العودة   منتديات الطرف > الواحات الخاصـة > منتدى السهلة الأدبي




إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 16-05-2017, 05:45 PM   رقم المشاركة : 1
منتدى السهلة الأدبي
منتدى السهلة الأدبي






افتراضي قراءة في مشروع السيد كمال الحيدري - الأستاذ جاسم الجبارة

مقدمة المحاضرة:
إعداد مدير الجلسة الحوارية: يوسف خليفة الشريدة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
الحضور الكريم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
اليوم، ونحن نجتمع في منتدانا إنما نحتفي بعدد من المكاسب، وفي مقدمتها مكسبنا من التقنيات الحديثة، وخاصة خدمة التعلم عن بُعد، والتي أتاحت للمؤسسات العلمية أن تصل للمهتمين على اختلاف بلدانهم، وصار طالب العلم متعلما ومجالسا للعلماء في داره، فيختار بنفسه الموضوع الذي يحتاجه، والمتخصص الذي يراه مؤهلا لتقديمه، والزمان المناسب له، وكل ذلك إذا تحقق مع قدر مقبول من الجديّة، ينتج عنه تطوير متقدم للذات.
وهذا ما حصل مع ضيفنا، فقد أخذ على نفسه أن يستمع يوميا لمحاضرتين كاملتين للسيد كمال، وربما خالطه بذلك أكثر من بعض طلابه في الحوزة.
أن نجتمع للاستماع لقراءة في أطروحات شخصية علمية دينية، إنما ذلك يُثبت أننا ما زلنا نبحث عن الحلول لحاضرنا ومستقبلنا بين الاجتهادات الدينية، وأننا ما زلنا – في المجمل العام - في المربع الذي يرى في جوهر المنظومة الدينية صلاحية لاستيعاب معضلات حياتنا على اختلاف جوانبها، ويعزز ذلك الشعور بروز خطاب تجديدي، ولولاه لربما نفض قسم من المسلمين يدهم من المشروع الديني نتيجة ما عايشوه من فشل اجتماعي حضاري تكرّس طيلة قرون مضت.

التجديد ينقل الناس من التفكير بالماضي حصراً؛ إلى التطلع للمستقبل مبادرة وفعلا، وذلك باستشراف متطلباته والسعي لتأمينها. وهو ما يجعل من المتابع يرى في المُجدّد حيوية يُؤمل منها الخير، وإلا فإن الرهان على العالقين بطين الماضي والذين فشلوا في الأخذ بمجتمعاتهم إلى أي منجز حضاري ينافس الأمم المعاصرة، إنما هو هدر للإمكانيات، ورهان على سراب.

السيد كمال الحيدري، قدم نفسه للساحة الإسلامية الشيعية بأسلوب مختلف عن سابقيه، فاستخدم وسائل الإعلام الحديثة لبلوغ صوته، وصار طبيعيا أن تُعقد المجالس لمناقشة أفكاره من الناس على اختلاف مستوياتهم، وخاصة أن الدين الإسلامي ميدانه كل حياة معتنقيه.

الأكيد أن السيد لم يكن ليحظى باهتمام الناس لولا مكانته العلمية كونه مجتهدا، وبدونها لكان التعاطي مع أطروحاته ضعيفا، وبالتالي ضمن لآرائه قيمة خاصة بعد أن أمّن لنفسه منصبا له قيمة عند مجتمعه.

أسئلة كثيرة رافقتنا لهذه الجلسة، وجئنا نبحث عن بعض الإجابات عنها مع ضيفنا، ومنها :
ما هي أسس ومعالم مشروع السيد كمال الحيدري الذي نلمس بعض مظاهره في التسجيلات المنشورة عبر اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
ومن أي إحداثية ينكشف لنا جوهر خلافه مع غيره من العلماء السابقين والمعاصرين؟
وما الأفكار التي أحدثها شخصيا أو استحسنها من غيره وسعى في إعادة عرضها إبرازها، ولماذا؟
وغير ذلك من الأسئلة، وما أثرناها إلا بحثاً عن إجابات أو تسديدات ومقاربات لها – إن وُجدت- من الضيف والحضور الكريم.

ويهمني التأكيد هنا أننا ما جئنا لنروّج لشخص السيد كمال، فلا أعرف أحدنا مقلدا له، ولا أعرف أحدنا مسلما لكل آرائه، وإنما الرجل أعاننا على التفكير بمناقشة أفكاره، ببساطة لأنه قدمها للجميع، وفي ذلك إذن منه لأن يتداولها الناس، ويُراجعوها، فبينه وبين الله لا يدعي العصمة، وفي ذات الوقت لا يراها في غيره، فما تجرأ على نقض آراء غيره، إلا ليُبيح لغيره نقض آرائه.

بلى.. ما اخترنا اسمه، إلا اطمئنانا منا أنه يُحب ذلك، فإثارة السؤال محمودة عنده، وهي مقدمة مطلوبة لاستنهاض الإمكانيات واستدعاء القرائن ووزنها جنبا إلى جنب بشكل دوري كلما استجد العلم بقرينة قديمة غفلنا عنها أو قرينة مستحدثة برزت لنا.

أما ضيفنا الكريم، فهو الصديق العزيز الأستاذ جاسم الجبارة، وقد بدأت معرفتي به عام 1424هـ، وذلك مع انتقالي للعمل في ثانوية الجفر. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم ينقطع تواصلنا رغم انتقالي لغيرها منذ سنوات، فكان أكثر من زميل، وأقرب من أي صديق.

أبو منذر معروف لنا بشخصيته التي تميل للطرفة والكوميديا اللطيفة، فرغم مقالبه الكثيرة في جلسائه، إلا أنك ستجد صعوبة في إحصاء كاره له، فقد ضمن لنفسه أريحية متقدمة في النفوس، ولا يصمد أمامها أي زعل عليه مهما عظُمَ، وكأني بالمتضررين بمقالبه من أكثر المستمتعين بها.

وأما اهتمامه بالبحث، فقد لاحظته مبكرا، فقد بدّل مرجعيته التي نشأ عليها، وانتقل لغيرها، وما كان ذلك ليحصل لولا مراجعاته التي أخذته لذلك القرار الجريء حينها.

بلى .. لأبي منذر سابقة، فروحه أرض خصبة لمناقشة الأفكار المختلفة تحت مظلة الدين الحنيف، فما عرفته إلا معتقدا بحجيته، وباحثا عن نفائس علومه، ومولعا بالتنقيب عن إجاباته لميادين الحياة المختلفة بين آراء المتخصصين من العلماء والمفكرين والباحثين.

هذه الأمسية بدأت باقتراح مني، وذلك أني لمست حماسة عند أبي منذر لمتابعة محاضرات السيد كمال، فطلبت منه أن لا يبخل علينا بمشاركتنا قراءته لما وجده عند السيد بشكل ممنهج في جلسة حوارية مفتوحة، وليس في أحاديث السمر العابرة فقط، فوافق بعد تردد، وهذا نحن الآن في ميدان الجلسة، وكما يُسعدنا أن يُشاركنا ضيفنا قراءته، سنسعد أكثر بالقراءات التي سيُداخل بها الحضور بعد ذلك، وما ينتج عن ذلك التواصل والتلاقح إنما نحسبه الحصاد الذي نأمل قطفه.

أنوّه هنا أن ما سيقدمه الأستاذ جاسم في الجلسة إنما هو فهمه الذاتي وقراءته الشخصية لما استمع له من محاضرات السيد الكثيرة التي حضرها، وليس بالضرورة ما يقصده السيد ( بينه وبين الله ) حين نشر تلك الأفكار في محاضراته.

أرحب مجددا بالضيف والحضور الكريم.
نستمع لطرح ضيفنا لمدة ساعة من الزمن إن شاء الله، ثم نعود لنسمع تعليقاتكم ومناقشاتكم بعد ذلك.


نص المحاضرة:
إعداد وتقديم: أ- جاسم بن محمد الجبارة.


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين؟
الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أتشرف بلقائكم هذه الليلة؛ لأقدم لكم قراءتي المتواضعة والخاصة حول مشروع السيد كمال الحيدري الإصلاحي في الأمة حسب ما يعتقد وكيفية النهوض بها نحو الأمام.
إن ما سأقدم لكم هذه الليلة من قراءة متواضعة لا تمثل حقيقة مشروع السيد الحيدري، وإنما هي فهمي المتواضع لما طرحه وسمعته منه من خلال متابعتي لمحاضراته لأكثر من ثلاث سنوات تقريبا، وما سأنقله لكم من بعض كلماته. لذا أطلب منكم أعزائي مساعدتي في هذه الليلة من خلال هذه الندوة الحوارية في فهم ومعرفة مشروع السيد الحيدري ومرتكزاته وكيفية الاستفادة منه ونقده نقدا إيجابيا للحصول على الفائدة المبتغاة التي يأملها الحيدري ونأملها جميعا.
يرى السيد الحيدري أن الواقع الاسلامي يعيش أزمة في مجالات عدة فكرية وعقدية وفقهية وحضارية واجتماعية، ويتفق معه الكثير في هذه الرؤية، ويؤكد دائما أن التغيير لا بد أن يتم من خلال الدين والقائمين عليه في المؤسسات الدينية سواء كانت سنية أو شيعية، لأن الدين هو المحرك الأساس للمجتمع الإسلامي سواء كان على المستوى العقدي أو الفكري أو الاجتماعي أو الحضاري، وأن هذا الواقع المعتل في بعض جوانبه التي تعيشه الأمة سببه ليس الدين أو النص الديني قرانا أو سنة، وإنما أفهام بعض العلماء المتقدمين للنص الديني الذي كان في كثير منه صالحا لزمنهم حسب ظروف ومعطيات ذلك الزمن.
والمشكلة في كثير من إعلامنا في هذا الزمن -والقول للحيدري- أنهم فهموا النصوص بقوالب جاهزة ومسلّما بها، فصار الاجتهاد في النص الديني محكوما ومؤطرا في حدود المسلمات والضرورات والمشهورات والخطوط الحمراء التي يعتقد الحيدري أنها في كثير منها اجتهادات علمائية وليست نصوصا قطعية صادرة من المعصوم، وطبعا ما قاله الحيدري ليس بدعا من الرسل، وإنما سبقه لهذا القول كثير من الأعلام: مثل السيد الصدر والسيد فضل الله والشيخ الفضلي، ولكن السيد الحيدري تبنى هذا كمشروع متكامل، وفيه الكثير من التوسع والشمول في كثير من جوانبه.
يرى الحيدري أن تعدد القراءات يُعتبر عاملا أساسيا في عملية تجديد الفكر الإمامي في المحافظة على ديمومة التحديث، فالفقه بمعناه الأعم الأكبر والأصغر، ما كان ليتجدد لولا إغناء القراءات ذلك الجانب بمزيد من التأملات والملاحظات والإيضاحات التي شكلت منظومته المتجددة على مر العصور، وهذه القراءات هي التي جعلت من النص الديني نصا متولدا مُحايثا قابلا للانبلاج المفهومي ومستقبلا لإغناء المعارف الدينية، وعليه يرى الحيدري أن على القراءة المعاصرة للنص الديني:
1- أن تكون مستندة على أسس منهجية ومعرفية رصينة.
2- أن تؤسس وتحافظ على (وحيانية) النص وقدسيته.
3- أن لا تحيل النص الديني إلى نص بشري؛ وتعمل فيه مبضع الجراح الحداثوي المشرّب بالأطر والمناهج الغربية التي لا تتلاءم والنص الديني في كثير من مفرداتها.
4- أن تأخذ تلك القراءة المنتوج الفكري المتراكم على مر العصور لمعرفة الجديد وتطويره وإيضاح السقيم ونقده وتقويمه.
5- أن تهدف تلك القراءة إلى إعادة الروح إلى وحدانية النص وتنشيط أواصر التنامي والتوالد في ثناياه؛ ما يُغني البعد الفكري في المعارف الدينية.
6- أن تتوخى القراءة أُسسا ومناهج ثابتة وصارمة ومعروفة مثل الضرورات والمسلمات والمشهورات العلمائية، فتكون تكرارا لأفكار موروثة وإسقاطات نفسية مسبقة من قبل المجتهد.
7- أن تكون القراءة ضمن الأطر والأسس المعرفية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.
8- أن يكون هدف هذه القراءة إنعاش وإغناء وتجديد الموضوع المقروء، لا أن يكون الهدف هو الإلغاء والتسفيه.
9- أن تكون القراءة من المتخصص؛ وبعد توضيح الأساس والمنهج الذي اعتمده في هذه القراءة؛ وأن لا تكون تسقيطية أو تمييعا لأصول الدين ومتبنياته. ومثال ذلك، كأن يقول: "أفضت إليَّ قراءتي بأن الأئِمة ليس عددهم اثنا عشر إماما". هذا النوع من القراءات لا يؤتي أكله؛ لأنه خارج ومتجاوز للأصول المتفق عليها كثوابت لا يمكن المساس بها، وهذا ما نجده في أكثر القراءات الحداثوية، وليس جميعها التي تعتمد على أصل ومفهوم مسبق؛ يُحاول القارئ من خلاله إعمال تلك المسبقات على النص الديني، وهذا لا ينم بطبيعة الحال عن حكمة معرفية ورصانة فكرية أو موضوعية بحثية.
بالطبع، السيد الحيدري يرتكز في منهجيته لفهم الدين على المعرفة القرآنية ويجعلها المنطلق لاستكناه النصوص الروائية، ولذا سأذكر النقاط التي اعتمد عليها الحيدري لعرض مشروعه الإصلاحي وبيان الآثار التي تحدثها هذه القراءة على المستوى العقدي والفقهي والفكري والحضاري في الأمة. وسوف أوضحها بشكل مختصر بحسب فهمي القاصر، ومن خلال بعض كلمات الحيدري نفسه رغم ضيق الوقت، حيث إن هذه المفردات تحتاج لمحاضرات كثيرة ومتخصصة لإيضاحها، وهي:

أولا: محورية القرآن الكريم ومدارية السنة.
ثانيا: نقد الموروث الديني وتقويمه من خلال القرآن الكريم.
ثالثا: وحدة المفهوم وتعدد المصداق في النص الديني.
رابعا: نظرية الزمان والمكان وأثرها في فهم النص الديني وتأثيرها في الثابت والمتغير.
خامسا: نظرية المرجعية الشمولية ومواكبتها للعصر.

نبدأ بالمفردة الأولى، وهي:
1- محورية القرآن الكريم ومدارية السنة.
يرى السيد الحيدري أن القرآن هو المحور والفيصل والقاضي، وأن السنة تدور مدار القرآن الكريم. طبعا السنة المحكيّة، وليس السنة الصادرة في زمن النبي أو المعصوم. ولذا هو يوضح حديث الثقلين أنه لا يتعارض مع ما يقوله، لأن الحديث إذا كان يتكلم عن العترة الواقعية، فهي في عرض القرآن. أما إذا كان يتكلم عن المحكيّة؛ فهي في طول القرآن. وألمح إلى وجود بعض الشواهد بأن حديث الثقلين يتكلم عن المحكيّة، حيث قال الحديث أن أحدهما أكبر من الآخر. يعني أن القرآن أكبر من الحديث المروي الواصل إلينا، وليس أكبر من العترة الواقعية.
ويخلص إلى أن القرآن هو المحور في كل المنظومة الدينية؛ سواء كان فقها أو تاريخا أو عقائدا، وأن السنة المحكيّة تدور مداره.
ولذا هذا العام في درسه عن طهارة الإنسان؛ بدأ بالبحث القرآني بما يقرب على ثلاثين درسا، وخرج بنتيجة كبرى، وهي طهارة أهل الكتاب، ثم ذهب إلى السنة؛ وناقش الروايات سواء على مستوى السند أو المتن بنظارة قرآنية حسب قوله. وهذا يختلف عن المنهج السائد في الحوزات، وذلك أن المجتهد يخرج في قضية ما بنتيجة من خلال السنة، ثم يذهب إلى القرآن بنظارة حديثية ليدعم نتيجته الكبرى! فالاتجاه السائد في الحوزات العلمية لا يُحكِّم القرآن على الرواية غالباً إلا في حال التعارض.
ومن أمثلة ذلك، ما يلي:
- قضية قتل المرتد، فإنك إذا كنت أنت والقرآن فقط، فإنه لا يمكن أن تصل إلى هذا الحكم. لذا حسب منهج السيد؛ يختلف الحكم عن الآخر الذي يصل إلى أن حكم القتل من السنة المحكيّة ثم يذهب للقرآن بهذه النتيجة.
- حكم الرجم للمحصن؛ فإن بدأت بالقرآن للحصول على الكبرى؛ لن تصل إلى هذا الحكم، وعليه تكون نظرتك للروايات القائلة بالرجم مختلفة عن الآخر الذي يبدأ بالروايات ويصل منها إلى الحكم بالرجم، ثم يذهب للقرآن لتأييد حكمه؛ هذا حسب نظارته الحديثية.
والأمثلة كثيرة في المنظومة الدينية كاملة؛ لكن المجال لا يتسع لذكرها في هذه الجلسة.
بالطبع، يُورَد إشكال على السيد، أنه يُلغي السنة من الاعتبار، فيُجيب أنه مثلا إذا خرجتُ بنتيجة كبرى من القرآن، ثم ذهبتُ إلى السنة، فلاحظتُ أن كل الأحاديث مثلا لا تتفق مع هذه النتيجة، فعليه يجب إعادة النظر في المقدمات التي اعتمدت عليها للوصول إلى هذه النتيجة، وأيضا السنة لها وظيفة توضيح الأحكام المجملة في القرآن، مثل كيفية الصلاة وغيرها من الأحكام.
إشكال آخر يُورد على السيد، أنك تقول كما يقول الخليفة الثاني: "حسبنا كتاب الله"، وقد أجاب: إن الخليفة الثاني رفض السنة الصادرة في زمن النبي، وفي وجوده صلى عليه وآله"، أما السيد فيُحاكم السنة المحكية بالقرآن لما علق بها من التدليس والدس والزيادة والنقصان والنقل بالمعنى وغير ذلك.
ولذا أول محور يضعه السيد في تصحيح الأحاديث هو موافقتها للقرآن قبل النظر للسند، وعليه يقول: "حتى لو كان الحديث إسناده صحيحا أو حتى مشهورا أو متواترا، وهو غير موافق للقرآن الكريم لا أقبله، والعكس صحيح، أنه لو كان الحديث ضعيف الإسناد وموافقا للقرآن أقبله من جهة صحة المضمون، وليس صحة الصدور من المعصوم، عكس الاتجاه السائد الذي يُحاكم الروايات بداية من خلال الإسناد، والدليل على ذلك التراث الكبير جدا في علم الرجال والجرح والتعديل سواء في مدرسة الصحابة أو مدرسة أهل البيت، ثم يذهب للقرآن ليضعه كمؤيد لها أو حاكم عليها في حال التعارض".
وعليه هو يدعو ان يكون القرآن الكريم هو المحور في الحوزات العلمية، ولذا يؤكد دائما أن من شروط المجتهد عنده، أن يكون مجتهدا أولا، مجتهدًا في القرآن قبل كل شيء، لأن القرآن حسب رأيه سيكون معيارا ومنبعا لفهم كل المعارف الدينية؛ وسيكون حاكما على الموروث الديني ككل.

2- نقد الموروث الديني:
ما المقصود بالتراث؟
هو التراث الذي وصلنا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله على رأي أهل السنة، ومن أصحاب الأئمة على رأي مدرسة أهل البيت، بالإضافة إلى آراء وأبحاث وكلمات العلماء على مدى قرون.
السيد الحيدري لا ينقد النص الديني قرآنا أو سنة، وإنما ينقد أو ينقض اجتهاد المجتهدين والمفسرين وآراء العلماء لهذه النصوص لسببين:
الأول: أن هؤلاء العلماء ليست لهم قداسة خاصة تعطي آراءهم أي تميّز أو خصوصية في فهم النص؛ بحيث توحي كأنها جزء من الدين، فلذا يقول المشهور من العلماء: "أن الحُجيّة في فهم النص لزمن الصدور وليس الوصول".
إن فهم وتفسير هؤلاء العلماء للنص الديني خاضع للزمان والمكان، ولذا هم متأثرون في فهمهم بالظروف التي يعيشونها، وهذا يجعل من فهمهم محدودا، ولا يسري على كل زمان أو مكان.
وعليه؛ فالسيد الحيدري من خلال هذه الرؤية يخرج بنتائج مختلفة في الابحاث الدينية عن غيره من العلماء، وذلك أنه لا يرى الضرورات – الإجماعات – المشهورات – الخطوط الحمراء، لذا هو دائما يقول: "أنا والنص الديني، فما فهمته حُجّة عليَّ أمام الله، وصالح لزمني، وما فهمه العلماء المتقدمين حُجّة عليهم وصالح لزمنهم.
وربما قائل يقول: "ما أثر ذلك في النتاج الديني؛ إذا لم نلتزم بهذه المسلمات والضرورات والمشهورات العلمائية، هو يرد بالتالي:
"إذا التزم العالم بما سبق ذكره من تقييدات تجعله يدور في دائرة مغلقة ومؤطرة بخطوط حمراء من قبل مشهور العلماء المتقدمين؛ حيث إنه يجتهد من خلال القوالب التي وضعها هؤلاء العلماء المتقدمين لفهم النص الديني، يبقى الفقه وكثير من المعارف متخلفة عن ركب الزمن، وأن هذا الاجتهاد في كثير من جوانبه لا يُلبي حاجات الإنسان مع تطوره وتقدمه في كثير من المجالات العلمية والحضارية.
أما إذا لم يلتزم بذلك، فإنه يُنتج فقها جديدا، وفكرا جديدا، ويكون ملتزما بالنص الديني فقط، ولا يكون مأسورا لهذه المسلمات والمشهورات العلمائية".
ويُوضّح هذه النقطة الشهيد الصدر الأول حيث يقول حسب تحليله لبطلان إنتاج فقه جديد، مثلا لو اطلقنا قاعدة لا ضرر ولا ضرار يلزم منه تأسيس فقه جديد، وسبب هذا البطلان أن فقه الإمامية فيه مجموعة من الأطر والمسلّمات والثوابت والخطوط الحمراء؛ لا يجب الخروج عنها، وهذه المسلمات والخطوط الحمراء وُضعت من قبل العلماء المتقدمين، كالمفيد والطوسي والمرتضى؛ فإذا لزم الخروج عنها؛ لزم تأسيس فقه أو تشيّع جديد، وهذا باطل، فعلى الفقيه والكلام للسيد الصدر أن يتحرك في اجتهاده داخل هذه الأطر، وداخل هذه المسلمات والمشهورات والخطوط الحمراء، وتم تلقيها بالقبول من قبل الفقهاء الأوائل؛ وأُخذت بطريق لا نعرفه، يعني لا نعرف من أين التزموا بهذه القواعد والمسلمات والضرورات دون أن يكون عليها دليل صناعي يُبرهن عليها، ولذا يقول السيد الصدر أن السلف الصالح تلقاها بالقبول، ولذا يجب أن نلتزم بها حتى لو لم نعلم بدليل يُبرهن عليها، فالالتزام بها من باب التعبّد بها، لأنها حقائق لنا القناعة بأنها أُخذت من يد الشارع المقدس حيث إنه لا يمكن لهؤلاء الفقهاء القول بها من غير دليل.
ولذا يُعلّق السيد الحيدري: "كيف للعالم أن يجتهد في حدود هذه الأطر والخطوط الحمراء، فلو خرج عنها قامت عليه الدنيا ولم تقعد، بأنك إنما تريد تخريب المذهب، وتأتي للناس بدين جديد، وهذا ما اتهم به فعلا في السنوات الأخيرة. ولذا فمبتنياته في الاجتهاد تختلف عن مشهور علماء المذهب؛ فهو لا يلتزم بما سبق ذكره من المشهورات والخطوط الحمراء. ومثال ذلك: (العِصمة) تعتبر من الضرورات في الوعي الشيعي؛ فيتساءل الحيدري: "هل هي ضرورة علمائية اجتهادية أو عليها نصوص جليّة واضحة؟"
الحيدري يُؤكد أنها اجتهادية، وأن أول من قال بها (الشيخ المفيد)، وتسالم على هذا القول من جاء بعده، وبالطبع هو في نفس الوقت لا يدعو الناس إلى عدم الإيمان بعصمة الائمة-حاشاه- وإلا فهو مِمّن يرى الرسول والائمة وسائط الفيض الإلهي، إذن عقيدته في الأئمة أكبر بكثير من قضية العصمة، ولكن يدعو إلى إعطاء (المعذورية) لمن دل عنده الدليل على عدم العصمة، فلا يُضلّل ولا يُخرج من المذهب بحجة أنه أنكر ضرورة مذهبيه، بينما هي قضية اجتهادية.

3- نظرية وحدة المفهوم وتعدد المصداق:
يطرح القرآن الكريم مفاهيم متعددة عقائدية أو فقهية أو اجتماعية أو أخلاقية.
وهنا السؤال: لماذا القرآن دون السنة؟
لأن السنة نُقلَت بالمعنى؛ بينما القرآن نص إلهي.
الرؤية القائمة في المدارس الإسلامية سنة وشيعة؛ وعليها المدار منذ 1400 سنة، تقول: إن هذه المفاهيم لها مصاديق معينة؛ تعيّنت في عصر الصدور، ولا يمكن تجاوز تلك المصاديق. ومثال ذلك: عندما وضع رسول الله الزكاة في تسعة أمور، تبقى هذه الأمور ثابتة، لأنها فعل من معصوم، وفعله حُجّة وصالح لكل زمان ومكان. ومن ذلك قول رسول الله(ص): "أوفوا بالعقود". لا بد أن نرجع إلى زمان الصدور، ونطالع هذه العقود مثل الإيجارة والمساقاة والمضاربة والجعالة، فإذا وُجدت في زمننا عقود مختلفة ماذا نفعل؟!
الاتجاه الحاكم يُرجع هذه العقود الجديدة إلى ما يُماثلها من العقود في زمن الصدور، وفيها بعض التكلّف.
لماذا؟ لأن الحُجّية لهذه العقود المسماة في زمن الصدور، وهذه القضية سيّالة في كل أبواب الفقه.
مثال ثانٍ: القرآن يقول: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار". في زمن الرسول (ص) كان المجاور من الكفار للمسلمين، وحسب معطيات الزمان والمكان والحالة التي عليها المسلمين يجب أولا أن يُقاتل، لأنه يُشكّل خطرا على المسلمين أكثر من البعيد، أما الآن فاختلف المِصداق، لاختلاف الظروف الزمانية؛ مثل تطور الأسلحة والعولمة، فصار خطر البعيد يمكن أن يكون أكثر من القريب، ولذا المفهوم ثابت، لكن المِصداق متغير حسب الزمان والمكان.
مثال ثالث: القرآن تكلم عن بعض مصاديق البراءة، مثل اللعن والشتم، فهل هذه المصاديق ثابتة؟!
الرؤية العامة تقول ما دام القرآن لعن أو قال: "عتل بعد ذلك زنيم"، لا بد أن نلعن ونشتم، يعني أن المصاديق توقيفية أو أننا وحسب قول الحيدري نتبرأ بطريقة أخرى تنسجم مع ثقافة هذا العصر.
مثال آخر: أوقات الصلاة في القرآن الكريم مرتبطة بزمانها، كالظهر والعصر والمغرب، فهل هي توقيفية أو يمكن أن تتبدل إذا اختلفت المصاديق في مكان ما على الكرة الأرضية؟! فكيف تصلي الظهر مثلا ولم يوجد موضوعه حيث إن الحكم تابع للموضوع؟!
الرؤية العامة تقول بأنه إذا كنت في القطب الجنوبي، فإنك تصلي حسب توقيت مكة المكرمة أو كربلاء أو غيرها من المدن القريبة، وهو موضوعه غير ذلك طبعا يقول تعبدا.
أما السيد الحيدري فيرى أن المصاديق متغيرة، ولذا حسب رأيه يجب على علماء عصر الغيبة؛ أن يجتهدوا ويُخرجوا هذه المصاديق.
وقد يورد إشكال على السيد الحيدري، بأنه إذا قلنا بأن المصاديق متغيرة، فلن يبقى حجر على حجر، ويلزم منه تأسيس فقه جديد.
وقد رد بنفسه على ذلك، بأنه لم يثبت عنده أنه لا يجوز تأسيس فقه جديد. فإذا كان علماؤنا المتقدمين أسسوا فقها جديدا من القرآن الكريم والسنة، فأين المحذور في أن نجتهد مثلهم أيضا، ونؤسس فقها جديدا؟!

4- مدخلية الزمان والمكان في موضوعات الأحكام:
يواجه العالم الإسلامي الكثير من الأسئلة والاستفهامات والمشاكل، وأسباب ذلك تعود إلى ما يُصطلح عليه الآن بإشكالية الحداثة والمعاصرة وإشكالية الأصالة والغربة، وربما أُطلق عليها إشكالية الثابت والمتغير.
إن الإسلام ثابت وأصيل، ويعود إلى أصول تاريخية وصلت إلينا من قرون مديدة، بينما الحياة تفرض وتضيف المزيد من التحديات، وتثير التساؤل حيال قضايا مستحدثة بشكل مستمر، فكيف يمكن التوفيق بين الإسلام الأصيل وبين العصر المتغير؟!
وعندما نتحدث عن ثبات القوانين الإسلامية التشريعية وعدم قابليتها للتغيير، فإننا نعني بذلك ما ورد من أدلة تثبت أن النبي (ص) هو خاتم النبيين والمرسلين ورسالته خاتمة الرسالات، ما يعني أن كل التشريعات والقوانين التي جاء بها لا يمكن أن تنالها يد التغيير، وهذا ما نطقت به جملة من الروايات، ونورد هنا أحدها، فعن الإمام الباقر (ع) قال: قال جدي رسول الله(ص):"أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة؛ وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بينهما الله عز وجل في الكتاب؛ وبينتهما في سنتي وسيرتي".
وإذا ما ضممنا إلى هذه الأحاديث ما ورد في مجال بيان قدرة الشريعة الإسلامية على الاستجابة لكل المستجدات والظروف، فسيتبين لنا أن هذه القوانين قادرة مع ثباتها على مواكبة المتغيرات في كل العصور اللاحقة.
وقد حاول بعض العلماء حل الإشكالية في الربط بين الثابت والمتغير باتجاه إيجاد مناهج جديدة للنظر الفقهي، وأسهموا بجهود متميزة في هذا المجال، ومنهم السيد الإمام والسيد الطباطبائي والشهيد مطهري، والذي طرح في إحدى محاضراته أن الإسلام دين وأنه آخر الأديان وتعاليمه خالدة، ويجب أن يبقى حاملا إلى الأبد نفس المواصفات التي كان عليها يوم ظهوره، أما الزمن فهو متطوّر بذاته وطبيعته تقتضي التجديد والتغيير، وكل يوم يأتي بشي جديد يختلف عن سابقه، فكيف يمكن التوفيق بين الشيئين، وأحدهما ثابت في ذاته لا يتغير، والآخر متغير في ذاته لا يثبت؟!
إذن علينا الإذعان بأن هناك مشكلة لا يمكن علاجها بتلك البساطة، وهذه تذكرنا بمشكلة أخرى طرحها الفلاسفة الإلهيون وعالجوها، وهي ربط المتغير بالثابت أو ربط الحادث بالقديم، وهو أنهم اكتشفوا رابطا ثابتا أزليا من جهة، ومتغيرا حادثا من جهة أخرى، ومهمة هذا الرابط ربط المتغيرات والحوادث بالذات القديمة الكاملة الأزلية.
ويُمثّل الشهيد مطهري المشكلة من زاوية أخرى، حيث يرى أن عالمنا عالم التغيّر والتحوّل إلى أن يشيخ، وبعد ذلك ينطفئ ويموت، وينقضي عمره، فهل الدين كذلك، فله مرحلة زمنية وينتهي أو ليس كذلك؟ وإنما هو دائم باق بين الناس.
يُعالج هذه المشكلة بمقاربته بين الظواهر الاجتماعية التي تحتفظ بوجودها خلال عمرها لكونها حاجات بشرية أو وسائل لإشباع تلك الحاجات الإنسانية، وبين الدين وخلوده بما يمثله من حاجات طبيعية للمجتمع، فالحاجة الطبيعية كحب المعرفة والاستطلاع وحب الشهرة والجمال والرغبة في الأسرة والنسل، هي رغبات وحاجات موجودة في الطبيعة الإنسانية؛ في مقابل الحاجات غير الطبيعية أي العادات التي يعتاد عليها أكثر الناس، مثل شرب الشاي والتدخين، فإنها قد تصبح حاجات يحتاج إليها الإنسان ويرغب فيها بشدة، ولكن رغم ذلك، فإنه يتمكن من هجرها والتخلص منها، وإذا أردنا أن نثبّت الدين؛ فيبقى ويدوم، فلا بد أن يكون أحد هذين الأمرين: إما أن يكون بنفسه حاجة طبيعية أو يكون وسيلة لإشباع الحاجة الطبيعية، والدين يمتلك كلتا الميزتين، فهو بنفسه حاجة فطرية وشعورية للبشر، وكذلك هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات الفطرية للبشر، بحيث لا يمكن لغيره أن يحل محله. ولذا تناول فقهاء الإمامية في أبحاثهم الفقهية هذه المشكلة، وقد طرحوا مبدأ الاجتهاد كحل جذري لكل التحديات التي يواجهها الفكر الإسلامي على امتداد التاريخ، ولكن رغم ذلك ظهرت مشكلات في هذا العصر كان لا بد للفقه الإسلامي أن يحلها ويضع لها حلولا مقنعة، ومثال ذلك:
1- البنوك.
2- شركات التأمين.
3- التلقيح الصناعي.
4- حق التأليف والطبع والنشر والاختراع.
5- التأمين بكل أنواعه.
ولذا لا بد للفقهاء أن يُثبتوا للناس مقولة أن للإسلام القدرة الكافية على إيجاد الحلول والمشاكل التي تواجه عملية إدارة مجتمع حديث يعيش عصر التطور التكنولوجي والمعرفي بالدليل والبرهان في سياق المواجهة الفكرية والثقافية تجاه الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص.
بالطبع يرى الحيدري أن الاجتهاد لدى الإمامية وبالذات في القرن الأخير اقتصر على الفقه الأصغر مع أن الفقه حسب قوله يجب أن يشمل الدين بجميع أبعاده العقدية والفكرية والأخلاقية تمشيا مع الآية الكريمة "ليتفقهوا في الدين"، والدين يشمل الكل، وليس الفقه في الأمور العملية فقط.
ولذا يؤكد الحيدري دائما أن الفقه لم يستطع أن يستجيب أو يُجيب على كل المشكلات التي واجهته.
إن طبيعة المنهج الذي ارتكزت عليه حركة الاجتهاد فيما مضى أنتجت الفقه الموجود بين أيدينا، وبالتالي نحن بحاجة إلى منهج جديد ترتكز عليه الحركة التجديدية لإحياء دور الدين في حل مشكلات الإنسان المعاصر.
وكان رائد هذا المنهج التجديدي هو السيد الإمام في إدخال عنصري الزمان والمكان في عملية استنباط الأحكام وأثرهما في فهم النص الديني، وبالتالي أحدث رابطا بين الثابت من النصوص الدينية والمتغير من الزمن، وهي أن كل الأحكام تابعة لموضوعاتها، وأن الزمان والمكان عنصران أساسيان في فهم الموضوع، ولعلَّ ما دعا السيد الإمام لإدخال عنصري الزمان والمكان في عملية الاستنباط، هو ضرورة انطلاق الفقه في احتياجات الناس بعيدا عن المسائل الفقهية النظرية التي تبقى مجرد مباحث علمية صرفة، ولذا إذا عمل الفقيه في إطار هذا المنهج؛ فمن المؤكد أن استنباطه وما يأخذه من الآية أو الرواية سيكون قريبا أكثر لما ينبغي أن يكون عليه، أما إذا لم يدقق في هذه الشروط والمواصفات؛ فسيبتعد عن ذلك، فأساس هذه النظرية يبتني على إدخال عنصري الزمان والمكان في عملية تشريع الأحكام، أي إحاطة الفقيه الشاملة بخصوصيات تشريع الأحكام في زمن صدور النص، وملاحظة أسباب النزول للآية والصدور للرواية ومطابقة ذلك ومقارنته مع الواقع المعاصر والمستجد.
إن عملية التشريع بملاحظة هذين العنصرين لا تتناول تغيير الأحكام وتبديلها، وإنما الأخذ بعين الاعتبار شروط الموضوعات وتبدلها، وعلى أساس ذلك يتم إصدار الحكم الجديد تبعا لتغير الموضوع المستجد الذي طرأت عليه عناوين جديدة.

ــ دور الزمان والمكان في فهم تعارض الأدلة:
ومثال ذلك، نأتي إلى حكم صادر من الإمام علي (ع)، ونجد أنه صدر حكم آخر يُخالف ذلك الحكم من الإمام الهادي (ع)، وتفصل بينهما مائتا عام، في هذه الحالة، فإن علم أصول الفقه المتعارف والمشهور يقول: وقع تعارض بين النصين، فلا بد من الاستناد إلى قواعد الجمع العرفي أو المرجحات السندية أو التساقط.
أما من يقول بنظرية الزمان والمكان ومنهم الحيدري في كثير من الأحيان يكون ذلك الحكم الذي صدر من الإمام علي صدر ضمن ظروف يعيشها، ولو كان الإمام علي في ظروف الإمام الهادي لصدر منه هذا الحكم الذي صدر من الإمام الهادي.
إذن أين التعارض؟ لا يوجد حسب هذه القاعدة، لذا والكلام للحيدري يجب عليّ أن أذهب لأتعرف على الظروف التي كانت محيطة بالإمام علي (ع) حتى إذا كنت أعيشها؛ فالحكم ما قاله، وإذا عشت الظروف التي عاشها الإمام الهادي (ع)؛ فالحكم ما قاله.
وهذه بعض الأمثلة:
- كان موقف الإمام الحسن (ع) الصلح والمهادنة، وموقف الإمام الحسين (ع) القيام والجهاد. هل يوجد تعارض؟!
بالطبع لا، وإنما لاختلاف الظروف المحيطة بهما، فلو اختلفت الظروف لكان العكس.
- الإمام الصادق (ع) قال لوكلائه: خذوا الخمس، بينما الإمام الجواد (ع)، قال: لا تأخذوه.
المنهج المشهور يقول بأن التعارض حاصل، أما المنهج الآخر فلا يرى في ذلك تعارضا، لأنه يستحضر تفسيره للظروف المحيطة بالإمامين الصادق والجواد (ع)، فعندما كانت الحالة المادية جيدة في زمن الإمام الصادق وجّه بأخذ الخمس، وعندما كان هناك عُسر في الحالة المادية في زمن الإمام الجواد وجّه بعدم أخذه، فلذا عندما جردنا كلام الصادق والجواد (ع) عن الظروف المحيطة بهما وقع بينمها تعارض وتضاد حسب المنهج المشهور.
- حكم الرّبا: هل يصدق هذا الحكم في المجتمعات التي يوجد فيها تضخم أم لا يصدق عليها ذلك؟!
المنهج المشهور يقول بأن الزيادة هي ربا بقطع النظر عن الزمان والمكان. أما الاتجاه الآخر؛ فيُناقش موضوع الربا بين (عصر صدور النص والظروف المحيطة به) و (عصر وصوله والظروف المحيطة به).
- أكل لحم الخنزير: حكمه الأولي الحرمة، ولكن بملاحظة شرط ثانوي وهو الاضطرار يُصبح حلالا، فلا يمكن أن يدعي أحد بأن حكم الجواز نسخ الحكم الأصلي، وهو حرمة لحم الخنزير، وإنما عندما تغير الموضوع تبدّل الحكم.
- حكم الشطرنج: في الاتجاه المشهور الحرمة بملاحظة ذكره في الأحاديث، وحسب قاعدة الاشتراك؛ فإنه حرام في كل زمان ومكان.
أما عند الاتجاه التجديدي، فيرى حليّته لأن موضوعه تغيّر فبدل أن كان موضوعه اللهو والقمار، صار موضوعا آخر.
ومن هنا نقول بأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وكذا حرامه مع حفظ شرائط الموضوع، فيبقى الحرام حراما، والحلال حلالا.
أما إذا تبدّل الموضوع، فما يحصل هنا ليس نسخا للحكم، ولكن ذلك الحكم لا ينطبق على الموضوع في الخارج المعاش واقعيا.

الآثار المترتبة على نظرية الزمان والمكان :
من أبرز الآثار أن ينفتح الفقيه على الواقع الاجتماعي للموضوعات الفقهية، وذلك أنه توجد مقولة فقهية عند الاتجاه المشهور تقول بأن الموضوعات من واجبات المكلّف، بينما استنباط الأحكام الشرعية من واجبات الفقيه. وهذا هو المنهج التقليدي السائد بين الفقهاء.
وتجلى ذلك في مناقشة حكم المساهمة في البنك الأهلي التجاري، حيث وضع الفقيه القاعدة من حيث الحرمة والحلية في ربوية البنك أو عدمها، وترك تشخيص الموضوع للمكلّف، فرأينا اختلاف التشخيص عند وكيلين لنفس المرجع الواحد، فأحدهما يقول بالحرمة، وآخر يقول بالحليّة.
مثال آخر، يقول أحد زملائي في العمل، أنه في مجموعة دينية تحوي عددا من المشايخ في برنامج (الوتساب)، حصل نقاش فيما بينهم حول خمس المتبقي في (تانكي البنزين)، هل فيه خمس عند حلول السنة الخمسية أم لا؟!
شيخ يقول: بلى فيه خمس، وآخر يقول: لا.
وأصل الاختلاف راجع إلى تشخيص الموضوع على أساس المؤونة من عدمها، وأما أصل الحكم واحد، وبالتالي الاختلاف في التشخيص.
والسبب أن الفقيه في الاتجاه التقليدي يمشي وفق المنطق الأرسطي الذي يعتمد الكليات، فالأحكام مسائل كلية، إذن وظيفته بيان الحكم فقط.
أما عند الاتجاه التجديدي، فيرى أن الحكم يستحيل بيانه من دون الموضوع، وذلك أن الفقيه يُريد أن يقول مثلا هذا حكم، ونحن نسأله: حكم ماذا ولماذا؟ وما هو؟ فلا بد أن يترتب هذا الحكم على موضوع.
ونتيجة لهذا الفقه السائد في فصل الحكم عن الموضوع ابتعد الفقيه عن الواقع الخارجي وعن تشخيص الموضوعات، فأخذ يبني أحكامه على فرضيات، وحيث إنه كان بعيدا عن الواقع؛ لم تكن افتراضاته منبثقة من الواقع دائما، وإنما من الروايات التي كانت بدورها منبثقة من واقع اجتماعي يختلف تماما عن واقعنا الاجتماعي، ولذا تجد كثيرا من المسائل في الرسالة العملية موضوعها مأخوذ من الروايات، وليس من واقعنا المعاش! وعليه نحتاج إلى آلاف الاستفتاءات لكي تجيب على ما نعيشه في الواقع.
ويمكن تلخيص النتائج والآثار المترتبة على نظرية الزمان والمكان في أن الحكم الشرعي مرتبط بتغير الموضوع، وليس استثناء من الحكم الأولي. وبذلك يخرج الفقيه من حالة البحث في الرواية وموضوعها في زمن الصدور، إلى حالة الارتباط بالمجتمع والواقع الاجتماعي والظروف التي تحكم ذلك الفقيه، وهي بالتالي تعطي للبُعد الاجتماعي دورا مهما في عملية التشريع واستنباط الحكم الشرعي.

5- المرجعية الشمولية في نظر الحيدري:
لنبدأ بالشروط المطلوبة في المرجع الذي يتصدى لإدارة شؤون الشيعة.
في عصر الغيبة الكبرى، لا بد لمعرفة الشروط أن نستعرض بداية المسؤوليات التي ألقيت على عاتق الإمام في عصر حضوره؛ لأننا والكلام للحيدري نعتقد في مدرسة أهل البيت أن المرجع في عصر الغيبة الكبرى يقوم بدور أسس له أئمة أهل البيت (ع) في عصر حضورهم، وعندما نرجع إلى تاريخ الإسلام وإلى أدوار رسول الله (ص) وإلى دور الأئمة (ع)، نجد أن رسول الله كان يقوم بأدوار متعددة، ومنها:
- تلقي الوحي، وهذا مختص به دون غيره؛ وأغلق بابه بعد رحيله.
- بيان الدين وتفسيره لقوله تعالى: (لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم).
- إقامة هذا الدين في حياة الناس، وهو ما يتعلق بالإمامة السياسية وإقامة الدولة على أُسس دينية في المدينة المنورة بكل أبعادها من إدارة الحروب وإدارة المجتمع والقضاء بين الناس بما يتناسب مع زمانها ومكانها.
وهذا ما قام به أئمة أهل البيت باستثناء تلقي الوحي، وإقامة الدين في حياة الناس إلا في خلافة الإمام علي وجزء من خلافة الإمام الحسن. أما بقية الأئمة؛ فكانوا يقومون بوظيفة بيان الدين و تفسيره، وفي إعطاء رؤية كاملة عن جميع المعارف الدينية، وبعد غيبة الإمام الثاني عشر أوكلت هذه المهمة للفقهاء، وحيث أن دور الأئمة ليس منحصرا في بيان جزء من المعارف الدينية؛ وهي المرتبطة بالحلال والحرام، وإنما كانوا يتصدون لبيان منظومة المعارف الدينية كاملة، يعني في ما يتعلق بالقرآن الكريم أو التفسير أو العقائد أو الأخلاق أو الحلال والحرام أو الأمور الفردية والاجتماعية، ولذا نفس هذا الدور لا بد أن يقوم به المرجع الديني، وعليه يجب أن يكون مرجعا شموليا في مجموعة المعارف الدينية، ولا يُكتفى منه أن يكون مرجعا في خصوص الحلال والحرام.
ولذا ميّز الحيدري في مشروعه الذي طرحه للمرجعية الشمولية بين (المرجعية الفقهية) و (المرجعية الدينية) حيث قال: لا يُكتفى من المرجع أن يكون ملما ومتخصصا وأعلم في مسائل الحلال والحرام فقط، وإنما لا بد أن يكون على درجة عالية من التخصص في مجموعة ومنظومة المعارف الدينية جميعا. وهذا حسب قوله ما عهد من العلماء المتقدمين كالمفيد والطوسي. فتجد أن الواحد منهم فقيها ومفسرا ومتكلما، ويتضح ذلك من خلال تراثه الذي تركه، واستمرت هذه الحالة إلى ما قبل مئتي عام، ومنذ ذلك الحين بدأت الحوزات العلمية، وخاصة في النجف الأشرف باتجاه أحادي البُعد. وأصبحت المرجعية للأعلام الذين تخصصوا في الفقه الأصغر من غير أن يُعتنى بالشؤون والدوائر المعرفية الدينية الأخرى بالمستوى المطلوب. ودليل ذلك أن الدرس الأصولي أو الفقهي في الحوزة نما بشكل واسع، وأما المعارف الأخرى كالتفسير والعقائد لم تأخذ دورها كما ينبغي.
وفي المجمل العام إن الشروط التي يتوفر عليها المرجع في عصر الغيبة الكبرى هي نفس الشروط التي أوكلت للمعصوم مع الفارق الموجود بين المجتهد والمعصوم. إذن لا نكتفي بمرجعية فقهية بالمعنى المصطلح، وإنما لا بد أن تكون مرجعية دينية أو شمولية.
والأدلة على ذلك من القرآن والسنة هي قوله تعالى: "ليتفقهوا في الدين"، فالدين ليس خاصا بالحلال والحرام، وإنما مجمل المعارف الدينية. والحديث يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"، وحديث آخر: "العلماء حصون الإسلام".
إذن هل ينحصر الإسلام في خصوص الحلال والحرام؟ وهل وظيفة الأنبياء بيان الحلال والحرام فقط؟ أم بيان مجمل المعارف والنظم الدينية كاملة.
ولذا تجد نصف آيات القرآن الكريم تكلمت عن العقائد؛ بينما الآيات التي تكلمت عن الحلال والحرام لا تتجاوز خمسمائة آية، إذن لماذا هذا الاهتمام الكبير بهذا الجزء الصغير نسبيا وعدم الاهتمام الكافي بباقي المنظومة الدينية؟
ولذا لا بد أن يمتلك المرجع هذا البُعد الشمولي في المعارف الدينية لكي ينوب عن الإمام في عصر الغيبة.
وهنا نقطة أخرى، إن إلمام المرجع بهذه المعارف الدينية تعطيه معرفة أكبر بالنصوص الدينية، وتكسبه معرفة بالواقع المعاش لاهتمامه بالإضافة إلى علوم الدين الاهتمام بعلوم الحياة لمدخليتها وأثرها على قراءة النص الديني. وعليه يكون المرجع في نظرته للمجتمع الشيعي أو الإسلامي أو الإنساني بشكل عام أكثر موضوعية وأكثر شمولية وأكثر اعتدالا، ويتلمس للمختلف (المعذورية) في الوصول إلى قناعاته أيّا كانت.
إن أيّ مشروع له هدف سامٍ يطمح في الوصول إليه، وما لم يكن له هذا الهدف؛ فليس له أية قيمة عملية على المستوى الإنساني؛ فيبقى مشروعا نظريا غير قابل للتطبيق، ومكانه أرفف المكتبات فقط، ولذا ما فهمته من السيد الحيدري حسب نظري القاصر هو تقديم قراءة مختلفة عن الدين تجعله منهجاً وطريقاً صالحاً للبشرية في كل زمان ومكان يوصلهم للسعادة المنشودة في الدنيا والآخرة.

والأهداف التي رصدتها في طرحه:
1- تغيير المنهج المتبع في الحوزات المقتصر على الفقه والأصول فقط، واستبداله بمنهج يقوم على القرآن الكريم بشكل أساسي فهو النص الديني الإلهي الذي وضع القيم العامة للبشرية، مع عدم إغفال السنة بحيث تكون في طوله؛ وليس في عرضه. والاهتمام بالعلوم الإنسانية الأخرى بحيث يتخرج الطالب على قدر واسع من المعرفة الدينية تجعله ذا إدراكات واسعة في كيفية عرض الدين في المجتمع؛ لكي يُنتج مجتمعا واعيا معتدلا متسامحا ينظر للآخرين المختلفين معه في قناعاته بنظرة تسامح أخوية؛ تلتمس له العذر فيما وصل إليه هذا الآخر من قناعة، وعليه يرتفع التكفير والتضليل والتفسيق من المجتمعات الإسلامية.
2- عدم إشغال الناس والمؤسسات الدينية ببعض المفردات الجزئية في الدين والاستغراق فيها وجعلها أصلا من الأصول، وعليه يتم تفريق وتمزيق المجتمع إلى فئات وجماعات من خلال هذه النزاعات الثانوية.
3- طرح قيم الاعتدال من جانب طلاب العلوم الدينية الذين استوعبوا روح الإسلام وأهدافه العليا من خلال هذا المنهج الشمولي الذي تعلموه في الحوزة داخل مجتمعاتهم.
باختصار مشروع الحيدري للمرجعية الشمولية هو إحياء المنظومة والمعرفة الدينية ببُعدها التفسيري والعقدي والفقهي (الفردي - الاجتماعي)، ولذا مَن يقوم بهذا العمل أن يكون واجدا لهذه المنظومة الدينية كاملة، يعني أن يكون موسوعيا، وهذا ما كان عليه أعلامنا المتقدمين كالمفيد والطوسي والمرتضى.
العنصر الأخير والأهم حسب اعتقاد السيد الحيدري؛ أن ما قُدِّمَ من قراءات لمباني المذهب من المفيد الى عصرنا هذا إنما قُدِّمَ على أسس ورؤى كلامية وفقهية معينة، وهناك قراءات ورؤى أخرى تستند على قواعد كلامية وفقهية أخرى يمكن من خلالها أن نقدم قراءة أخرى لقواعد المذهب.
وفي الختام أرجو أن لا أكون قد أطلت عليكم حيث أني حاولت بما استطيع لملمة الموضوع؛ وإلا فهو طويل وتخصصي.

تقبلوا تحياتي، وأسال الله العلي القدير أن ينفعني وإياكم لما فيه الخير الصلاح للمجتمع وللأمة الإسلامية جمعاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


جاسم بن محمد الجبارة

الجمعة 25 جمادى الآخر 1438هـ
الموافق 24 مارس 2017م

 

 

منتدى السهلة الأدبي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 04:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

ما ينشر في منتديات الطرف لا يمثل الرأي الرسمي للمنتدى ومالكها المادي
بل هي آراء للأعضاء ويتحملون آرائهم وتقع عليهم وحدهم مسؤولية الدفاع عن أفكارهم وكلماتهم
رحم الله من قرأ الفاتحة إلى روح أبي جواد