التخصصات النظرية بالجامعات.. "وسيلة" للوظيفة أم "مصيدة" للبطالة؟!
العلم مطلوب لذاته.. ولا يجوز إغلاق أقسام بالجامعات لعدم ارتباطها بسوق العمل
هل هناك أي تعارض بين أن يكون خريج الجامعة "متعلما".. وفي الوقت نفسه "موظفا"؟.
سؤال آخر: هل هناك ضرورة للربط بين التعليم الجامعي ووجود فرص وظيفية للخريجين في مختلف التخصصات، خاصة "النظرية" التي لم تعد سوق العمل تفسح المجال لخريجيها بالصورة المأمولة؟.
قطعا.. ستأتي الإجابة عن السؤال الأول في صورة إجماع على عدم وجود ذلك التعارض. أما السؤال الثاني، فقد افترقت إجابات الخبراء وأساتذة الجامعات وخريجيها في الإجابة عنه.
فريق يرى أن دور الجامعات ينحصر في تعليم الخريج وتأهيله وإعداده، لمواجهة الحياة بكل أعبائها، وليس مقصودها أبدا "تشغيله" أو توفير فرص العمل المناسبة لتخصصه.
ويرفض هذا الفريق بشدة إغلاق الجامعات أي أقسام بها بحجة عدم وجود طلب على خريجيها من سوق العمل. ويُشدّد على ضرورة احترام الجامعات حق الطالب في أن يتعلم ما يريد.
فريق آخر يؤكد أن الدراسة وسيلة إلى "الوظيفة"، وأنه لا يجوز إضاعة أربع أو خمس سنوات من عمر الطالب دون أن يجد فرصة عمل، لأن ذلك معناه تحويل بعض الأقسام النظرية إلى "مصيدة" لتكريس البطالة.
ولا يرى هذا الفريق مانعا من تقليص عدد المقبولين بالتخصصات النظرية، وقصر قبولهم على بعض الأعوام، وليس كل عام.
فإلى أي مدى يمكن أن تتحكم عملية "الموازنة" بين متطلبات سوق العمل ومخرجات الجامعات في استمرار الأقسام النظرية، أو إلغائها؟.
وهل يمكن تحويل تلك الأقسام إلى مراكز للإشباع العلمي، والإشعاع الحضاري، بغض النظر عن الوظيفة، باعتبار العلوم الإنسانية هي الإطار المعرفي الذي ينبغي لكل إنسان أن يأخذ منه بطرف؟.
وهل يجوز أن يكون غياب "الوظيفة" سببا في إغلاق بعض الأقسام النظرية ببعض الجامعات؟.
في السطور التالية نتوقف أمام المزيد من آراء وأفكار ومقترحات ومعالجات عدد من الخبراء وأساتذة الجامعات في هذه القضية.
خالد محمد سعيد القحطاني، تخرج في جامعة الملك عبد العزيز بجدة منذ 5 سنوات ولم يحصل على وظيفة حتى الآن، يقول: التحقت بقسم الاجتماع في الوقت الذي كان كثير من زملائي يؤكدون لي ندرة الفرص الوظيفية لهذا التخصص، لكنني أصررت على استكمال مسيرتي، ولم أندم على ذلك.
يُضيف أن علاقته بتخصصه العلمي مازالت حميمة، حيث يواصل قراءات موسعة فيه. ويرفض بشدة أي اتجاه لإغلاق مثل هذا القسم، مشيرا إلى أن هناك طلابا لديهم رغبة قوية في دراسة تخصص معين بغض النظر عن المستقبل الوظيفي لخريجي هذا التخصص.
أما حسن آل عمر الشهري ـ أحد أولياء الأمور ـ فيؤكد أنه من الصعب أن يدرس الطالب أربع سنوات أو أكثر في تخصص نظري أو إنساني، ثم يكتشف أن فرصه الوظيفية ضئيلة، وأن كل جهده ذهب سدى.
يوضح أن المال عصب الحياة، وأن الإنسان بحاجة إلى أن يكون صاحب مركز وظيفي، وأن يوفر لنفسه لقمة العيش، فالدراسة وسيلة إلى الوظيفة، وبالتالي ينبغي أن تكون الدراسة في تخصص حيوي وعلمي تتوفر لخريجيه فرص وظيفية مناسبة.
ويصف أحمد المقرن – باحث تربوي – الأقسام النظرية بأنها صارت مصيدة لكثير من الطلاب الذين تنقصهم الخبرة والدراية بأحوال سوق العمل، فيدخلونها غير مدركين المصير الذي تحملهم إليه إلا بعد تخرجهم.
ويلفت إلى أهمية تنشيط دور المدارس الثانوية في توعية الطلاب مهنيا ووظيفيا، مشيرا إلى أن أغلب خريجي الثانوية العامة لا يملكون أبسط المعلومات عن الجامعات والتخصصات وسوق العمل والفرص الوظيفية المتاحة، ومن ثم يكون اختيارهم للتخصص عشوائيا.
منظومة متوازنة
الدكتور محمد بن يحيى آل مزهر عميد كلية اللغة العربية والعلوم الإدارية بجامعة الملك خالد سابقا أمين عام الغرفة التجارية الصناعية بأبها يؤكد أنه لا يجوز أن تتحول الجامعات إلى مؤسسات تدريبية تستهدف العمل فقط.
ويطالب بعدم ربط المنتج الجامعي دائما بسوق العمل، لافتا إلى أن الجامعات مسئولة عن تأهيل الطالب علميا ومعرفيا، بحيث تقدم للمجتمع شخصا متميزا.
ويُوضح أن الجامعات ليست معنية مباشرة بالتوظيف، ولا تضمن للطالب الوظيفة بعد التخرج، ولكنها قد تؤهله لها دون أن تكون الوظيفة هي الغاية.
يشير إلى أنه لا يجوز إغلاق أقسام في بعض الجامعات، أو حرمان أي إنسان من أن يتعلم ما يريد، سواء كان ذكرا أو أنثى، فالعلم مثل الماء والهواء للإنسان، وكلما زاد تراكم المعارف في البلاد أصبحت في الصدارة.
ويجزم بأن المنظومة المتوازنة للمجتمع لن تكتمل بإغفال جانب على حساب وفرة آخر، أو العناية بتخصص دون آخر، فللطبيب دوره في خدمة مجتمعه، وللمهندس دوره، كما أن للمثقف والمؤرخ وغيرهما أدوارهم، ولا يغني أحد عن الآخر.
تكامل التخصصات
يؤكد آل مزهر أن تباين المعارف ينعكس ثراء في المجتمع، فالتخصصات العلمية المختلفة تتكامل من حيث حاجة المجتمع إليها، الأمر الذي يجعل الاستغناء عن بعضها أمرا صعبا، بل مستحيلا.
ويطالب بإفساح مجالات اختيار التخصص، والعمل على تعددها أمام خريجي الثانويات الذين يبدع كل منهم في مجال مختلف إذا ما أتيحت له الفرصة في تلبية رغبته التي يجب أن تكون حرة لا تقيدها طلبات سوق العمل.
ويلفت إلى أن التعليم العالي يزيد من ثقافة الإنسان في العلوم والمعرفة سواء في الجانب النظري أو العلمي، ولا غنى لأي أمة عن أي تخصص.
ويُشدد على أن الاكتفاء الذاتي من تخصص معين في سوق العمل ليس مبررا لإلغائه، طالما أنه نوع من المعرفة، وأن طلابا ـ وإن قل عددهم ـ يرغبون في الالتحاق به رغم سابق علمهم بضيق فرص التوظيف بين خريجيه.
ويوضح أنه يمكن للجامعات أن تتوسع في جوانب معينة دون إلغاء الأخرى، مشيرا إلى أن هناك جامعات متخصصة تتوسع في مجالاتها كجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وربما لا يوجد لديها بعض التخصصات، ولكن على الجامعات ألا تغلق تخصصات كانت موجودة لديها.
رغبات علمية
الدكتور صالح بن عبد الله الدامغ وكيل جامعة القصيم للدراسات العليا والبحث العلمي، المشرف العام على جامعة الراجحي الأهلية بالبكيرية يشدد على أهمية أن تتناسب مخرجات التعليم العالي مع حاجة سوق العمل حتى لا توجد بطالة.
ويدعو ـ في الوقت نفسه ـ إلى عدم إهمال وإغفال التخصصات التي لا تحتاجها سوق العمل في الوقت الحاضر، ذلك أن سوق العمل لا بد أن تطلبها في يوم من الأيام.
ويتوقف أمام قضية مهمة، مؤكدا أن هناك أعضاء هيئات تدريس في تخصصات نظرية تم إغلاقها في بعض الجامعات، لا يجدون من ينقلون إليه علمهم ومعارفهم.
ويطالب الجامعات بضرورة تلبية الرغبات العلمية للطلاب، فبعضهم لا يبحث عن فرصة وظيفية في المستقبل، بل يبحث عن تشبع علمي في مجال معين، ليكون أحد المبدعين فيه، الأمر الذي يستلزم عدم إغفال رغبات هذا النوع من الطلاب، وتوفير بيئة الإبداع لهم في أي مجال يختارونه.
ويشدد على أنه بالتخطيط السليم يمكن أن يجد كل الطلاب ـ سواء الباحثون عن وظيفة أو طالبو التشبع بالمعرفة ـ مبتغاهم في التعليم الجامعي.
تطبيقي.. لا تلقيني
أما مفلح زابن القحطاني، عضو هيئة التدريس بقسم اللغة العربـية وآدابهـا بجـامعـة الملك خالد، فيؤكد أن العلوم الإنسانية هي الإطار المعرفي الذي ينبغي لكل إنسان أن يأخذ منه بطرف.
ويستدل على صحة ذلك بالأقسام والشعب الدقيقة لتلك العلوم، حيث يرى أنه يجب عدم تهميشها، رغم اعترافه بأنها تعاني مشكلتين، الأولى: كثرة أعداد خريجيها، وهم في الغالب ذوو مستويات متوسطة أو دون المتوسطة، و الثانية: عدم تفاعل تلك الأقسام مع المجتمع بشكل واضح.
ويلفت إلى أن أغلب الدراسات التي تعالج الظواهر الإنسانية والاجتماعية واللغوية في المجتمع السعودي مسجلة في الجامعات المصرية، أو الأردنية، أو غيرها.
ويشدد على أن قضية الأقسام النظرية في الجامعات السعودية لا تتوقف عند حد وجود "مخرجات" لا تجد فرصا وظيفية، وإنما تبرز أيضا في عدم التعاطي مع المجتمع بشكل إيجابي.
يقول: إن الحل ليس إغلاق بعض الأقسام النظرية، أو تقليصها لعدم الرضا عن مستوى خريجيها، وإنما ينبغي تقنين القبول فيها، وتشجيعها على تبني دراسات وبحوث جادة تتجاوز الدور التلقيني إلى المجال التطبيقي.
ويشير إلى أن هناك تقاربا بين العلوم التطبيقية والإنسانية ينبغي توظيفه بشكل أمثل، فالعلوم اللغوية والأدبية أصبحت ذات تماس مباشر مع العلوم التطبيقية عبر "اللسانيات الحديثة"، وكذلك في التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والفقه ينبغي أن تكون طريقة التناول حديثة وحية بحيث لا نظل نردد القوالب التقليدية.
ويدعو إلى تجديد وتطوير بعض أقسام العلوم الإنسانية، ومدّ جسور الصلة بينها وبين المجتمع، مشيرا إلى أنها تمر بمنعطف خطر، وينبغي أن تنهض بدورها كاملا حتى لا تتجاوزها عجلة الزمن التي بدأت تميل إلى كل ما هو تطبيقي.
جريدة الوطن السعوديه.