العودة   منتديات الطرف > الواحات الخاصـة > منتدى السهلة الأدبي




إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 11-01-2013, 08:53 PM   رقم المشاركة : 1
منتدى السهلة الأدبي
منتدى السهلة الأدبي






افتراضي أخلاقيات التغيير النبوي ـ يوسف خليفة الشريدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأكيد أن البعثة النبوية كانت مقدمة لثورة تغيير شاملة عقائدياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، والسؤال الذي جئنا نسلط الضوء عليه: ما هي أخلاقيات القائم على هذا التغيير وهو الرسول الأعظم [ص] في إدارته لهذه الثورة؟.

هل كان محمدٌ يقبل أن يكون التغيير بأي وسيلة، وإن كانت وسيلة غير مشروعة وقبيحة؟! هل كان يُبرّر لنفسه مخالفة الأعراف والتقاليد والقيم الإنسانية في مسيرته لتحقيق هدفه؟!

هذا السؤال صار ملحاً في زماننا المعاصر ونحن نعايش ثورات ومطالب صار بعضها يُدار بأي وسيلة، وبعضها الآخر ما زال يُحافظ على أخلاقيات تحركه (وسنلاحظ أن التاريخ يُعيد نفسه في زماننا).

تعالوا بنا نستعرض بعضاً من خصائص الإدارة النبوية لعملية التغيير.

أولاً: إيمان رسول الله القوي بقيمة رسالته وأن الحق معه، فلم يكن يقبل أن تكون رسالته مرتهنة للمساومة، وكلنا نذكر حين عرضوا عليه عرضهم الشهير: (لو تريد مُلكاً ملّكنّاكَ علينا؛ ولو تريد مالاً أعطيناك حتى تصبح أكثرنا)؛ وذلك في مقابل أن يتخلى عن دينه الذي يُبشِّر به، فكان جوابه لعمه أبي طالب الذي نقل له رسالتهم: (يا عم . . واللهِ لو وضعوا الشمس على يميني والقمر على يساري؛ ما أنا بتاركٍ هذا الدين إلا أن يَهلكَ أو أهلكَ دونه).

إذن . . لم يكن ليقبل بأن تكون الرسالة مرتهنة للمساومة والابتزاز، وأيةُ مطالب مهما كانت مُحقّة إذا دخلت دهاليز المساومة تفقد الكثير من قيمتها وتصبح ضحية للعرض والطلب!

ثانياً: الصبر . . كما تعلمون أيّ عملية تغيير شاملة لا بد وأن تواجهها عقبات وردات فعل عنيفة من المستكبرين المتغلبين على رقاب الناس؛ والذين بيدهم كل أدوات القوة من سلطة ومال؛ ومن المنطقي أن تحتاج تلك العقبات تضحيات لمقاومتها تمهيداً للتغلب عليها، ولا يمكن تحقيق التغيير دون دفع ضريبته.

والواقع أن رسول الله تعرض لابتلاءات الصبر بأقسى مظاهرها، وكلنا نذكر مقاطعة قريش له شخصياً، ثم حصاره وبني هاشم الملتفين حوله في شِعب أبي طالب حتى اضطروا لأكل نباتات الأرض بعد أن طالت مدة الحصار لثلاث سنوات (حصار اجتماعي؛ فلا يخالطونهم ولا يتزوجون منهم؛ وحصار اقتصادي فلا يبيعونهم ولا يشترون منهم).

وهذا يُوازي بعض العناوين في زماننا حين تُقطع الأرزاق ويُتهم الأحرار والمطالبون بحقوقهم بأنهم دخلاء على وطنهم؛ فيُحاصرون اجتماعياً واقتصادياً.

ثالثاً: اعتمد السلمية في تحركه بمكة وحافظ على أخلاقياته رغم كل ما عاناه وأصحابه من مشركي قريش وعتاتهم (وكلنا نذكر تعذيب آل ياسر واستشهاد سمية أم عمار بن ياسر كأول شهيدة في الإسلام وغيرها من المسلمين الذين تفنّن المشركون في التنكيل بهم لردهم عن الإسلام, وفي المقابل . . لم يلجأ رسول الله لتدبير اغتيالات الغدر لوجهاء قريش المعاندين وكبارهم كأبي جهل وأبي سفيان وغيرهما لإحداث شرخ ولو معنوي في صفوف الخصوم رغم إمكانية ذلك واقعياً؛ بل أننا نجده قد تـنـزّه حتى عن مقابلة التضليل الإعلامي لخصومه، والذين صاروا يتفنـنون في اختيار تعابير وسلوكيات تنتقص من قيمته ورسالته، ومنها:

1- اتهامه بأنه يعمل على إحداث فتنة داخلية بضرب الوحدة واللحمة الاجتماعية بين الأهالي، فيُفرّق بين الأب وابنه والزوج وزوجته.

2- اتهامه بالجنون والسحر، فكانوا يتلقون الركبان القادمين لمكة ويُحذرونهم منه بتلك التعابير وغيرها لتنفيرهم عن الاستماع له.

3- اتهامه بأنه يفتري ما يتلوه من آيات القرآن الكريم.

4- لجوء المشركين للإيذاء المباشر برمي الأوساخ عليه والغمز والضحك والاستهزاء به وأتباعه (وبعضها نعايش مصداقها في زماننا أيضاً).

5- المساومة: أي نعطيك شيئاً وتـترك لنا شيئاً، ومثال ذلك أن يعملوا شيئاً من الإسلام؛ وهو يعمل شيئاً من الشرك، فقالوا له: اعبد آلهتنا سنة؛ ونعبد إلهك سنة.

6- تشويش المشركين على الرسول حتى لا يسمع منه أحد (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) أي أحدثوا لغواً وفوضى حتى لا يُفهم كلامه إذا صار يتلوه، وهذا التشويش أيضاً في زماننا واضح لكم، فتُمنع وسائل إعلام وتُحجب حتى لا يصل كلام المُفترى عليهم الراغبين في الدفاع عن أنفسهم مِمّا يطالهم من فجور خصومهم بحقهم.

7- التشويش بالمطالب الاستفزازية التعجيزية، كطلب المعجزات (كل يوم يفتعلون مطلباً بقصد الانتقاص وتمييع الرسالة وكسب الوقت بحيث تفقد قيمتها وجوهر مطالبها، فمرة يطلبون أن ينزل إليه مَلَك يُساعده في دعوته، أو ينزل عليه كنز أو تكون له جَنةٌ يأكل منها ، أو يأتِ بقرآن غير هذا ، أو يقولون له: لن نؤمن لك حتى تفجُرَ لنا من الأرض ينبوعاً ، أو يكون لك بيتٌ من زخرف، وطلبوا منه إعادة الموتى مثل جدّهم قصي حتى يسألوه في صدق رسالته, وطلبوا أن يجعل لهم جبال مكة أرضاً منبسطة ليزرعوها"وزودوها" حين قالوا: "أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً"، وأيضاً "أوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً").

هي سلسلة من المطالب التي لا تنتهي، والهدف منها التمييع والانتقاص والاستدراج والمراوحة لمنع حصول أي تقدم جاد.

8- اعتمادهم أساليب المكر والغدر، ومنها محاولتهم اغتياله حين استحسنوا اقتراح ابليس الذي جاءهم بلباس رجل نجدي؛ وقد عملوا لتنفيذه بأن أخذوا من كل قبيلة رجلاً ليشتركوا في قتل محمدٍ ويضيع دمه بين القبائل، وبالتالي يقضوا على دعوته، ويصعب على أهله المطالبة بدمه، وهذا المِصداق نلمسه واقعاً في زماننا حين يتشارك المعاندون في دم المطالبين بحقوقهم، فيُوهِمون الناس بأن تلك الحقوق ضاعت؛ إذ يصعب مراجعة كل المتورطين في القضاء عليها إذا كثروا.

رابعاً: عدم استعجال تحقيق الظفر والنصر والتمكين بأي ثمن؛ فلو كان رسول الله يستعجل النصر لسعى لاعتماد أي أسلوب يحققه له كما أشرنا سابقاً من افتعال التخريب والاغتيالات مثلا، ولكننا نجده يأخذ بالأسباب الطبيعية موقناً بأن التزامه الأخلاقي يُؤمّن له مصداقية تُنتج وعيّاً عند الناس يتطور ليكون واقعاً ملموساً مستقبلاً على الأرض، ولذا نجده في ظرف معين حين اشتدت الضغوط على جماعة المسلمين في مكة، رأى أن ينتقل جزء منهم إلى الحبشة (لاحظوا أن الحبشة ليست في الجزيرة العربية، وهذا يُثبت أن حجم الغربة التي عاشها رسول الله كانت قاسية ومؤلمة بحيث يضطر لأن يعتمد خيار دخول المؤمنين البحر للانتقال إلى بلد بعيد نسبياً عن موقع الرسالة الأساسي). وحتى في الحبشة لاحقتهم قريش وحاولت تأليب النجاشي عليهم حين أرسلت وفداً بقيادة عمرو بن العاص لذلك الهدف.

إذن . . قد يتراجع الرسالي الملتزم تنظيمياً في حركته الميدانية نتيجة ازدياد الضغوط عليه، وقد تتباطأ خطواته في مرحلة معينة؛ ولكنه لا يتراجع أخلاقياً، بل يبقى محتفظاً بأخلاقياته الرفيعة وإن عاش الغربة وحاصرته الأوجاع.

نعم . . طوبى للغرباء الذين يُحاصرون بالتضييق اجتماعياً وإعلامياً وسياسياً واقتصادياً ولا يُعترف لهم بمظلوميتهم ومشروعية مَطالبهم وتُـقـفل في وجوههم وسائل الإعلام والبلدان، وهم مع ذلك (نفسهم منهم في عناء) وَ (خصومهم في راحة من غدرهم بهم). ورغم ذلك لا نجدهم إلا أكثر ثقة بتحقـق مطالبهم وإن طال الأمد وارتفع منسوب التضحيات، فهم يُراهنون على عدالة مطالبهم من جهة، وأخلاقية أدائهم من جهة أخرى، وقبل ذلك وبعده ثقتهم بربهم سبحانه الذي وعد الصابرين من المستضعفين وعداً حسناً، والعاقبة للمتقين. وفي المقابل. . نجد في المخالفين مَن يسعى لتحقيق مطالبه بأية وسيلة حلالاً كانت أم حراماً، صدقاً كانت أم افتراءً! وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح!

لاحظوا هذه العناوين كلها وكيف أن التاريخ يُعيد نفسه حقاً في هذا العنوان أو ذلك؟!

خامساً: بقي رسول الله مركزاً في حركته على خدمة رسالته الحقة، ولم ينشغل عنها بعقدة الحاجة للانتقام الشخصي! فلم يقلْ في أي مرحلة من مراحل حركته أني أريد النصر حتى أرد الاعتبار لنفسي وأنتقم من فلان وفلان! لم تغيّر الابتلاءات وضراوة الخصومة من أولوياته، فبقيت بوصلته متجهة نحو إعلاء كلمة (الله) سبحانه وتعالى بما يتناسب وَ (قيمة محمد) وليس (قيمة خصومه).

ولهذا حين تم له فتح مكة، كان رهان خصومه أنفسهم على أخلاقه، حين قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم"، فقالوا : (خيراً . . أخٌ كريم وابن أخ كريم)، فقال: "اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء".

نعم . . لم يأخذ بخصومته مع الآخرين لأي اعتبار شخصي غرائزي، فلم يكن يُعاني من عقدة نقص أمام خصومه، ولم تحرّفه الصعوبات عن بوصلة رسالته لأي اعتبار ضيّق؛ ولو كان مرحلياً.

سادساً: حافظ رسول الله على كل التزاماته التي تعهد بها لخصومه حتى في حالات شعوره بنشوة القوة، فقد التزم بتعهداته في صلح الحديبية كمثال، والتي نص أحد بنودها بأن يردَّ المسلمون من يأتيهم من قريش مسلماً بدون إذن وليّه، والتزم بذلك.

هذا بعض ما سمح به الوقت لاستحضاره في هذه الوقفة، وحريٌّ بنا أن نستلهم سيرة رسول الله في ثورته التي غيّر بها تاريخ المنطقة والعالم من ساعة بعثته وإلى قيام الساعة، ونبقى موقنين بنصر المستضعفين المتمسكين بمطالبهم وأخلاقياتهم النبوية المصدر؛ وإن طالت غربتهم وقلّ ناصرهم وكثُرَ خصومهم وحُـوصِرت مظلوميتهم وتعاون عليهم المستكبرون وتنكّر لحقوقهم القريبون والبعيدون، فما ضاع حق وراءه مُطالب، ولا ضاعت مَطالب أمامها أخلاقيات كريمة ترشِّدها وتوجّهها وتحفظها.

قال تعالى: (فاصبر إنَّ وعد الله حقٌّ، ولا يستخِفّنّك الذين لا يُوقِنون)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



من مواضيع جلسة صفر 1434هـ

 

 

منتدى السهلة الأدبي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 06:23 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

ما ينشر في منتديات الطرف لا يمثل الرأي الرسمي للمنتدى ومالكها المادي
بل هي آراء للأعضاء ويتحملون آرائهم وتقع عليهم وحدهم مسؤولية الدفاع عن أفكارهم وكلماتهم
رحم الله من قرأ الفاتحة إلى روح أبي جواد