مجندة بالإكراه
في ريفٍ من أرياف القرية الهادئة ، وفي بيتٍ متواضعٍ ، وفي أسرة محافظة تعيش فاطمة التي ينشرح صدرها كلما نوديت باسمها الذي تتشرف به ؛ لأنه اسم " فاطمة الزهراء " (ع) سيدة النساء .
عُرِف عنها أنها مثقفة حتى النخاع .. محتشمة من رأسها إلى أخمص قدميها ، وقد وهبها الله من الجمال ما هو خلاصة جمال بنات حواء .. منطقها يحكي عن لسان الحكماء ، وثوبها ودبيب مشيها يحكيان عن عفة مريم والزهراء (ع) .. حماسها حماس أم وهب " نصيرة الإمام الحسين (ع) " في كربلاء .
لا تزال تدعو ليل نهار بـ " اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم " حتى أصبحت مثالاً صالحاً تقتدي به مثيلاتها .
جلست ذات يومٍ إلى والدها وقالت له : يا أبي هل لي من نصيحة أتقوى بها على نفس وهواي .
فقال لها : يا بنية .. بارك الله فيكِ ، ووفقكِ لم يحب : اسمعي ما أقول وعيه : لكل جوادٍ كبوةٍ ولكل لسانٍ هفوةٍ ، ولا تستحي إذا سئلتِ ولم تعلمِ أن تقولي لا أعلم ، ولا تتركي مجلس الذكر والوعظ .. ففيها تحي القلوب وتذكِّر الإنسان بنما نساه من حقوق وواجبات ، ولا أزيد .
شكرتْ والدها وانحنت عليه تلثم جبينه ويده ، ومن ثم توجهت إلى غرفة منامها ومجلسها الذي تأنس به لتقضي باقي ليلتها بنفسٍ مطمئنةٍ ، وقلب ملئه الأمل بفضل الله سبحانه وتعالى .
بعد سويعات من استرخاءٍ وشرود ذهنٍ طرق الباب طارق .
تكررت الطرقات عدة مرات ، ولم تتوقف ، ( دلالة على أن الطارق لم يجب )
عندها توجهت إلى الباب ، وخاطبت من خلفه : من الطارق ؟ .
فأجاب الطارق : افتحي فاطمة ، أنا صفية .
فاطمة : صفية أهلاً … - وتفتح الباب وتقول – أهلاً .. تفضلي .
فقالت صفية : لا مجال للحديث .. هناك محاضرة في قاعة المحاضرة في نادي طيبة للخطيب الشيخ تقي …
فاطمة : حقاً يا صفية .
صفية : صدقيني يا فاطمة .
فاطمة : وما عنوان المحاضرة ؟ .
صفية : الحجاب " سترٌ وغطاء " .
فاطمة : العنوان مشجع ، ويهمني أن أذهب ، ولكن الآن ليل وطريقنا إلى القاعة مظلم .
صفية : لا عليك ، غيرنا من الجيران سيحضر وسيرافقنا في الطريق .
لبست فاطمة ملابس العفة والاحتشام ، وخرجت بصحبة صفية ، وقد رافقهما بعض من عَزَمَ الحضور في المحاضرة من بنات الجيران .
وصل الجميع إلى القاعة ، والشيخ يستهل محاضرته بالآية الشريفة ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعرف .. ) وواصل حديثه ، وقد أعجبت فاطمة بمحاضرته ، ولكن .. ولكن ماذا ؟ في منتصف المحاضرة روى حديثاً يقول : المرأة جند من جنود إبليس .. كان هذا الحديث بمثابة الشرخ الذي أعاب عليها جهاز الاستقبال ، وأعاب أيضاً جهاز تحليل وتأويل النصوص .
انتهت المحاضرة .. وفاطمة لا تزال شارة الذهن ، ثائرة الأعصاب وقد توجهت نحو الباب ناسية خلفها زميلتها وأمامها وحشة الطريق المظلم … وهي تردد : أحقاً أنا من جنود إبليس ؟! أيرضى الله الذي لا يظلم مثقال ذرة ، وهو الذي " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقد وعد " من زكاها " وتوعد من " دساها " ونسب ذلك كله إلى اختيار الإنسان بعدها يكون قدري مجندة بالقهر والإكراه لعدوي إبليس اللعين ؟؟!! .
أخذت تضرب أخماساً في أسداس ، وهي تعبث بيديها وكأنها ترسم لوحةً تعبر عن حالة التخبط وعدم التوازن اللذان تعيشهما .
كان بجانب الطريق الذي يؤدي بها إلى البيت أحد المتسكعين الذين استعبدتهم شعواتهم .
ارتاح كثيراً لمرورها بجانبه ، والطريق خالٍ من المارة ، فقام يلوِّحُ لها بالتقصير مرةً بالتصفيق ومرة يساومها على عفتها ، لكنها لشدة دهشتها لم تلفت إليه ولم تستطع بعد السيطرة على نفسها . وكأنها – وكما مرَّ – ماسكة بريشة رسمٍ وترسم على لوحة التهريج ، لماذا هذا يحدث ؟!! .. كلا لا يقول أحدٌ بهذا .. الدين لايستهين بالمرأة .. وحالة الانفعال والتخبط تثملهما يداها .
ظن ذلك المتسكع أن هذه الحالة التي اعترت فاطمة دليل استجابة ، ودعوة للهوى وكأنها تقول له : أنا صاحبتك ، وفي الظلام ولا أحد وقد هيتُ لك .
تعقبها وهو يستحث خطاه ليقترب منها ، فعل ذلك وهي لا تشعر بها ، اغتنم فرصة الدلجة الشديدة الشديدة ، وفاجأها بضمها إلى صدرهِ وهو يقول : إلي ..تعالي إلي .. لا تخافِ لا تخافي ، صرخت من هول الحدث ونادت : إلحقوني . ثم وقعت مغشياً عليها .. ولى المتسكع هارباً ، وفزع إليها من سمعها .. وحملوها إلى منزلها ! .
استقبلتهم والدتها وهي تقول ما الأمر !! فقالوا لها : ابنتك .. رأيناها مغمىً عليها جراء جرأة أحد المتسكعين عليها .
قامت الأم تسبغ على ابنتها شآبيب تحنانها ورحمتها ورأفتها حتى هدأ روع ابنتها ..
في تلك الليلة لم تنم وحدها في غرفتها التي كانت تأنس بها ، بل قالت لأمها أماه : إني أخاف أن أنام وحدي ، فنامي هذه الليلة معي .. نامت الأم بجوار فاطمة ، ونام الأم وحده تلك الليلة .
عند الفجر جلست فاطمة للصلاة ، وبعد الصلاة المكتوبة جلست لتقرأ القرآن ، وكانت تتابع قراءتها ، وصادف ذلك الجزء الثاني عشر ، وهكذا بلغت سورة يوسف والآية الشريفة (22) : " وغلقت الأبواب وقالت هيتُ لك ، قال معاذ الله ، إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون " .
فتوقفت عند الآية ، وبدأت تربط بين براءتها في حادثة البارحة وبراءة يوسف (ع) في الحادثة التي وقعت في بيت العزيز ... ما ذنب يوسف أن تحدث زوجة العزيز نفسها ، بل وتسعى جاهدة لتشبع رغبتها ، وذلك لأن جمال يوسف حرَّك رغباتها الجنسية تجاه يوسف وحده .. ويوسف وحده ولا أحد غيره .. فأرادت أن تشبع رغبتها ، وتلك النساء اللاتي قطَّعن أيديهن .. كان ذلك ليوسف وحده ولا غيره .
بعد مدة من التفكير استكملت خيوط الربط والتواصل .. عندها فهمت أن الحديث وصفاً لحالة وليس حُكماً لموضوع .. والمجند فيه ضحية ، ولا ذنب للضحية في التجنيد ما دامت هي لم تتعسكر له .