قراءة انطباعية لمجموعة القاص والروائي : حسين العلي " سفر المرايا "
* حسن الأحمد
سفر المرايا : عنوان لوحدة عضوية متناسقة ، هي ليست مجموعة قصصية هي رحلة الأفكار التي تخمرت لتكوين واعي لفهم أعمق للحياة بطرح الأسئلة الناضجة التي توالدت في فترة زمنية ما بين عامي 2005- 2009م
أنها المرآة التي تؤجج الصورة الداخلية ، هي المرأة النظيفة العاكسة لمنظر الشدو المتناقض الذي يتأجج في الظلام وليس باستطاعة الكل أن يراه . حيث أن الكثير لا يحتمل أن يرى نفسه عارياً في المرآة لأنها عادلة وتعكس الحقيقة التي يتحايل عليها كثيراً لتستمر لذة القصة بين متناقضين .
" الحلاوة هي نفسها المرارة ، الفراق عكس اللقاء ، الحب صورة أخرى للكراهية . الليل عكس النهار وقد يكون مكمله . الإنسان من هو الإنسان ؟ الحيوان ؟ .... قصة : لم يعد .
إنها النهاية التي كأنها لم تبدأ وكأن القاص حسين العلي اختصرها في مكون نداء الأرض والمكان والرمزية العظمى . " فيا تمر الأحساء ويا تراب الأحساء . رجاء أقبل بي حين آتيك قريباً في وجه المرايا ".
التمر لأنه نهاية الثمرة وخلاصة التجربة بعد أن تمر بكل مراحل التكوين التي تحمل على عاتقها ذكريات ماضية ، والتراب هو النتيجة الحتمية النهائية لكل هذه الذكريات وكأنها لم تكن . والأحساء واحة الحدث العظيم والتساؤل الوجودي العميق ومنار كل هذه الدهشات وكينونة هذا الإنسان الذي حمل بكل هذه الأثقال وكل هذه التناقضات .
إنه يلعب على المكان والمكين ، مكان اللفظ والحدث وثورته ، ومكين الهدوء والراحة والإلهام . ولصديقنا المهندس : عبدالله الشايب ، فلسفة عميقة في المكان والمكين ورؤية متجلية.
ولكن وماذا بعد ؟ كل شيء له نهاية فلسفة وجودية يدرك تماماً أبعادها وتصاعداتها النفسية " إذاً مادامت الأشياء لها نهاية فما الحكمة من بدئها .!؟ " . .... قصة : غيمة حميدة .
إنه يلاحق السراب ليمنعه الماء من لذة الوصول فيبقى في تلاطم دائم داخل هذه القصة . القصة كما تعرفها تيري ماكميلان تعريفاً بسيطاً : " القصة تدور حول شخص ما يريد شيء ما، وشخص آخر يمنعه من الحصول عليه " .
وماذا يريد القاص حسين العلي من قصصه في سفر المرايا ؟
حسين العلي الشخصية المركزية جعل نفسه مقابل الحياة بالكامل وأمام تساؤل وجودي كبير يتأرجح معه ليتحسس رأسه دائماً وهو يأخذ بنصيحة المدرس الذي تلاشى في التيه : " شغله يا بني " . لم كل ذلك حدث ، ولماذا يحدث وما النتيجة من حدوثه ؟ الجواب : الحمار لا يستطيع إشعال الحرائق ولا إطفائها " .... قصة المدرس .
فهو انتهج منهجاً احترافياً في أن يكون اللاعب الأساس مع الشخصيات التي غالباً ما تكون فرعية . وهذا انتهاج يحتاج إلى قدرة فنية عالية لأنه استطاع بمهارة أن يقنع قارئه في كل مرة بشخصية تتحدث بمنولوج داخلي كصوت روي نفسي وصوت راوي خارجي يستطيع أن يدرك تماماً التأثير بالمحيط والشخوص ويتفاعل معهم في أطار أفكار الحدث وتصاعده السردي ، دون أن يقيد بقيود القارئ النوعي الذي سيسقط عليه ولادة الشخصية وتطوراتها وكأنه يقرأ سيرة ذاتية .
كيف يتخلص هذا الإنسان من أثقاله وخوفه وتيهه وضياعه ؟
" أن المحيط له دور في ما يحدث للناس ، الناس يخلقون محيطهم بناء على حاجاتهم . أو يفعلون أشياء مختلفة للتعويض في حالات العجز " ... قصة : بسرعة .
أنه الحفر العميق في هذه الذات الإنسانية لنجد الإجابة . الإجابة الغير عادية ، الإجابة التي تسير باتجاه معكوس لإرادة الحياة المتناقضة . فما نراه ليست الحقيقة كاملة .!
" لأن ممارسة الجنس دون حب ، دون تفاهم ، دون قناعة ، دون قبول هو اغتصاب صريح وحقيقي . وها أنا زوجتي تغتصبني في أكثر الأوقات لأنني غير راغب ولا محب ولا متفق معها أبداً " ...... قصة : مرايا الكلام .
العقدة في القصة والتي تحاول ان تبحث عن مخرج من عنق زجاجة هي حياة جديدة تبحث عن موت ، حيث تتوالد الرغبة وتنطفئ بانطفاء الدهشة .
القاص : حسين العلي، لا يكتب حتى يمتعنا بقصة أو يسمعنا إياها لنضحك أو نحزن ، هو يكتب ليجعلنا نرى بشكل أوسع وأعمق .
أنه يطرح اللحظة الفانية حتى لا تفنى ، إنه لا يجيب على الأسئلة بل يشعلها لنحترق بها مثل فراشة تبحث عن لحظة تجلي من لهيب فانوس .
" المشكلة ليست في النهايات بل في الطريق نحو النهايات ، الآلام هي أثناء حالات التحول ذاتها ......... من الممكن أن أكون أي شيء ، لفة ورق ، قشر بيضة ، فقاعة صابون ، ينعكس عليها لون الشمس ثم تتلاشى " ....قصة : زنبرك .
أنه يحفر في الذات الإنسانية ، يكتب ليصارع النسيان ويقاوم فعل الحياة ذو الوقع الرهيب ولكن في النهاية نخرج مثقلين بكل هذه الذاكرة التي تبللنا بها أول مرة ، وتصرخ دوماً في كهوف أعماقنا السحيقة .
إنه يريد أن نسمع صدى أصواتنا بطريقة معكوسة عما هو ثابت .
أنه يمارس فعل الضد لتنتج الفكرة المغايرة لما هو سائد . الشخوص ربما نراهم عاديين وربما منبوذين ، ولكنه يخلق منهم فلسفة خارقة تجعلهم مهمين جداً في تمرير الحدث القصصي ذات العمق الفلسفي الخاص .
لا يكتب من ترف أنه يريد أن ينتج قصة ، ما تقرأه من قصص هو شعور حقيقي بمأساة كبيرة يحملها حس التخاطب السردي ، ويمرر من خلالها أفكار يبدو فيها السؤال سهلاً ولكن الإجابة في منتهى الصعوبة .
اسمحوا لي أن أقرأ مقطعين ونستمع بموسيقاهما العالية :
" فلتأسفي يا من تشبهي نصف روحك في المرايا دون ابتسامات ولا عطاء دون ثمن .
هل لي بتجربة غضة عبر أزقة التواشيح والفرح . البكاء يوم السبت على روح كافر بالقيمة الموعودة في . وقد مات وهو يمتص آخر قطرات العرق .
هل لي بثمن واقي لألتحم مع خادم المعبد الذي كان في كل صباح يغسل الله بعطر القرنفل ؟
هل لي بسواد الوجوه للتوبة تحت حذاء الملكوت في يوم أصفر في الهفوف .." ... من قصة وجع .
" صبراً يا من ترجلت عن ظهر حبي مسرعة . لمن يستهلكك فصرتٍ تفاحة هشة القضم ، وتركت من يفتديك كشمعة معبد مقدس . ويختفي الصوت ، هل الزمن أكلها ؟ أم هي خدعة الزمن .
وأخيراً يبقى السؤال ملحاً للقاص : حسين العلي . أين هي نعيمة ؟ التي صنعت الدهشة الأولى ثم تركت خلفها نساء مشوهات لقصص لا تكتمل ولا تحقق ذات الدهشة ؟