزةٍ للغاية أن يستقطب الكثير من شرائح المجتمع الإسلاميِّ داخل العراق وخارجه، وأن يجعلهم من الناحية الشعوريَّة في الأقلِّ على درجةٍ كبيرةٍ من الإندماج الدينيِّ والعقائديِّ والإندكاك العاطفيِّ بشخصيته وبمشروعه الإصلاحيِّ الكبير، والحقُّ أنَّ هذا الإندكاك اللامعهود بين المجتمع وشخصيَّة السيِّد الشهيد ومشروعه الدينيِّ الإصلاحيِّ كفيلٌ بأن يكوِّن الأرضيَّة الصالحة لولادة جيلٍ من المفكِّرين الدينيين داخل الحوزة وخارجها مستقبلاً بعد أن تستوفي هذه الشرائحُ الشرائطَ الموضوعيَّةَ للصيرورة الفكريَّة والثقافيَّة، حتى إذا ما مرَّ زمانٌ كافٍ، وبذلت الجهود المعنويَّة والماديَّة الكافية في طريق بلوغ هذه الغاية المعرفيَّة والفكريَّة المرجوَّة، أينعت الكثير من الثمار وآتت أكلها مشاريع فكريَّةً وثقافيَّةً وفلسفيَّةً تخدم مشروع الإيمان، على قاعدة استلهام أفكار السيِّد الشهيد وأطروحاته الموجودة في العديد من كتبه ومؤلفاته التي تحتلُّ الآن الموقعَ الأسمى والأهمَّ في المكتبة الإسلاميَّة عموماً والمكتبة الإسلاميَّة الشيعيَّة على وجهٍ خاصّ. المسار الرابع: إنَّ الكثير من الكتابات والمؤلفات الإسلاميَّة ذات المنحى الفلسفيِّ أو الفكريِّ أو العقائديِّ أو الفقهيّ... إلخ، مما قد ظهر بعد استشهاد السيِّد محمَّد الصدر كان متأثراً بأفكاره وأطروحاته والتفاصيل العامَّة أو الخاصَّة لمشروعه الإصلاحيِّ ككلّ، دون أن أستثني العدد الهائل من مؤلفات من كانوا يعتبرون أنفسهم خصومه أو كانوا يرجفون ويشكِّكون بمنزلته العلميَّة والإجتهاديَّة، حتى ليصحَّ أن يقالَ إنَّ هناك منعطفاً مهمّاً قد عاشه الفكرُ الإسلاميُّ بعد استشهاد السيِّد محمَّد الصدر هو أكبرُ وأهمُّ من المنعطف الذي عاشه هذا الفكر بعد استشهاد السيِّد محمَّد باقر الصدر على الرغم من الفارق الكبير في الظروف والملابسات بين هذين المفكَّرَينِ الإسلاميينِ العبقريين، مما قد تحدَّثنا عنه في الصفحات السابقة. ولا شكَّ أنَّ هذا من أوضح الشواهد والأدلَّة على استثنائيَّة هذا الفكر الذي هجم قسراً على أذهان من خاصمه، وشكَّكَ في سموِّ منزلته العلميَّة بدوافع لم تكن موضوعيَّةً بالتأكيد، وإلا فما بالهم يحاولون أن يجعلوا من كتاباتهم وأفكارهم وأطروحاتهم شيئاً كأنما هو نسخةٌ طبق الأصل من أفكار هذا المجتهد العبقريِّ الذي عانى من عقوق بني جلدته ما عاناه الأنبياء على وجهِ التقريب؟!.
|
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 2 |
طرفاوي بدأ نشاطه
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 3 |
مشرف سابق
|
![]() بوشهيد، وفقك الله لما يحب ويرضى وجعلك من أهل العلم والتقوى .
|
![]() |
![]() |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|