12-02-2009, 10:40 AM | رقم المشاركة : 1 |
منتدى السهلة الأدبي
|
( شذرات من تجربة طفل ) قصة لـ جاسم عبدالوهاب الحسن
نداء الأمكنة العتيقة ــ 1 ــ هل كان مسعود محظوظاً حقاُ لأنه بات واحداً من الأسرة؟. يبدو ذلك؛ فهو لم يكن مدللاً من قبل أفراد الأسرة فحسب، بل كان المكان نفسه يحترم رغبات مسعود، ويتخذ الشكل الذي يريحه ويسمح له بقدر أكبر من حرية الحركة. فباب البيت الخارجية ترتفع عن العتبة بمقدار خمسة أصابع، مما يصنع فجوة مستطيلة تمكن مسعوداً من الانسياب بخفة من خلالها، من داخل البيت إلى خارجه، ومن الخارج إلى البيت؛ فهو كأي واحد من الأسرة يحتاج إلى الخروج من البيت لقضاء بعض شؤونه اليومية الخاصة، التي تعرف الأسرة بعضها، ويغيب عنها بعضها الآخر. أما فناء البيت الذي ــ الذي كانت تنفتح عليه أبواب غرفة النوم وباب المطبخ وباب دورة المياه وباب أخيرة منعزلة قليلاً عن بقية الأبواب ــ فكان فسيحاً يسيح فيه مسعود كما يحب. مثلاً: يطارد جرادة حطت من الفضاء، فيثب خلفها من زاوية إلى زاوية حتى يرهقها الطراد فتستسلم بين يديه أو يحالفها الحظ فتلوذ بالفرار على متن الهواء، أو يمارس هوايته المفضلة فيلعب الكرة التي تكون صغيرة في حجم التينة، فينقلها من يدي إلى أخرى وعيناه على الكرة تنتقلان يمنة ويسرة فيما هو يذرع ( الحوش ) طولاً وعرضاً، مسرعاً طوراً ومهرولاً طوراً آخر، وفي كل الأحوال محافظاً على الكرة بين يديه. وأما غرف النوم التي كانت مواربة الأبواب معظم ساعات النهار وجزءاً من ساعات الليل فكانت على استعداد لاستقباله في كل وقت، فهي تبذل له الفرش والأغطية يتقلب عليها ويندس بين طياتها ويتمطى أثناء ذلك نافضاً عن جسمه آثار النوم. ولم تكن الأحضان أقل ترحيباً بمسعود، فهي مفتوحة أمامه دائماً، تشجعه على الارتماء فيها، وملاعبة الأصابع التي لا تلبث أن تمسّد جسمه حالما تحس بعضاته التحببية ووخزات أظفاره التي تعرف الصديق من العدو. ومن الاستعدادات التي قام بها المكان من أجل راحة مسعود الساحة الترابية التي تنبسط أمام البيت، فهو كأي واحد من أبناء جلدته لا غناء له عن شئ من الأرض، تلك التي تتفتت وتحرث وتنزاح وتسوّي ويمكن أن ينبت على وجهها العشب. أما وجبات الطعام فلم تكن لتسقط مسعوداً من حسابها، فإذا ما فرشت السفرة ووضعت عليها الأطباق وتحلقت من حولها الأسرة تلفت الجميع متسائلين عن مسعود الذي يدنو في جذل ويتخذ مكانه من الحلقة المقبلة على الطعام، ولا يبادر إلى مد يده إلى الصحون، وإنما ينتظر في أدب يقدم له أحدهم قطعة من اللحم، فيتناولها بيديه الصغيرتين ويأخذ في تمزيقها بأسنانه الصغيرة حتى يأتي عليها، وينتظر قطعة أخرى ولم تطن لتبطئ عليه. قد يعطي هذا الحديث فكرة عن أخلاق مسعود، فماذا عن خلقه؟ ثم مزيتان خلقيّتان حببتا مسعوداً إلى الأسرة، فقد كان أشقر الشعر ذا عينين خضراوين، ولم تكن هاتان المزيتان لتوجدا في أحد في أفراد الأسرة، فالشعور سوداء والعيون سو أو بنية، وهكذا ستكون الأجيال القادمة. عند هذه النقطة ينبت خيط الحكاية، حكاية مسعود، ولا تعود الذاكرة بمسعفة على إتمام هذه اللوحة التي نجمت عن عهد موغل في القدم، موغل في القدم بالنسبة لي على الأقل. ولكن المخيلة واسعة الحيلة ! فماذا يمكن أن ترسم من مصائر، وماذا في وسعها أن تنسج من نهايات، وهل لابد من نهاية للحكاية ؟ ونزولاً عند رغبة المخيلة، فليكن الحديث الآتي. استيقظت الأسرة ذات صباح، فباشرت شؤونها اليومية المألوفة، وغرقت في رتابة النهار، حتى إذا حان موعد الطعام افتقدت الأسرة مسعوداً، وأعطت هذه الملاحظة المتأخرة: لم يظهر في ( الحوش ) طوال ساعات الصباح. وإذن؟ وطفقوا يبحثون عنه في الغرف، بين ثنايا الفرش وتحت الأغطية، في دورة المياه وفي المطبخ وفوق السطوح، وأمام البيت في الساحة الترابية. ولأنهم لم يقعوا له على أثر، لاذوا بالانتظار والارتقاب اللذين لم يأتيا به البتة، فلم يبق أمام الأسرة إلا أن تلجأ إلى المخيلة في تفسير غياب مسعود المفاجئ. فهل هذا ما حدث فعلاً؟ ربما. فجأة كف مسعود عن اللعب، ولم تعد له شهية إلى الطعام، ولزم أحد الفرش، وحُمَّ جسمه، وبينا كانت الأسرة حلقة متوجسة من حوله، وثمة أيد صغيرة تمتد لتجس نبض الجسم المحموم، كف الجسم عن الاختلاج، وأخذت تتسلل إليه البرودة. لقد صد السر إلى مستودعه !! هل كان هذا مصير مسعود حقاً ؟ ربما. أم أن الأسرة ــ التي كانت قد انتقلت إلى بيت آخر بعيد عن بيتها الأول جراء حادثة ألمت بها على غير موعد ــ قد نسيت أن تأخذ مسعوداً معها كما لو كان قطعة أثاث بالية ! ما أقسى قلبها إذن ! وأي شئ كانت تلك العاطفة التي أحاطته بها في البيت الأول ؟ ولكن قد لا تكون هذه تتمة الحكاية. أم أن الأسرة أنكرت من مسعود سلوكاً ما، فانقلب الحب كراهية، فقبضت عليه يد كانت تمسد ف حنو جسمه من قبل، وأودعته كيساً من ( الخيش )، وأحكمت ربط طرفه المفتوح، وألقت به في السيارة التي ستذهب به بعيداً بعيداً.. إلى أحد البساتين النائبة مثلاً إن لم تكن الصحراء حيث سيطلق سراحه وتعود السيارة أخف عبّئاً بعد أن توهت مسعوداً وما عاد فق مقدوره الاستدلال على الطريق المؤدية إلى بيته وأسرته التي لا يعلم ماذا ساءها منه, هل تكون هذه تتمة الحكاية؟ ربما. المخيلة منجم لا ينفد، وفي ميسورها أن تزودك أيها القارئ بصور أخرى عن مصير مسعود، ومخيلتك تملك كافة الصلاحيات، في أن تستأنف الحكاية من حيث انبت خيط نسيجها، فتنسج على غير منوال واحد، ولعلك تكون أقرب إلى الحقيقة. ( يـــتـــبـــع )
|
12-02-2009, 10:43 AM | رقم المشاركة : 2 |
منتدى السهلة الأدبي
|
رد: ( شذرات من تجربة طفل ) قصة لـ جاسم عبدالوهاب الحسن
ــ 2 ـــ لم أطفُ على سطح النص السابق البتة، لا بصفتي راوياً، ولا بصفتي شخصية تلعب دوراً ما. قد أكون موجوداً ضمناً بصفتي واحد من أفراد الأسرة، ولكنني لم أقدر أن أتشخص حتى في ضمير المتكلم ( ولك أن تراجع النص السابق )، وذلك لسبب واحد هو أن مسعوداً شخصية طاغية الجاذبية، مهيمنة الحضور، لا يمكن أن تبرز بحذائها شخصية أخرى. مسعود هو بؤرة العدسة المقعرة التي تلملم خيوط الضوء المتشتتة في حزمة ضوئية لا تسلط على جسم إلا أحدثت فيه حرقاً. كل شئ غير مسعود كان من خيوط الضوء المتشتتة. أما وقد ألقيت بعبء الحكياة، حكاية مسعود، على عاتق القارئ، فإنه بات في ميسوري أن أتشخص، وأجعل من نفسي بؤرة، وبطلاً للحكاية التي أنا في سبيل روايتها. كانت الأسرة قد انتقلت إلى بيت آخر، وكان هذا أفسح فناءً من الأول، وأكثر غرفاً، والغرف أوسع، والفناء لم يكن معظمه مسقوفاً كسابقه، بل كان مفتوحاً علة الفضاء، وهو لذلك أكثر تعرضاً لتيارات الهواء وزخات المطر في فصل الشتاء، ولأشعة الشمس المحرقة وذرات الغبار في فصل الصيف. ولم يكن البيت الجديد بعيداً عن وسط القرية كالبيت الأول الذي كان قاتماً بمفرده على أحد الأطراف، وإنما كان قائماً في قلب القرية، حيث الحركة النشطة للسكان الرائحين والغادين في شؤون حياتهم اليومية، وحيث الضوضاء الناجمة عن أبواق السيارات ومهاترات الجيران مع جيرانهم وتصايح الصبية الآخذين في اللعب بلا كلل أو ملل ساعات النهار وجزءاً من ساعات الليل. بيد أن ثمة شكلين من الحياة الجديدة كان لهما التأثير الأعمق على الأسرة. الأول أن الأسرة بات لها كثير من الجيران، ومنهم الجار الجنب، الذي ليس بين بيته وبيت الأسرة إلا جدار يكاد يكون ناقلاً ممتازاً للصوت، فلا تكاد تحدث مشكلة صغيرة في هذا البيت إلا أفضى بها إلى البيت الآخر. وكانت أطباق الطعام دائبة الطيران فيما بين البيوت، فالطبق سفير شعبي ما بين أسرتين، واتصال ذهابه ومجيئه ما بينهما دليل عافية في علاقات الجوار. كانت الأطباق تنتقل من هنا إلى هناك على أجنحة الطفولة. تنادي الأم وهي في المطبخ على ابنها أو ابنتها المنشغلين باللعب في الفناء أو في الزقاق، وتضع على يديه أو يديها صينية تحمل طبقين أو ثلاثة وتقول له أو لها بيت أم فلان، فلا تلبث الصينية أن تكون في بيت أم فلان، ولا تعود بعد يومين أو ثلاثة إلا محملة بمثل ما ذهبت به أو بأحسن منه. كان هذا الشكل الأول من الحياة الاجتماعية التي استجدت على الأسرة وكان لها أعمق الأثر عليها، وأما الشكل الثاني فهو ما صار إليه أبناء الأسرة ــ الذين كانوا جميعاً في طور الطفولة أو الصبا ــ من انفتاح على الفضاء الخارجي، على الشارع والحارة والحارات المجاورة وسطوح الجيران، ومن ثم الانخراط في صداقات كثيرة واكتساب تجارب طفولية اتسمت بالجدة والطزاجة والإدهاش والإمتاع، واتسمت أيضاً ــ ولا بد من ذلك ــ بالإيذاء أحياناً. أنا واحد من أبناء الأسرة، وقد كانت سعيداً بأشكال الحياة الجديدة التي انخرطت فيها، ولم أكن لأقاوم إغراءها، فقد كانت سنوات العزلة في البيت الأول تحدوني لأن أظهر قدراتي العظيمة على ممارسة الحياة خارج الجدران، ولا أحد أقدر على ممارسة الحياة من طفل !! ولم يكن الطفل ــ الذي هو أنا ــ ليبالي بما يتعرَّض له من أذى جرَّاء التجارب التي يخوض غمارها غير مفكر بعواقبها، وكيف يكون طفلاً لو كان يفكر بالعواقب !! فإنما هو إملاء اللحظة، تلك اللحظة التي تستبطن ما لا يعقل من المواقع والطموحات والحيثيات، في حين يحسبها المرء جزءاً ضيئلاً تافهاً من الزمن. في قريتي، لم تكن حارة من الحارات لتخلو من أرض فضاء رحبة، تكون محاطة بالبيوت من الجهات الأربع، وثمة دروب ضيقة تفضي إليها، وتقوم مقام البوابات على حدودها. إنها بوابات بلا أبواب ولا مزاليج ولا حامية. وقد تقع تلك الأرض الفضاء الرحبة خارج الحارة، على أحد أطرافها، فلا يكون لها ما للأولى من إيجابيات. ولقد كان حظي سعيداً، فكانت الأرض الفضاء الفسيحة التي شهدت ألعاب طفولتي مطوقة بالبيوت التي كانت سطوحها ملاعب إضافية قضيت فيها أوقاتاً جميلة بصحبة أصدقاء الطفولة الذين كانوا دائماً من أبناء الجيران. وأما الدروب القليلة التي تفضي إليها فكانت تتفرع منها الأزقة التي تفتح عليها أبواب بيوت الحارة، ومنها بيتنا. ذات يوم، وكان ذلك بعد منتصف النهار، انطلقت إلى الساحة ممنيّاً النفس بقضاء ساعات من اللعب والمرح والتسلية، فلما انتهيت إليها وجدت صديقي صالحاً مستنداً إلى جدار، وفي إحدى يديه العصا الخشبية المستطيلة التي تشبه المسطرة، وفي الأخرى القضيب الخشبي القصير، فلما رآني ابتسم لي مرحباً، فاقتربت منه، وبطريقة اتصال خفيَّة، لا تستغرق أكثر من لحظة، وبدون أن ينبس بكلمة، كنت قد فهمت عرضه عليَّ وقبلته. لعبة كنا نسميها ( المنطاع ). تحتاج إلى مساحة فسيحة. يأخذ اللاعب بالقضيب القصير في يد ويمدها أفقياً إلى أقصاها، وبالعصا التي تشبه المسطرة في اليد الأخرى التي يرفعها في الهواء فارداً ذراعه إلى أقصاها أيضاً، فيرمي القضيب في الهواء عمودياً إلى الأعلى نحو ارتفاع مناسب، في حين يهوي بالعصا في اللحظة المناسبة لتصطدم بالقضيب الذي أخذ في السقوط بعد أن استنفذ طاقته على الصعود، ليقذف بدوره في الهواء بعيداً راسماً قوساً تضيق أو تتسع بحسب القوة التي يختزنها ساعد اللاعب. ثم تأتي المرحلة الثانية، فيهرع المتباريان إلى مكان سقوط القضيب، فينحني اللاعب على القضيب، ويضربه بالعصا عند طرفه ــ الذي يكون مشطوفاً عادة ــ فإذا قفز نحو الأعلى ضربه بالعصا مرة أخرى، لينقذف ثانية مبتعداً أكثر عن المكان الذي نفذت عنده الضربة الأولى عند بدء اللعبة. ويمضي اللاعب على هذا المنوال حتى تخفق العصا ثلاث مرات متتابعة في تقفيز القضيب، ويكون ذلك بأن تخطئ طرفه فتصيب الأرض. ثم تأتي المرحلة الثالثة، فيقيس المتباريان المسافة بين نقطة البداية وبين آخر نقطة استقر عندها القضيب، وذلك بعدد الخطوات. ثم يأتي دور اللاعب الثاني، فيصنع مثلما صنع خصمه، وتتكرر هذه العملية ما اتسع الوقت، فيس ثمة حد معين لهذه اللعبة غير اتساع الوقت أو ضيقه كأن تغرب الشمس ويأخذ الظلام في الحلول، فعندئذ تحسب الخطوات لكل لاعب، ويكون الفائز من يحرز عدداً اكبر منها. تلك هي لعبة ( المنطاع ) التي يعرض علي صالح أنلعبها وقبلت أن عرضه. أجرينا القرعة فكان هو اللاعب أولاً، فاتخذ وضع اللاعب، وانتصبت أنا بحذائه منتظراً أن يؤدي ضربته، كان يمسك العصا بيده اليمنى، التي لم تكن يداً بشرية على الإطلاق. كانت لحماً مقدَّذاً، ولكن متماسكاً. وكنت قد ألفت رؤيتها على هذه الصورة، ولم تعد تثير في نفسي أدنى شعور بالتقزز، مثلما فعلت في أول لقاء جمعني بصالح. في اللقاء الأول، كان الارتباك ظاهراً على كل حركة من حركاته، والإشفاق من مواجهة الآخرين يسربل نظراته التي لم تكن لتستقر على شئ. وكان يحرص على إبقاء يده اليمنى في جيب ثوبه، ولولا أنه كان مضطراً لنزع ثيابه حتى يتسنى له أن يلبسها جافة بعد خروجه من العين التي كان الأصدقاء ــ وأنا منهم ــ قد سبقوه إلى القفز إليها، لما وقع بصري يومئذ على كتلة اللحم المقدد المتماسك، تلك الكتلة التي أخرجها من جيب ثوبه، والتي تتفرع منها خمس زوائد لحمية قصيرة. المهم أن الألفة كانت قد أجرت عملية تجميل لكتلة اللحم تلك، فعادت يداً بشرية في نظري على الأقل. وها هي الآن تمسك بالعصا وترفعها في الهواء استعداداً لضربة قوية تطير القضيب في الهواء بعيداً، ليرسم قوساً واسعة لا ينجز مثلها أقوى السواعد. ولكن صالحاً قد بيت النية على تجريب طريقة جديدة لضرب القضيب. وها هو يفرد ذراعه إلى مداها الأقصى والعصا من علوها تتوعد القضيب، وأنا على يسار صالح، على بعد ذراع منه بالضبط، وفي لحظة كلمح البصر كان صديقي قد هوى بالعصا متوسلاً ثقل جسمه كله، فقد جعل من قدمه اليسرى محوراً وأدر عليه جسمه كله بما فيه الذراع المفرودة دورة أرادها كاملة تنتهي من حيث ابتدأت، ولكنها لم تكتمل لأن العصى التي تؤدي دور القلم في الفرجار كانت قد ارتطمت بجبهتي وسقطت من اليد البشرية بعد أن رسمت نصف دائرة فقط. أقبل صالح على صديقه الذي كان قد انطرح أرضاً ضاغطاً بيديه على جانبي جبينه. لم أع شيئاً مما كان يغمغم به. لم أكن أشعر بأدنى ألم. كنت فقط لا استطيع النهوض. وكانت الدنيا ظلاماً دامساً. مرت لحظات، بعدها أخذ جيش النور يغزو الظلام، والقوة تنساب في رجلي، وجعل الألم ــ الآن فقط ــ يتمشى فوق العين اليسرى، ذاهباً في الصدغ الأيسر، وراجعاً إلى مقدم الجبين. ولكنه ألم لم يزل احتماله ممكناً. نضهت مترنحاً قليلاً، ثم انتصبت على قدمي، وقلت لصالح الذي كان تمثالاً من الرخام: واصل اللعب ! فخرج من وجومه الرخامي، ولكنه لم يواصل اللعب، وإنما صاح في ذعر: " دم.. دم"، فوضعت راحة يدي على جبهتي، ثم بستطها أمام عيني. كانت دماً قانياً. وكانت خيوط الدم وجدت دروبها إلى عيني ولا سيما اليسرى، ثم سقطت قطرات من الدم على التراب أما قدمي. انحبس صوتي في حنجرتي، واقلني الهلع على جناح السرعة إلى البيت. كانت أختي هي التي فتحت الباب، ووقع نظرها على وجهي الذي كان قطعة من الدم، فندت عنها صيحة فزعت على إثرها أمي إلى الباب، فشهقت من هول منظري، وأكبت عليَّ تمسح الدَّم عن وجهي بكم ثوبها. كانت تلقي عليّ أسئلة كثيرة متتابعة لا أحسبها كانت تنتظر جواباً عليها، ولم أكن أنا لأجيب. أجرت لي إسعافاً أولياً على طريقتها الخاصة، وأخذتني إلى المستشفى، حيث حلق حاجب عيني الأيسر، وخيط الجرح بأربع عقد، وغطى بقطعة صغيرة من الشاش. منعتني أمي من الخروج من البيت أياماً قليلة ثم أطلقت سراحي. طبعاً وقعت تحت وطأة السؤال: "كيف حدث ذلك؟" ولم تكن مخيلتي لتتخلى عني في تلك اللحظات، فكنت أجيب: "كنت ألعب في البيت الطيني المهجور، وفجأة سقط حجر فشج جبيني وفجر الدم منه" ولم يكن لأفراد الأسرة بد من أن يصدقوا على مضض. كان البيت الطيني المهجور قائماً بالقرب من الساحة الرحملية الفسيحة، وكان متضعضع الأركان، متأكل الجدران، آيلاً للسقوط لولا أنه يرتفق ببيتين طابوقين ( مسلحين ) يشكلان زاوية صلبة يمكن الوثوق بقدرتها على احتمال العبء. كنت لا أريد أن أجر على صديقي أذى إذا ما يحدث بجلية الأمر، فأخبر أبي أباه الذي قد ينتهره أو يضربه. ولكن الأمر كله لم يكن ليخفى طويلاً، فقد كان الخوف قد استبد بصالح، فخارت قواه آخر الأمر وأفضى بالأمر كله إلى أبيه الذي عنفه ولم يضربه لأنه اعترف بنفسه. أتى أبو صالح إلى ابي في البيت وقدم اعتذاره، ودفع بابنه الجاني بين يدي أبي قائلاً في طمأنينة من يعلم أن كلامه لن يحمل محمل الجد: "اقتص منه إذا شئت" ابتسم أبي في وجه صالح، ومسح براحة يده على رأس صديقي قائلاً: "صالح لم يكن يقصد أن يؤذي صديقه" ثم التفت إلي مبتسماًً، وغمزني في مداعبة وقال: "وصديقه لم يكن ليؤذيسه" التقينا أنا وصالح في الساحة من جديد، ولعبنا ( المنطاع )، ولكن من غير تجريب طرق جديدة في ضرب القضيب بالعصا. لو كانت أم صالح على قيد الحياة لكانت أتت إلي أمي حتماً وقدمت اعتذارها عن خطيئة ابنها، ولكنها كانت قد قضت نحبها في حادثة أليمة، كان صالح شاهداً عليها وإن لم يشهد. فإذا كانت ذاكرة صديقي لم تع شيئاً من الحادثة لأنه كان ابن ثلاث سنين يومها، فقد كانت يديه اليمنى ذاكرة أمينة لا تخون أبداً، كان الفرن الغازي قد انفجر في وجه أم صالح، والنار قد اشتعلت في ثوبها وبدنها وهي تطلق صيحات الاستغاثة بأهل بيتها. كان الطفل صالح واقفاً بباب المطبخ عندما انفجر الفرن، فما كان منه وهو يسمع صيحات أمه المستغيثة إلا أن اندفع إليها وأخذ بذي ثوبها الذي كانت النار تلتهمه سريعاً، فأتت على يد الطفل اليمنى وكادت أن تشعل في بدنه كله لولا يد أبيه التي انتشلته ف اللحظة المناسبة وأبعدته عن النار وهو يطلق صيحات مريرة لبثت ترن بين جدران البيت أمداً طويلاً. عندما انتشل أبو صالح الأم من قلب النار والتي ألقى عليها الرداء الضافي كان الأوان قد فات. طبّبت يد الطفل، ولكن ما أحسن من الله خلقا !! هذه الرواية كانت ذاكرتي قد وعتها من أحاديث أمي وجارتها اللاتي يزرنها وقت الضحى.
|
12-02-2009, 10:45 AM | رقم المشاركة : 3 |
منتدى السهلة الأدبي
|
رد: ( شذرات من تجربة طفل ) قصة لـ جاسم عبدالوهاب الحسن
ــ 3 ـــ بحلول العيد، كانت تطرأ على دروب القرية ظاهرتان: البيع على الأرصفة وتحت جدران البيوت، والحصان أو الجمل الذي يقوده صاحبه في الدروب والأزقة عارضا على الأطفال والصبية من حوله ركوبه والذهاب والإياب على ظهره مسافة محددة مقابل خمس ريالات أو عشرة. كطفل، لم يكن يعنيني من أمر العيد كله إلا ذاتك المظهران، إضافة إلى ما سأجنيه من مال من المعايدة بالطبع. كانت نفس تتوق باستمرار إلى ركوب الحصان، وكلما حل عيد منيتها بتحقيق الأرب، وفي كل مره كان ثمة ما يحول بيني وبين رغبتي. وتنسلخ أيام العيد، وتعود القرية إلى سابق عهدها، فلا بيع على الأرصفة وتحت جدران البيوت، ولا حصان يفرش الدروب بسجادة من خيلاء رشاقته. يرحل العيد ولم يمتط الطفل الذي كنته صهوة الحصان، فتستحيل الرغبة حسرة مقيمة حتى يحل العيد مرة أخرى في العام القادم. ما لاذي كان يحول بيني وبين رغبتي؟ لم يكن المال بالطبع، وإنما هو قيد من الداخل. كل ما هنالك أني لم أكن أجرؤ على الاستجابة لطلبه، التي هي في الحقيقة استجابة لرغبتي. هل هو الخجل إذن؟ الخجل من نظرات الأطفال والصبية الذين سيحدقون بي من كل جانب حيث امتطائي ظهر الحصان، وسيحبون ذهابي وإيابي صائحين صياح إعجاب أو سخرية، ومصفقين تصفيق تشجيع أو حباً في التصفيق فحسب. لم يكن الخجل ليذهب عني بسهولة، بعد الطفولة المعزولة التي لبستها في بيت الأسرة الأول، بيت مسعود. العزلة تورث الخجل الذي يحول بين الطفل وبين تحقيق أربه. والعزلة أيضاً هي الوقود الذي يغذي الجرأة على خوض المغامرات إذا ما سنحت الفرص. وقد سنحت لي الفرصة. كنت على وشك الخروج من ثوب الطفولة والدخول في ثوب الصبا. كان ذلك في بستان نخيل يملكه واحد من أبناء عمومتي البعيدين. وكان له أولاد في مثل عمري، وكانوا يحبون أن يصطحبوني إلى بستانهم عصر كل يوم، حتى كان يوم حدثوني فيه ــ ونحن عائدون بعد غروب الشمس ــ عن الحصان الذي سيكون في حظيرة بستانهم من الغد. كان هذا الغد يمشي باتجاهي كالسلحفاة، ولكنه أتى. دلفنا إلى الحظيرة. كان الحصان شديد البياض، ذا غرة سوداء، ينسدل على عنقه عزف طويل أشقر. اقترب أحدهم وأخذ بلجام الحصان، فأسلس له سريعاً، ومشيا نحو باب الحظيرة. ها هو بجانب نخلة مائلة الجذع. تحلقنا حوله. كان جدار عال وينظر إلى الأرض تحته. لم أتمال رغبتي. أعلنتها: أريد أن أركب. قال أحدهم: ليس على ظهره سرج، قد تقع. قلت في ثقة: لن أقع إذا أخذ أحدكم باللجام، وقاد الحصان بأناة في ممرات البستان. شبك أحدهم كفيه صانعاً منهما ركاباً، ثبت قدمي فيه، واعتمدت باليد اليسرى على كتف صاحبي الذي صنع الركاب، وباليد اليمنى على ظهر الحصان العاري، وانتزعت جسمي بقوة من الأرض. لا أعلم ماذا حدث بعد ذلك. ثمة حلقة مفقودة من سلسلة الزمن، لحظة لا تكاد تملأ الفرق وصول الرصاصة ووصلوا صوت إطلاقها إلى رأس الضحية، لحظة تافهة في حد ذاتها، لكنها أعقبت آلاما ملأت ساعات عريضة. حقا لا أعلم ماذا حدث؟ وجدتني شابكاً ذراعي حول عنق الحصان، أشد عليه كأنما أشد على روحي التي تريد أن تحرج من بين جنبيَّ، بينما الحصان منطلق كالسهم، يشق بوجهه الهواء شقاً، ويطعن بحوافره وجه التراب المرصوص الذي يعبد ممرات البستان، ويدوس في مغارس الخس والطماطم والبصل، ويدخل بين مجتمع نخيل، فيرتطم السعف المتشابك بوجهه وبرأسي ارتطاماً صاخباً عنيفا، فيمرق منه ويدخل في مجتمع نخيل آخر فيلطم السعف المتشابك وجهه ووجهي مرة أخرى.. حدث كل ذلك والحصان لم يتخلَّ عن سرعة السهم. ويبدو أنني غبت عن الوعي لحظات لا أعلم ماذا حدث فيها، ولكن لم يرتخ ذراعاي أبداً، ولبثا معقودين حول عنق الحصان. أخذت استرجع الوعي شيئاً فشيئاً على أصوات مختلطة: "هات يديك. هل أنت بخير. لقد توقف الحصان. أرخ يديك ونحن نزلك" فتحت عيني ولم أرخ يدي. ألقيت نظرة شاملة على الوجوه الشاخصة إلي. بدت لي مألوفة. أردتأن أحرك جسمي فلم يتحرك. ثمة صخرة ضخمة تربض على ظهري. يد ما تعبث بأصابع يدي، وتفك كفي المشبوكتين، وأيد أخرى تزحزح جسمي ثم تتلقاه وتنزله برفق على الأرض. مطر يمسح على وجهي براحته الطرية. أستوي جالساً ثم أقوم على قدمي بمعونة الأيدي التي أنزلتني من ظهر الحصان، ونمشي جميعاً باتجاه باب البستان. لم تكن الشمس قد غربت بعد. في البيت، كان إخراج رؤوس السعفات المدببة من جلد رأسي عذاباً لا ينسى. بعد أيام كانت العافية تتمشى في جسمي كما لم تتمش من قبل، وكانت رغبتي في ركوب الحصان أشد من أي وقت مضى. ويدور دولاب الزمن، وتشرق شمس وتغيب أخرى، وإذا بي أخرج من ثوب الطفولة وأدخل في ثوب الصبا. وفي غفلة مني، كان ثمة عالم يتهيأ للموت، وعالم يتأهب للحياة. لقد التحق رب الأسرة بالعلم في شركة للصناعات البتروكيميائية، مقردها المدينة الجديدة، تلك التي يستغرق السفر إليها على متن السيارة ثلاث ساعات من القرية، وتقرر انتقال الأسرة بأجمعها إليها، لتكون إقامتها في المدينة الجديدة دائمة، وليكون لها بيت جديد هو البيت الثالث بعد بيت مسعود وبيت وسط القرية. وخلال إقامتها الدائمة في المدينة الجديدة، ستذهب الأسرة إلى القرية في زيارات قصيرة طارئة، يكون الباعث عليها مناسبة سعيدة كالعيد، أو مناسبة حزينة كموت قريب أو صديق. إنها المدينة الجديدة، مدينة المصانع والتلوث البيئي، مدينة الشاحنات الضخمة التي تنقل المعدات والآلات والعمال، فيا لها أطناناً من الحديد تنقل على عاتقها أطناناً من الحديد أخرى. مدينة الطرق السريعة الواسعة، والنوافير الاصطناعية، والحدائق الاصطناعية، والسماء الاصطناعية، والإنسان الاصطناعي. مدينة العلب الإسمنتية الكالحة. إنها مدينة عمل ولا مجال فيها للتعارف ما بين الجيران، أو للتزاور أو لعقد الصداقات. إنها بكلمة واحدة مدينة العزلة. وها أنا ــ الصبي الذي بالكاد خرج من ثوب الطفولة ــ أدخل في نفق العزلة من جديد، ومن داخل عزلتي، من داخل علبة إسمنتية معزولة عما حولها من علب، سأصيخ القلب إلى نداء الأمكنة العتيقة، وسأكتب تحت تأثيره شذرات من تجربة طفل كنت قد خلعته في القرية ذات صباح عتيق، وخرجت منها خروج آدم.
|
12-02-2009, 10:51 AM | رقم المشاركة : 4 |
منتدى السهلة الأدبي
|
رد: ( شذرات من تجربة طفل ) قصة لـ جاسم عبدالوهاب الحسن
ــ 4 ـــ يحدث أن يسافر أبي وأمي وحدهما إلى القرية، فإذا ما رجعا بعد يومين أو ثلاثة فلا حديث لهما إلا عن الأقارب والجيران القدامى، أولئك الذين عرفتهم الأسرة في بيتها الثاني، بيت وسط القرية. وكثيراً ما يتركز الحديث على الجيران اللصقاء أو الجنب منهم: ماذا جد في حياتهم، من هجر بيته القديم وسكن بيتاً آخر، من تزوج منهم ومن أنجب، ومن أدخل المدرسة من أطفالهم الذين لم ترهم الأسرة في عهدها في بيت وسط القرية، ومن دخل الجامعة ومن تخرج منها من أطفالهم الذين رأتهم الأسرة في ذلك البيت، ولاذي اصبحوا اليوم في شرخ الشباب كأطفال الأسرة الذين ولدوا وعاشوا طفولتهم في القرية. كان حديث الأب والأم هذا يدور فيما بينهما تارة، وفيما بينهما وبين باقي أفراد الأسرة بنين وبنات تارة أخرى. أنا كواحد من الأسرة لم يكن هذا الحديث ليعنيني قليلاً أو كثيراً، غير أنني كنت أبدي اهتمامي له من باب الاحترام، حتى كان يوم دار فيه الحديث بين أبي وأمي، وكانا قد رجعاً منذ ليلة فقط من القرية. كانا مقبلين على بعضهما بالحديث إقبالاً تاماً، وكأنما خلي ما بينهما وبين المكان، فهما في خلوة على أن باقي الأسرة في الحقيقة كان من حولهما، ولم يكن حديثهما إسراراً. ما لفت انتباهي إلى الحديث الدائر بينهما هو انصرافه إلى مديح واحدة من بنات الجيران، جيران القرية القدامى طبعاً. كانت الغبطة ولا شك هي شعورهما تجاه البيت وأهلها. تحدثا عن نيلها شهادة في التمريض، وعن عملها مؤخراً في المستشفى الحكومي القريب من القرية نسيباً، وعن الرخاء الذي أخذ يشق طريقه إلى أسرتها على يديها. كان الحديث في حدوده هذه جديراً بأن يثير اهتمامي وأن يدفعني إلى صرف انتباهي كله إليه، حتى قبل أن يذكر أسم الفتاة وقبل أن أعرف المقصود بذلك الحديث، وإن كنت قد عرفت أسرة الفتاة من البداية. إنها الأسرة التي تسكن البيت الملاصق من الخلف لبيتنا في وسط القرية. غير أن الاهتمام لذلك الحديث والانتباه إليه تحولا إلى عاطفة حب ساذجة، وإلى حنين مفاجئ لا يقاوم، وإلى حمى تهتصر المخيلة والذاكرة معاً بمجرد أن ذكر أسم الفتاة. لا تكاد الذاكرة ترسم وجهاً تام التفاصيل لتلك الطفلة التي عرفتها في طفولتي، ولاتي أصبحت اليوم ممرضة في المستشفى الحكومي حسب حديث أبي وأمي. بيد أن أول خط من ذلك الوجه ظهر على شاشة الذاكرة كان الغمازتين اللتين تبزعان على خدين مليئين كلما ضحكت طفلتي أو ابتسمت. لم أكن لأنسى تينك الغمازتين أبداً؛ فأنت قد تمر عليك آلاف الوجوه في حياتك فلا تقع إلا على وجه واحد بغمازتين، أو لا تقع. إنهما شارة وإشارة، مثلما هو خاتم النبوة على كتف النبي. استطيع أن أعرف طفلتي بأنها بنت الجيران ذات الغمازتين وكفى. يبدو أن حديث أبي وأمي عن بنت الجيران ذات الغمازتين قد رج صندوق اللاوعي، فطفحت صورة منه على سطح الوعي وتجسدت أمام عيني كأنما تعرض على شاشة سينمائية كبيرة: كانت الشمس تبعث سهاماً ضوئية باردة، وكنت على سطح بيتنا، بيت وسط القرية، أقلب بين يدي قطعاً صغيرة من الحديد والخشب، وأسلط عليها مخيلتي فاستخرج منها صور أسود وثعالب وخيول وجمال، فأقابل ما بين أسدين وأشعل بينهما معركة ضارية، وأتخيل أصابعي فرساناً فأركبهم الخيول وأطارد بعضهم ببعضهم الآخر.. وبينما كنت مستغرقاً في لعبي هذا نبهتني يد صغيرة كانت تربت على كتفي، فالتفت فإذا بها بنت الجيران ذات الغمازتين تنصب ورائي باسمة. يبدو أنها ارتفعت برميلاً أو صندوقاً كبيراً، وتسورت الجدار الواطئ الفاصل بي سطح بيتنا وسطح بيتهم وتدلت بقدميها على البرميل القابع في مكانه تحت الجدار على سطح بيتنا، ونزلت بهدوء من البرميل. أو أنها جاءت من الأسفل.. دلفت من باب البيت إلى الفناء، ومنه إلى الدرج وصعدت إلى السطح، ثم اقتربت مني بهدوء لتخرجني من عالم أحلامي بيدها الصغيرة. المهم أنني تركت كل ما في يدي، وقمت إليها. قالت: "أريد أن ألعب معك" ففرحت وانحنيت على قطعي الصغيرة لأعرض عليها اللعبة، فبادرت وقالت متأففة: "لا أحب اللعب بهذه القطع" فرميت ما في يدي واعتدلت وفكرت لحظة ثم قلت في فرح من وجد حلاً لمشكلة صعبة: "أذهب وآتي بالكرة من تحت" فأمسكت يدي وقد هممت بالذهاب لجلب الكرة وقالت: "لا.. أنت ولد والأولاد يفوزون على البنات دائماً" ثم عرضت عليها لعبة ثالثة فلم تستجب لها أيضاً. فكرت وفكرت لحظات حتى اهتديت إلى لعبة مبتكرة، لا أعلم كيف واتتني فكرتها، فهتفت في ظفر: "نلعب لعبة الطبيب والمريضة" فنظرت إلي نظرة متسائلة، فأومأت إلى الرواق الصغير في إحدى زوايا السطح، ذلك الرواق الذي كان بيتاً للحمام ذات يوم، وقلت في حماسة: "هذا هو المستشفى" وأخذ بيدها وقدتها إلى الرواق، وقلت: "سأكون أنا الطبيب، وتكونين أنت المريضة التي تأتي إلى المستشفى "فأخذ الحماس إلى اللعبة يسري شيئاً فشيئاً مني إليها، فإذا بها تدلي باقتراحات ذكية، فتقترح أن ننقل ذلك الصندوق القابع في جانب من السطح إلى الرواق ليكون مكتباً للطبيب بعد أن كانت أسوداً وثعالب وخيولاً وجمالا. أنجزنا مكتب الطبيب والسعادة تحدو ذهابنا وإيابنا، ثم فرشنا في جانب من الرواق / المستشفى بطانية مغبرة لتكون سريراً. ألقت ذات الغمازتين نظرة شاملة على المكان، ثم تساءلت: "هل ينقص المستشفى شئ؟" فألقيت نظرة على مكتب ثم قلت: "تنقصني سماعة الطبيب" فقالت: "وقلم وأوراق حتى تكتب الوصفة الطبية" فمضيت من فوري إلى غرفتي في الأسفل، وبعد لحظات عدت وفي يدي حبل وقلم وأوراق. وضعت القلم والأوراق على المكتب، أما الحبل فقد فتلت أحد طرفيه وجعلته فرعين ثبتهما في أذني وتركت الطرف الآخر يتدلى إزاء صدري وبطني، فأعجب ذلك ذات الغمازتين، فقالت: "إنك طبيب بحق رغم أنه ينقصك ذلك القميص الأبيض المنسدل حتى الركبتين، ولكن من أين نأتي به؟! لا يهم، فلنبدأ اللعبة "وخرجت من الرواق، وبعد لحظات عادت تشكو إلى الطبيب الجالس وراء مكتبه ألماً في بطنها، فطلب إليها الطبيب أن تستلقي على السرير ففعلت، فأخذت سماعتي وأقبلت على مريضتي، فاطمأنت على قلبها بعد أن نقلت الساعة إلى أذني ضرباته المنتظمة. ولأني طبيب، ولأن مريضتي تشكو مغصاً، فلابد أن أكشف عن بطنها. وهكذا مددت يدي إلى ذيل ثوبها وأزحته شيئاً فشيئاً إلى ما فوق البطن. سألت مريضتي عن منطقة الألم، فوضعت إصبعها على نقطة من بطنها، ثم أخذت أنقر بإصبعي على بطنها في مواضع متعددة، وأصغي إلى الأصوات المختلفة التي تصدر عن تلك النقرات، ثم قمت إلى مكتبي وأخذت بعض الأدوات الطبية وأقبلت ثانية على مريضتي المستسلمة تماماً لحكمة الطب. شرعت أحرك أدواتي الطبية على بطن المريضة محاكياً بذلك حركات المشرط والمقص كما لو كنت أجري عملية جراحية. أنجزت مهمتي، واطمأنت ثانية على قلب مريضتي، ثم جمعت أدواتي الطبية وعدت بها إلى مكتبي، ونهضت ورائي المريضة ومشت إلى المكتب وانتصبت أمامه بينا كنت وراءه أكتب العلاج الذي لم يكن سوى خطوط وتعرجات لا معنى لها في الحقيقة. ناولت المريضة الوصفة الطبية وحددت لها موعداً لزيارتي مرة أخرى. لقد كانت اللعبة مسلية حقاً، وكانت سفر إلى عوالم جديدة مدهشة، ولم تكن الغمازتان لتفارق خدي بنت الجيران في ذلك اليوم البعيد. كنا سعيدين نكاد نسمع ثرثرة الفرح في قلبينا. وها أنا اليوم ــ في العقد الثالث من عمري، في المدينة الجديدة، مدينة الصناعة والتلوث البيئي ــ ها أنا مجرد م غمازتي الحنونين، أقبع في علبة من الإسمنت معزولة عما جاورها. تجفف العزلة مشاعري، ويهتصر العطش الفاجع زهرة فؤادي، ويتراكم الظمأ الصاد على قلبي كما تتراكم صخور الجبل العظيم على صدر الأرض؛ فألوذ بالذاكرة العاشقة، وبقة اللاوعي الكامنة، لأرتشف فرحاً كثيراً ينفتح من غمازتين سخيتين، وأترطب بذكرى جسد خلع على شاشة ذاكرتي بياضه الحليبي الصقيل. بعد حديث أبي وأمي ــ ذلك الحديث الذي رج صندوق الذاكرة، وأخرج أطياف اللاوعي من سباتها ــ سافرت إلى القرية في إحدى المناسبات، فلما وصلت وتخففت من متاعي، أقلتني السيارة إلى المستشفى الحكومي، فدلفت إلى البهو الأمامي، وسألت أحد موظفي الاستقبال عن القسم الذي تعمل فيه بنت الجيران ذات الغمازتين، طبعاً لم أقل له هذه الجملة الأخيرة، وإنما سألته عن الممرضة فحسب، وذكرت له اسمها، فدلني على القسم الذي تعمل فيه، فشكرته وخرجت. بعد ذلك، وعلى مدى زيارتي هذه القرية، كنت أمر بالمستشفى صباح كل يوم، فأدلف إلى بهو الاستقبال، وابقى متردداً، أقدم خطوة وأؤخر أخرى، فقد كنت أفكر في أمر، وأعرضه على نفسي على هذه الصورة: أدعي إصابتي بمرض يتيح لي الدخول على طبيب في القسم الذي تعلم فيه ممرضتي، فإذا تم لي ذلك فلعل الصدفة الجميلة تضعني وجهاً لوجه معها.. بل هذا ما سيحدث بالضبط.. قلبي يحدثني بذلك. فه ستتعرف على وجهي يا ترى؟ لا يهم. المهم أن أكون وجهاً لوجه معها، وأن أنظر إلى غمازتي الغاليتين. ولكن.. قد تكون متنقبة؟! حسناً سأقول لها بسذاجة الطفل الذي كنته قبل عقدين من السنوات: "هل تسمحين بأن ترفعي النقاب عن وجهك وتبتسمي، حتى أنظر إلى غمازتيك المحروستين؟ "ترى هل تقتنع أن كل هدفي من رفع نقابها هو النظر إلى تينك الغمازتين فقط، وبعدها أمضي إلى حال سبيلي؟! لعلها.. ولعلنا ــ فوق ذلك ــ نلعب مرة أخرى لعبة الطبيب والمريضة ولكن بعد تبادل الأدوار هذه المرة. جاسم عبدالوهاب الحسن
الأحساء ــ الطَّرف 20/9/1421هـ
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
|
|