ثيمة المرأة والمرآة في سفر المرايا
* أحمد مبارك الربيح
وأنت فوق عربة الناقد تتملكك سنة من الإحجام، إذ كيف لوريقات عابرة أن تكشف النقع والغبار عن التفاصيل الدقيقة لتلك البقعة المحيطة كي تعطي انطباعا عاما عنها، سيما وأن العمل القصي الذي بين يديك نتاج قلم ليس بقليل الخالات في صحراء السرد، وقضاياه التي يتناولها في مجموعته القصصية الموسومة بـ (سفر المرايا) متعددة كعصارة تجربة طويلة مسكونة بتراث المكان وقلق الزمان وعطر المرأة مخلوطة بمشاكسة طفولية، بحيث يصعب تناولها كلها، ولذا يتراءى لك فحص التربة لجاما تحكم به جموح القلم وتداعي الأفكار.
وعلى هذا الأساس انتخبت عددا من القصص في المجموعة للتعليق عليها لأستظهر انطباعا جزئيا يقيم بعض الجوانب من تجربة السيد حسين العلي في تلك المجموعة. والكاتب القاص يتبلس في سردياته أسلوبا نثريا بسيطا كثيرا ما يلجأ فيه إلى استخدام القوالب الجاهزة الدارجة محليا، غير منشغل بسلطة التراكيب اللفظية وألقها، أو قربها من جماليات اللغة الشاعرة عدا جزء من تعابير متناثرة على صفحات المجموعة، وهي ذاتها بساطة اللباس الأحسائي وبساطة غترته البيضاء المسدلة، وأحيانا تجنح تلك البساطة إلى ما يشبه التهويم في الفكرة بشكل صادم، بحيث يصعب في بعض الأحيان التقاط مراد الكاتب من ذلك العبث اللغوي. وربما يصدق تعبير الكاتب عن ذلك في قصة طبق ص (60): سحبت خيط السيفون، ففاضت مياه كثيرة وبقوة شديدة أغرقتني، وأغرقت الحمام، والسوق والمدينة، وأزالت كتابات الأبواب، فغرقت لا أعرف شيئا!!!
سفر المرايا، عنوان يشدك من الوهلة البكر نحو آفاق بعيدة منذ تركيبته الجنينية اللغوية الأولى، فهو كتاب طويل أي السفر يقترن بالمرايا حيث تنعكس الصورة والصوت في فضاء رحب وصدى يكاد لا تسمع رجعه من اللامحدودية، وهذا مما يفتح للقارئ شهيته ليلقي حبال قراءته وأشطان أفكاره في بئر الأسفار.
لقد استفاد القاص من المرآة كثيرا في مجموعته من جهة الترميز، و"هو بحد ذاته عملية تختزل المرموز إلى محض رمزي، بينما يحتكر الرامز أو صانع الرمز كل الذاتية لحسابه" كما يذهب جورج طرابيشي. والترميز "بوصفة مستوى من التعبير أو نمطا من أنماطه الفنية التي تعتمد إمكانات النص التعبيرية غير المحدودة وقدراته على الإيحاء المتنوعة تبعا لاختلاف ذهن القارئ وإمكاناته الخاصة في التأمل والتفسير والنفاذ إلى الدلالة واكتشافها وبما يجعل من التوظيف الفني للرمز أداء فنيا راقيا ومعينا لاينضب ومصدرا للإشعاع الموحى الثر" (تمهيد في النقد الحديث: روز غريب).
وسنتطرق لاحقا إلى كيفية استفادة القاص من هذه الرمزية للمرآة في تمرير مآربه وتجاوزاته لمجتمعه المحافظ والتعبير عن التناقضات التي يعيشها مجتمعه ويعيشها هو داخل نفسه، ليطرق بكل أريحية مواضيع ذات خطوط حمراء عن الجنس والخمرة وفيروز والسياسة. ومن جهة أخرى يستشرف من خلالها المستقبل، وكأنه أمام مرآة سحرية تكشف الغيب، كما أشار القاص في قصة هناك ص (109): "المرآة التي نرى فيها وجوهنا ولا نراها، عجبا من هذه المرآة؟ كيف يكون هذا الأمر، شيء ترى فيه وجهك ولا تراه؟ سحر؟"، ويكمل القاص في نهاية تلك القصة وكأن مشاهدا من ما بعد الموت تتجلى في تلك المرآة.
بقي أن أشير قبل الانتقال إلى تناول نماذج من قصص المجموعة إلى أمر مهم جدا فيما يتعلق بعلامات الترقيم وصف الجمل، فما من شك أن لها أثر عظيم في تعيين مواقع الفصل والوقف والابتداء، وأنواع النبرات الصوتية والأغراض الكلامية، تيسيراً لعملية الإفهام من جانب الكاتب أثناء الكتابة، وعملية الفهم على القارئ أثناء القراءة. والحال كذلك بالنسبة إلى الأخطاء الإملائية التي وقعت في أكثر من موضع في المجموعة، مثل هذه الأمور من الأهمية بمكان الاهتمام بها قدر الإمكان في الطبعات القادمة لمكانة القصة القصيرة وكونها لون من ألوان الأدب الرفيع لا تتأنق ولا تزدهي إلا بزينة تلك العلامات وحلية الإملاء.
1ـ قصة حبة دواء ص (7): تدور أحداثها حول شخصية تعمل في وظيفة مستخدم في القطاع الصحي كما يبدو، يحاول مراجعة مقر عمله لغرض شخصي خاص يغطي به مخاتلة اجتماعية اقترفها ويخشى من نتيجتها.
القاص في القصة هذه استخدم أسلوبا محرضا على متابعة الأحداث، فهو لم يكشف الستر من اللحظات الأولى، بل بدأ يصف اعتلاجات (التيه والخوف والضياع) لدى الشخصية الرئيسة في تلك القصة، وشيئا فشيئا تتبين خطوط الحبكة القصصية، لقد نجح الكاتب في تصوير اضطراب الذاتية أو الأنا لدرجة تقرب من حالة انشطار الشخصية عن اسمه حينما أشار القاص أن لاسم الشخصية أصابع تتحرك وتفحص ملامح صاحبها، مثل هذه الضلالات التي صورها في لحظة ضعفه تلك، فيها دلالة على أن الحدث الذي اقترفه أثر عليه لدرجة أنه أصابه باضطراب نفسي واضح في ما وصفه القاص من اعتمالات نفسية لم تكد تهدأ طوال أحداث القصة، وفي الوقت ذاته يتلمس القاص بعض العذر للفعلة التي اقترفتها الشخصية عبر تكهنات إمام المسجد التي استعرضها في صدر تلك الشخصية، أو حتى على لسان الاسم الذي تنبه في الخاتمة للحالة الصعبة فتأسف.
القصة مليئة بتناقض الشخصية من خلال استعراض خدماته للقطاع الذي يعمل فيه وأنه من واجبهم تغطية سوءة عمله نظير تلك الخدمات التي قدمها لهم أثناء خدمته، فهو لم يطلب الكثير منهم، فقط: حبة دواء لتأتيها الدورة الشهرية، ولا تذهب نفسه حسرات بتلك الفضيحة! وإقامة الحد عليه! لقد نجح القاص في إلى حد كبير في التصوير النفسي لمعالم تلك الشخصية، وترك الخيارات مفتوحة للقارئ في تكهن ماذا حصل: هل فعلا نال حبة دواء؟.
الخاتمة في هذه القصة لم تكن بتلك الانفتاحية وربما كانت صادمة حينما أنهاها القاص ص (11) بأن الاسم أهم من الروح!! فبالنسبة لي لم أدرك الارتباط بالإقفال هذا مع الأحداث المتناقضة للقصة.
2ـ قصة غيمة حميدة (17): القاص مسكون بالتحليق، ويهوى الغموض والتراث والأنثى، وهي حاضرة كلها في هذه القصة والتي بدأها بقلق الأسئلة، والتي أطلقتها في نهاية المطاف أنثى هي حميدة، وتستغرب لم تحضر الأنثى في أسئلة كونية وفضاءات لا محدودة عن الحقيقة والجمال، عند رجل عجوز تجاوز السبعين يفترض أنه يعيش مرحلة الحكمة وفلسفة ما عاشه من حياة؟ ويبدو أن هذا الرجل السبعيني مسكون هو الآخر على رغم تجاذبات تلك الأسئلة، بذاكرة تمكنه من الوصول إلى جيبها، لا بل إلى صدرها وبكل وضوح بين بلورتين من زجاج، شفة، كحل، فيعود من تجريده إلى ماديته، فهو على حكمته إلا أنه لا يقاوم البنطال الأزرق، ولا القميص بدون أكمام، ولا القدمين العاريتين وهما ترقصان فوق العشب!!
هذا الشيخ العاشق الذي سلبت قلبه حميدة، والتي دائما ما يستحضرها في تفاصيل حياته الداخلية، وفي حجر الدومينو، وعلى طاولات المقهى، بل حتى مع زوجته المشغولة مع إزالة غبار يوم الأربعاء. مسكين هذا العاشق الشيخ، فهو لم يكن سوى غيمة تلاشت مع بخار الماء، ولم يرتو من نهر حميدة، وما انهزامه وهو يلعب الدومينو إلا تعبير عن انكسار رجل واستسلامه لخوفه من خاتمته فهو دائما يدفع ثمن الشاي، وهو ثمن حياته.
كان حريا بالقاص أن يتعامل في هذه القصة مع حميدة تعاملا أكبر من أنها كائن خرافي كأنه قادم من عالم الديناصورات، كان حريا به أن يقفز على جراح السبعيني وعلى نزواته المادية ليكشف لنا معان في حب أكثر حبا وإشراقا، كان حضور حميدة حضورا ماديا وأحيانا حضورا ملائكيا على خجل، لكن ليست بتلك الصورة التي تفسر لنا: كيف كان لحميدة أن تشعل ذلك الرجل ولما تخمد جذوتها حتى جاوز السبعين!!.
3ـ قصة رجل ص (21): تدور فحوى القصة حول رجل مهنتة تنظيف دورات المياه، وكيف يداري بمشاعره نظرة المجتمع من خلال قناع الكذب والإدعاء بحبه للرسم وتنسيق الزهور لامرأة كي يتشارك معها في رغباتها ومشاعرها المرهفة، ويستعرض القاص خلال تلك القصة نظرته للذكورية أو الرجولة والفقر وعلاقتهما بمهنته، ويبدو من خلال التحليل النفسي لتلك الشخصية بناء على هرم الاحتياجات التي صنفها إبرهام ماسلو، أن الحاجات الأساسية وقاعدة الهرم لم تشبع بعد، وهذا انعكس بشكل سلبي على تقديره لذاته، وهذا المعنى حاضر في تناوله السطحي لمعنى الذكورة وحصره في الجوانب الشهوية والتي يكتفى لسد حاجتها بالصابون مثلا، أو إطفاء صوت الجسد وتحديد عمله فقط في إفراغ ماء المثانة.
الفقر الذي ألقى بكلاكله على حياة الشخصية أثر على النظرة إلى الأنثى، فهو واستكمالا لنظرته إلى الذكورية المادية، ينظر إلى الأنثى وهي تملأ خياله وتتمطى أمام نافذته عارية الصدر، لكنه لا يستطيع قطف الثمرة، فيكيل إليها تهمة التمسكن للتمكن، وأنها آفة الأرض وعلتها في تناقض واضح بين احتياجه المادي لها وبغضه الشديد لها لعزة منالها.
تتجلى في هذه الحكاية الإنسانية في هذه الشخصية، فهو يحب مهنته ويتماهى معها ومع الصابون والصدى والغناء، لكن قلة ذات اليد تحول بينه وبين تحقيق رغباته، هذا الوضع جعل القاص يبتكر له نافذة تعود به إلى الخلف سواء كان تفاحة انشتاين، أو دودة أو حذاء، ربما يتغير الوضع فيعود رجلا من جديد ولا يحتاج إلى قناع الكذب!!
يلاحظ على هذه القصة وعلى عدد قصص المجموعة ارتهانها للحوار الذاتي، وتحكم السارد في شخصياته وإرغماهم على تبني وجهات نظره، وربما كان لطبيعة القصة القصيرة أثر في ذلك، إلا أن باستطاعة القاص إدخال تقنيات الزمان والمكان والحوار الخارجي بشكل صريح لخلق جو من التنوع القصي والحكائي.
4ـ قصة مرايا الكلام ص (33)، وقصة جيران ص (43): في هذه القصة وفي غيرها من قصص المجموعة تكثر الاستبطانات الداخلية للشخصيات وفي بعضا يتحول إلى مونولج طويل كما هو في هذه القصة، وقد أضاف القاص على هذا واضعا المرآة أمام الشخصيات وكأنها صدى يتصف بالشفافية ونقل الاستبطانات دون مواربة أو تصنع، والأمر الآخر في استخدام المرآة الشعور بالحرية والانفلات من الرقابة حتى من نوازع النفس، ففي هذه القصة يكشف القاص دون مواربة اشتهاءات الشخصية الجسدية لما ترهلت زوجته، واعترافه بعلاقته غير السوية مع الخادمة ذات الجسد الرائع والأنوثة الطاغية والشفاه الطرية، وكيف كان يتمنى في سره وأمام المرآة أن يخرج مع الخادمة أمام زوجته عرايا علها تموت من المفاجأة، هكذا تراود الشخصية الأفكار ولكنه لا يقدر على فعلها فيلجأ حينئذ لحديث المرآة ليعيش معها حالة سكر يفصح فيها عن رغباته.
ويطغى هذا الأسلوب ويستحضر الجنس والشراب بكل جرأة، ورغم محاولات التوقف من قبل الطرف الآخر لإسكاته أو صفعه حتى، إلا أن المرآة تستمر في الحديث وتسهب في الكلام الحرام لتبرير اللجوء إلى الشراب حتى يتقبل أموره بحلاوتها ومراراتها، أو حول الحصول على أنثى أخرى، فالحياة قصيرة وهو في عز الشباب، وزوجته على طيبتها إلا أنها لا تعرف كيف تبدو كأنثى! هذا الاستعراض الحياتي كله لكل تلك الأحداث والتبريرات كان يدور في فلك ثابت وعلى كرسي حلاق أمام المرآة التي لم تسكت عن الكلام المباح.
بينما في قصة (جيران) حاول القاص أن يسكت إلى المرآة وهي صامتة بجانب فراش الشخصية، ويلجأ إلى ثيمة الحلم البديل في استعراض ذكرياته الأولى في أول منزل: وصية والده، علاقته بإخوته، أحوال جيرانه من صالح وطالح، بناء مستقبله في بيته الجديد، الوصول إلى الفراغ وغرق الأسئلة، ومحاولة اللجوء أخير للحلم للعودة إلى الطفولة الأولى والجيران من خلال المرآة الصامتة. لقد استخدم القاص المرآة مطية في تينيك القصتين مرة متحدثة ومرة صامتة، واستخدمها في قصص أخرى ثيمة أساسية وتكوينا رئيسا في نصوصه، تتحدد من خلالها البؤرة التي يدور القص حولها، حيث تتضح للمرآة القدرة على استقطاب واستدعاء الأفكار لدى القاص للتعبير عن كينوناته الداخلية عارية أمامها.
5 ـ قصة خبز موسى ص (53): من غيمة حميدة إلى خبز موسى تتوارى أسماء الشخوص خلف الأحداث والأفكار، ولا نكاد نلمس اسما صريحا لشخصيات القصص، فقد حضر الاسم الصريح بداية مع غيمة حميدة وتوارى حتى منتصف المجموعة حيث خبز موسى، وهذه ملاحظة لا أدري إن كان لها قصد من القاص أم جاءت هكذا، إلا أنها جديرة بالاستكناه والتفسير، فلربما كان لطغيان المرآة أثر في ذلك، فهي كاشفة وبالتالي لا تحتاج إلى الأسماء، ربما!
في قصة خبز موسى تتجلى الإنسانية والحنين إلى الخبز بطعم الملح والرماد، وهو حنين إلى الخبز باعتباره يتخذا من الوجود رمزا، ومن الكرامة معلما يختفي عن أعين الذين يأتون آخر الليل من جديد لتفتيش البيوت وأيقاظ الناس.
وهو حنين إلى الخبز باعتباره يمثل خطوة بين الموت والحياة وبينهما ضحكة، الخبز الأمل الذي لا يدع الأمس يسحق جمال اليوم، الأمل رغم صورة الأم التي لا تستطيع الوقوف فتزحف إلى الحمام، وقد يختفى ذلك الأمل مؤقتا أو قد يعتقل، إلا أنه لا يعدم، لأن موسى ـ بكل بساطة ـ لم يذهب, بل عاد حيث كان الأمل مع آخر خبزة بطعم الملح بطعم الرماد. قصة متخمة بالمعاني الإنسانية الجميلة وقدرة عالية من القاص على استخدام التكثيف والإسقاط باحتراف.
6ـ المرأة في قصص زنبرك ص (61) وعطش الماء ص (71) والعودة إلى الساحة ص (77) وبسرعة ص (83): "لاشك أن الكتابة عن المرأة هي كتابة عن الإنسان وعن المجتمع، فهو موضوع ما يزال يستمد مشروعية استمراره وحضوره في مجالات الإبداع لما له من خصوصية في حياتنا الاجتماعية" بديعة الظاهري. وقد ذكرنا سابقا أن المرأة كانت حاضرة بشدة في قصص (سفر المرايا)، وفي ثنائية المرأة/الرجل، ثنائية تحكم الكون القصي ولكنها سرعان ما تنهار لتكشف عن مفارقة تجعل من بعض قصص المجموعة ذكورية بامتياز.
فرغم أن القصص الأربع وغيرها تحدثنا عن نساء متعددات، زوجة ذلك الثري المطروح على فراش الفراق، أو تلك الأنثى التي تقدمت مطرزة كفيها بالحناء ذات العينين الناعستين وخصلة الشعر المجعد في قصة (زنبرك)، أو الخادمة ذات المؤخرة التي مزقت تذكرة السفر وعادت إلى البيت بعد نوبة مفاجئة من المرض إثر شبه خيانة من الزوج وإصرارها على الرحيل في قصة (عطش الماء)، أو مريم ذات الصدر غير صدور كل النساء أو نعيمة صاحبة أول قبلة فوق شفتي شخصية قصة (العودة إلى الساحة)، أو الجارة العجيبة الغبية الذكية المتناقضة والتي كاد محمود أن يقع فريسة في شباكها كما وقع أبوه لولا أنها ذكرت أم محمود في مذكراتها فتركها وهرب في قصة (بسرعة)، تلك النسوة ونساء أخريات يتفاوت حضورهن النصي وإن كن يحضرن كوحدات فاعلة، يصبح الرجل محور السرد، ومركزه فلا تقتحم المرأة العالم القصي إلا من خلال السارد المتباين حكائيا.
لقد كان تناول القاص في تلك القصص الأربع يسيطر عليه البعد الجنسي، وبشكل عام ففي ثقافتنا العربية، عندما يصبح جمال المرأة موضوعا للوصف يبرز البعد المادي الفيزيولوجي كقاعدة أساس له، فتمتدح في المرأة بعض الأجزاء التي تبرز جمالها، كالعينين، والشعر، والصدر، والخصر… وهذا واضح في تلك القصص حينما يؤتى على ذكر الحبيبات أو الخادمات، أما عندما ينتقل الوصف إلى الجمال الداخلي فإنه يركز على الحياء، والحشمة، والوقار كسمات رئيسة تحدد المرأة، كما في وصف الأمهات أو الزوجات في تلك القصص، فتظهر المفارقة العجيبة، حيث جدلية الخفاء والتجلي تشكل لعبة الوصف.
لقد أقحم القاص المرأة في عالمه بشكل يثير الإغراء والإعجاب، إذ يتم التركيز على بعض الأجزاء التي أشرنا إليها سابقا لتؤسس حوارا مع الآخر الذي هو الرجل، فتنتفي هي ككائن ويصبح وجودها رهينا بما تسمح به عين السارد، بل وتختزل منذ البداية إلى وظيفتها كامرأة خلقت للشهوة والجنس، فمثلا في قصة (زنبرك): "والآن تتأوه لرجل لا يساوي علقة حمار، ففي رسائلها الجنسية تكتب بشهوة وتتأوه، وكأنها بالفعل تمارس الجنس مع الحروف"، هذا على مستوى ممارسة الجنس مع الحروف!!، وفي قصة (عطش الماء): "بكل خبث استدرت وانحنيت كأنني أبحث عن أي شيء صغير بين وسائد المقعد، فصدمت مؤخرتي مؤخرتها، والتفتنا ابتسمتُ وابتسمت"، وهذا على مستوى التماس، أما في قصة (العودة إلى الساحة): "كنت ضغيرا حينها، عانقتني بشبق واشتهاء، ثم صارت تأخذني إلى بيتها وتغلق علي الغرفة، وتنزع ملابسي ثم تبدأ وأنا أشعر بلذة صغيرة غير معروفة، لذة طفل ممتلئة مثانته"، وهذا مستوى ذكوري آخر من العلاقة تشبه إلى حد كبير ما ذهب إليه فرويد في تقسيمه لمراحل النمو النفسي الجنسي حيث يشير إلى المرحلة الثالثة ويسميها الذكرية القضيبية والتي تمثل عادة العامين الرابع والخامس وتتركز اللبيدو في هذه المرحلة في الاعضاء التناسلية ويتم الاشباع اللبيدي عن طريق العضو الجنسي، وفي قصة (بسرعة): "ضمتني بقوة إلى صدرها، كان نهداها يخترقان صدري برغبة عارمة وخفقات قلبينا توحدت، وحرارة جسدها مرتفعة، ثم توقفت وجلسنا على حافة السرير" حتى يقول: "كانت تغنج في شرب الكأس، وتقوم بحركات وتأوهات وهي تدلك كتفي العاريتين، ثم همست في أذني: جسدك رائع كأبيك"، وهذا مستوى أخير من العلاقة التي تجعل الأنثى/ اللعوب لعبة بيد الرجل.
وهذا لا يعني أن القاص أوقف المرأة في هذا الإطار الجنسي فقط، لكنها سمة طافحة، وإلا له تناول راق للمرأة وبشكل إنساني، ففي قصة (لم يعد) ص93، تحضر خديجة في المقهى، تلك التي كانت تحرص على إعداد الشاي له وتضبط نسبة السكر فيه كي لا تزعجه، حضور خديجة الذي أنساه عالمه والساقي يطلب منه الخمسة قروش، لم يرد الانفصال عنها مطلقا فيمم وجهه شطر المقبرة، وقيل أنه لم يعد!! قمة الوفاء من الذكر والتفاني في الآخر الأنثى، والتناول الآخر للمرأة بشكل إنساني كان جليا في قصة (ذلك الباب الموارب) ص97، حينما خطبت أمه له ابنة زهرة، تلك البريئة التي كانت نتاج خطيئة لم يكن لها ذنب، حين اعتدى العمدة على زهرة قبل عشرين سنة ونيف، وتم التستر عليه من قبل أهل الحارة، فكانت الثمرة من نصيب ذلك الشاهد بعد أن أنهى دراساته العليا في الاقتصاد والإدارة والعلوم الإنسانية، وبعد أن تغيرت معالم الحادثة إلى محطة وقود ورحلت زهرة وتوفي العمدة في حادث مروري، والقصاص عند رب العالمين.