أحسست بشيء ما يجرني نحو بدني ,فدخلت القبر معه ولم أستوحش منه بالرغم من احساسي بألم الفراق وضيق الآفاق ,وذلك لعلمي بقرب مؤمن ,وأنسي بقراءة القرآن
مضت ساعة على هذه الحالة حتى غادرني مؤمن وغادر النور معه .وبقيت وحيدا في منزلي
وازدادت ظلمة قبري وعظم خوفي ووحشتي ,
واذا بالنداء يأتي من فوق القبر ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فأطرق سمعي وشغل فكري وهو يقول
انا بيت الوحشة انا بيت الوحشة
أصابني هول شديد ووضعت يدي على رأسي وصرخت بأعلى صوتي :
من المنادي؟
ومن أين هذا الصوت الذي أرعبني؟
عاد الصوت مرة اخرى ولكن بشدة اكبر وصدى أكثر ,ثم أضاف ألا تعرفني من أنا؟
انا بيت الوحدة والغربة, انا بيت الوحشة والدهشة , ألم تكن تحسب يوما أنك سوف تأتي وتنزل عندي,كنت مشغولا بالدنيا فنسيتني ,
وكنت تعمل وتجمع الأموال لبناء منزل فيها ولم تفكر في منزلك بعد موتك
كنت خائفا منبهرا من كلامه , التفت يمينا ويسارا لعلي أعرف مصدر ذلك الصوت ولكن دون جدوى , فصرخت مرة أخرى:
قل لي بالله عليك من أنت؟ وأين أنت حتى أجيبك؟
قال :
انا القبر الذي دفن فيه بدنك.
قلت :
عجبا وهل القبر الذي كله جماد يتكلم؟
قال:
نعم (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيئ)
ولا تتعجب فأن كل شي في هذا العالم حي ينطق كما نطقت لك, ويشهد عليك بما فعلت ولكن الذين بقوا في الدنيا لايعلمون ذلك,
فهم يستخدمون الجمادات ولا يعلمون انها سوف تشهد عليهم , وترى بعضهم يصنعون السياط ووسائل التعذيب ليؤذوا بها المؤمنين وهم لايعلمون أن نفس السياط سوف تشهد عليهم وعلى ظلمهم
سكت قليلا ثم عاد ليقول :
انك سوف ترى العجائب والأهوال عندي اولها ضغطتي عليك,
قلت مع نفسي : بسم الله هذا ماأخبرنا به الرسول والأئمة الاطهار عليهم السلام, فكم قرأت في دنياي عن ضغطة القبر وانها شديدة تخرج زيت البدن منه وتهشم العظام وتكسر الأضلاع و و ؟
آه آه والويل لي كيف سأتحملها أم من ينقذني وينجيني منها ؟ وبدوامة الأفكار هذه كاد يغمي علي لولا أملي بالنجاة , وتذكري مقامي في الجنة الذي رأيته عند الاحتضار , لذلك عزمت على سؤاله فقلت له :
وهل هناك سبيل للنجاة من ضغطتك هذه؟؟
قال:
-الآن كلا كان السبيل لديك في الدنيا فلماذا أهملته ولم تعمل بما قرأته يوم ذاك؟؟؟؟
سمعت ماقاله وتذكت أني عملت بما قرأته في دنياي, فسألته متعجبا:
- لعلك نسيت اذ أنني عملت بها , فهل ترغب بتذكيرك اياها ,
نعم كتنا الاولى كفران النعم , وقد سعيت واجتهدت في شكر نعم الله مااستطعت , والثانية اجتناب النجاسات وقد اجتنبتها , والثالثة الغيبة والنميمة وقد تركتها , والرابعة سوء الخلق مع الأهل وقد كنت حسن الخلق مع زوجتي وطفلي فماذا تقول في ذلك ؟
أجابني بصوته الخشن :
- صحيح ماتقول , ومن جعله الله شاهدا عليك لايخطئ ولا ينسى , ولكن شكر النعم الذي تقول انك اديته , انما الكثير منه لقلقة لسان فقط فعندما كنت تقول الحمد لله , لم تكن تستحضر في قلبك ذلك , ولم يختلط معه الخشوع والذل بمقابل المحمود عندما تحمده , اما مع انسان آخر مثلك , فعندما يقدم لك خدمة صغيرة تشكره وفي قلبك احسان بمنته عليك وكأنك تستحي منه و وقد تشعر ان شكرك اياه لايعادل خدمته لك ,فتنوي منحه هدية ما , أو تجازيه بخدمة أخرى , والآن قل لي هل كانت كل هذه الاحاسيس لديك عندما كنت تقول (الحمد لله)؟؟
تحيرت في اجابته وماذا عساي أن اقول له , لذا التزمت الصمت ولم أجبه فعاد مرة اخرى ليقول :
- ولايكفي ما ذكرته ,للأن شكر النعم لايكون كاملا الا بأداء حقها العملي , فمن رزقه الله المال عليه التصدق ومراعتة الفقراء وأداء الحقوق الشرعية المترتبة عليها , ومن رزقه العافية فعليه صرف قدرته وعافية جوارحه في الله ومن أجل الله وفي خدمة الدين والناس , ومن رزق الجاه والمنصب فعليه العدل بين الناس وأداء حقوقهم بما يتناسب مع منصبه ومنزلته
التزمت الصمت مرة اخرى , فليس عندي شيئ ادافع به عن نفسي , وأصابني اليأس من النجاة منه , ولكن في هذه الأثناء تذكرت انني قرأت ذات يوم في كتاب منازل الآخرة أذكارا تخفف على الأنسان ضغطة القبر , وقد التزمت بها وداومت عليها فلعلها تشفع لي الآن ,
حينها رفعت رأسي قائلا:
ماذا تقول في الأذكار التي كنت أداوم عليها وهي مما يؤمنني منك ومن وحشتك وضغطتك , فأني كنت أقرأ سورة النساء في كل جمعة , وأداوم على قراءة سورة الزخرف و..
قاطعني في كلامي على الرغم من أن لدي ماأقوله أيضا اذ قال :
ان ملائكة ربي قد سجلوا لك كل ذلك صغيرة وكبيرة , وايا منها كان باخلاص ونية صادقة لله وايا منها كان رياء , وايا منها كان لقلقة لسان , كما سجلت لك درجة كل منها , وبناء على ذلك جاءني الأمر من العلي الأعلى ولولا اعمالك وأذكارك تلك التي كانت خالصة لله لكانت ضغطة القبر وعذابه أشد بكثير وكثير مما سوف تلاقيه
تيقنت انه لاجدوى من النقاش معه , فانه مأمور من الله تعالى لا أكثر , وانما هي أعمالي وأذكاري أجازى بها وألاقيها , وما أصدق الامام علي اذ يقول في ديوانه المنسوب اليه :
يامن بدنياه اشتغل قد غره طول الأمل
الموت يأتي فجأة والقبرصندوق العمل
أنقطع الصوت فلم يعد له أثر يذكر,وبدأت أسمع بدلا منه أصواتا غريبة مخيفة ,يرافقها احساس بضغوط عظيمة مؤلمة على بدني الذي مازالت روحي مرتبطة به , وكأن القبر قدكبس علي من جميع جهاته بمكابس زيتية . وفي ذلك الوقت سادت ظلمة شديدة , فصرخت وما من مجيب حتى انقطع نفسي , وبدأت أسمع أصوات تكسر عظامي , وزادت شدة آلامي بدرجة لاتوصف , ولو جمعت كل آلامي في الدنيا لما عادلت جزءأ يسيرا مما يصيبني الآن...
انتهت ضغطة القبر وكأنها طالت سنينا وسنينا , فتركتني نكسر الأضلاع , مهشم العظام ,لا أستطيع الحركة ولا النهوض ,أصرخ صراخ الأطفال من الألم , ومما زاد ا؟لأمر عسرا أن وحوشا سوداء مخيفة دخلت القبر واستعدت للهجوم على بدني , وراحت تكشر بأنيابها المرعبة , وتنظر الي بنظراتها الحاقدة , وتحت أقدامها ظهرت عقارب سودا مخيفة , وفي جانب آخر انطوى ثعبان ضخم الهيئة مخيف المنظر كان يخرج لسانه الملتهب مرة ويدخله مرة أخرى , وكأنه يعطي تذيرا باللدغ والأفتراس , والذي يزيد المشهد وحشة أن جميعها كانت تصدر أصواتا مخيفة للغاية وتخرج من أفواهها شرارات ملتهبة تنذر بافتراس قريب الوقوع , حينها سالت دموعي أسفا وحزنا على حالي وضعفي بين هذه الوحوش المفترسة والحيوانات المهولة . أحسست أن الآفاق ضاقت بي وأزمتي بلغت ذروتها . هناك انقطع املي من كل شيئ غير الله , فانطلق لساني مرددا :
يغياث المستغيثين , ياأنيس المستوحشين , ياأمان الخائفين ( يامفزعي عند كربتي وياغوثي عند شدتي اليك فزعت وبك استغثت وبك لذت لا ألوذ بسواك ولا أطلب الفرج الا منك ) , ثم أعقبت استغاثتي هذه بالتوسل بأصحاب المنازل العظمى عند الله : (يا محمد ياعلي ياعلي يامحمد اكفياني فانكما كافيان وانصراني فانكما ناصران )
بدأت الوحوش تتقدم نحوي بهيئتها المخيفة , وراحت العقارب تقفز هنا وهناك وكأنها سعيدة بفريستها التي اقترب موعدها .
ياله من أمر عجيب !
كانت بكل خطوة تقترب فيها تنكشف ظلمة القبر أكثر فاكثر حتى انجلت , واذا بكائنات لطيفة منيرة ذات صور جميلة تدخل القبر,وتقف أمام هذه الوحوش المتقدمة لتعلن الحرب معها , حينها عادت لي أنفاسي وبقيت انتظر ماذا سيحدث ......
بدأ الصراع العنيف بين المجموعتين وكم كان شديدا لدرجة امتلأ القبر من غبرته , واختفى الثعبان على أثره , وبقيت الوحوش والعقارب بين الفر والكر حتى خرجت هاربة , ولحقتها العقارب الا واحدا قفز نحوي وعلق بقدمي , فلسعها لسعة شديدة مؤلمة وغرز ابرته فيها ولم يخرجها منها , فصرخت صراخا عظيما من ألمها واستنجدت بالكائنات المنيرة ولكن لا أحد يتجرأ على سحبها وابعادها عني فبقيت هكذا بين اللوعة والألم والصراخ والعويل ..
اقترب مني احدهم وكان أجملهم صورة وأكثرهم نورا وأعذبهم كلاما فراح يمسح على بدني بيده اللطيفة الشفافة ويهون علي مالقيته من ألم ووحشة حينها بدأ الألم يغادرني , ويزول شيئا فشيئا وأحسست بقوة تمكنني من النهوض والحركة حتى زالت جميع آلامي الا ألم العقرب الذي لم يزل عالقا بقدمي .
شكرته كثيرا مع رفقائه وشكوت له مالقيت فقال:
ان كل ما رأيته وسوف تراه هو صور لمجسمات أعمالك السيئة وعقائدك الباطلة المنحرفة , وهي ستكون مؤذية مهلكة لاتتهاون عن جلب الشر اليك حتى تلقيك في قعر جهنم , وما رأيته من وحوش وعقارب وثعبان انما كان جزءا بسيطا منها , لكن بمقابل هذا ستكون هناك جبهة أعمالك الحسنة وعقائدك الحقة , وهاتان الجبهتان في صراع دائم في عوالم مابعد الموت , وهكذا كانت في عالم الدنيا , الا أن الفرق بينهما ان كنت قادرا على نصر كفة على أخرى , اما في البرزخ وبعده فلا يمكن لك ذلك , ولا حول ولا قوة الا برصيدك من الحسنات والطاعات وأعمال الخير التي ادخرتها لنفسك في دار الدنيا.
انني في عالم الدنيا لم أكن أصدق بدرجة اليقين ما أقرأه في بطون الكتب من تجسد الأعمال في عوالم مابعد الموت
وكنت اعتبر ذلك غير قابل للتصور , الا ان ما اشاهده الآن وما ألاقيه اثبت لي صحتها وصدقها فقلت اليه:
هل لك أن تخبرني عن أعمالي السيئة التي تجسمت بهذا الشكل المرعب من الوحوش والعقارب والثعبان؟؟
قال :
- ان كل مؤمن لايقضي حاجة أخيه المؤمن وهو قادر عليها , يسلط الله عليه في قبره ثعبانا يعرف بالشجاع , ولأنك في مندوحة وبعد عن مثل هذه الموارد لذلك كان ثعبانك ضعيفا , وقد يظهر لك فيما بعد في المراحل القادمة من مسيرتك في عالم البرزخ , اما العقرب الذي علق بقدمك ولم يزل يؤذيك فهو دين عليك لم تؤده الى صاحبه
قلت متعجبا :
ولكني أديت كل الذي كان علي من أموال الناس , ولم يبق شيئ في عنقي .
قال :
قبل احد عشر عاما اقترضت من صديق لك في الجامعة اسمه أحمد مبلغا قدره 300 دينار , ولم تره مرة اخرى بسبب انتهاء الدراسة , كما انك لم تسجله في دفتر ديونك ولم تؤده له حتى الآن .
كنت اتلوى من الألم وبين الحين والآخر يغرز العقرب ابرته في قدمي , فأصرخ صرخات عظيمة تقطع حديثي , لذلك وبعد انقطاع قليل عدت الى الحديث فقلت له :
- بالله عليك خبرني كيف السبيل للنجاة من هذا العقرب الخبيث؟
- ان العقرب سوف يبقى عالقا في قدمك حتى يؤدي عنك شخص ما دينك في عالم الدنيا أو يبرئك صديقك منه .
أصابني غم عظيم , وغمرني الحزن في نفسي وأخذتني الحسرة على تلك التبعة المؤلمة فليس هناك شخص يعلم بها وينقذني بأدائها , ولا أنا كتبتها في وصيتي ولا..
وبينما انا في تلك الدوامة من الفكر الذي اختلط به أنين الألم واذا بصوت مرعب مهول يملأ القبر , فهو كصوت الرعد في السماء . نظرت الى صاحبي الذي كنت أ تحد ث معه فاذا به مبهورا من ذلك واتخذ جانبا من القبر مع رفقائه ليراقبوا ما سيحدث , اما أنا فكنت أكثر أضطرابا عندما رأيت كائنين دخلا القبر بهيئة ذات ملامح عجيبة غريبة وهيبة عظيمة مخوفة توحي الى عظم شخصيتهما , فلم أرى مثلهما مخلوقا قط في عالم الدنيا , كانت أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف . بادرني احدهما بالسؤال قائلا :
- أجبنا من ربك ؟
تذكرت ماقرأته سابقا في الكتب عن الملكين منكر ونكير , وأنهما يختصان بسؤال الميت عن عقائده , حينها سألتهما :
- هل أنتما منكر ونكير ؟
قال الآخر :
- نعم ولا بد لك من الاجابة على أسئلتنا كي نعلم صحةعقائدك , وأنها نابعة من الايمان القلبي , لامن تقليد ولقلقة لسان . والآن أجب عن السؤال الأول دون تأخير من ربك ؟
كان سؤاله للمرة الثانية بغضب اكثر وصوت أعلى , حينها أسرعت بالاجابة فقلت :
- ربي .. ربي ..
ياالهي ان لساني غير قادر على نطق ما أردت نطقه , بل نسيت مانويت قوله ونويت الاجابة به , فأصبحت أنظر اليهما تارة والى الكائنات المنيرة تارة أخرى لعل أحدهم يسعفني , وبدلا من ذلك رأيت شخصا أسود اللون كالقير , قبيح الشكل , موحش المنظر , قد برزت أنيابه فزادته قباحة فوق قباحته , وبدت منه رائحة كريهة زادتني نفورا منه . بدأ يقترب مني حتى استقر امامي وقال :
- اراك كل لسانك عن النطق وتعثرت في الاجابة , ولكن لا بأس عليك فسوف أنقذك من مأزقك , قل ان ربي أنتما الملكين , وكل شيئ بيديكما , الا ترى قوتهما وتسلطهما عليك , فلو شاء أحدهما أن يحرقك الآن لفعل . وعلى أفرض اكذب عليك كما تظن , ففي جميع الاحوال ان أجبت بما قلته لك , فسوف تنجو منهما لأن أي شخص تمجده وتمدحه فسوف تغمره نشوة الكبرياء والسلطة , وسوف يعفو عنك , بل قد يكرمك ويكافئك على تمجيدك اياه .
كنت متحيرا في أمري بين كلام هذا القبيح الأسود , وبين ما كنت أؤمن به من توحيد الله , فتساءلت مع نفسي لماذا لايبرز هذا الايمان بهيئة جواب للملكين , فهل ان توحيدي لله لم يكن خالصا في الدنيا ؟ أم أنه كان سطحيا لم يتوغل في اعماق قلبي ولم يعجن مع روحي لتي لم تفن حين موتي ولن تفنى حتى الأزل . اذ أن ضعف الايمان والتوحيد تجسد بهذه الهيئة من التعثرات في الجواب , وبينما انا في تلك الدوامة من الفكر واذا بأحد الملكين يصرخ في وجهي :
- لماذا لك تحب حتى الآن عن سؤالنا ؟ الم تعلم من ربك ومن كنت تعبد ؟
وقبل أن ابدأ كلامي المتعثر من جديد سمعت أحد الكائنات النورانية ينادي :
- قل ربي الله , قل ربي الله الذي لا اله الا هو .
بعدها نادت جميع الكائنات النورانية بصوت واحد منتظم :
قل ربي الله , قل ربي الله الذي لااله الا هو .
وبعد أن سمهت كلامهم قل اضطرابي واطمئن قلبي وانطلق لساني, فقلت :
- ربي الله ربي الله الذي اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر
تنحى القبيح جانبا وكأنه فشل في مهمته السيئة , وبقي ينظر الي بنظرات حقد وشر منتظرا فرصة أخرى يتدخل بها .
قال أحد الملكين :
ان توحيدك لم يكن خاصا لله بصورة كاملة .لقد كنت في بعض الأحيان تعلق الرزق أو النجاة من مصيبة وقعت فيها بأشخاص مخلوقين مثلك , كما ان بعض أعمالك يخالطها الرياء وحب الشهرة والسمعة , غافلا عن أن ذلك مخالف للتوحيد الخالص لله الذي بيده أسباب الكون ومسبباته , لذلك لم تتمكن من الاجابة الا عد مساعدة الولاية ورفقائها من الصلاة والصوم والزكاة والحج والعمرة والبر والاحسان , ولولاها لفشلت ولأحرقنا عليك القبر وجعلناه بابا الى جهنم التي توعدكم الله بها .
نظرت الى الكائنات النورانية وقلت بصوت متعجب مندهش :
- اذن انتم .. انتم كما قال ..
لم يجبني احد منهم , وبدأ ينظر كل منهم للآخر ثم قال احدهم :
- ان منكرا يعرفنا ولا بد أن نكون كذلك .
التفت الى الملكين بعد أن عرفت أيهما منكر وأيهما نكير فقلت :
- اذن الذي على يميني منكر والذي على يساري نكير .
قال منكر :
- بقيت أمامك أسئلة ان نجحت في الاجابة عنها نجوت , والا هلكت وبقيت في عذاب وبلاء الى ماشاء الله . ولآن أخبرنا من هو الرسول الذي ارسله الله اليكم وبأي دين جاء فأطعتموه ؟
كانلدي اليقين الكامل بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وبرسالته فقد طالعت الكثير من الكتب التي كانت تثبت ذلك , وتعطي الأدلة الشافية على صحة رسالته التي جاء بها , لذا لم تكن هناك صعبة في الاجابة اذ قلت وانا اظهر الاتزان والاطمئنان في كلامي :
- ان نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله آمنت به بالدليل دون ان اراه , واتبعت رسالته دون ان أكون معاصرا له , واتبعت خليفته من بعده علي بن ابي طالب الذي كان حجة الله على خلقه , ثم تلاه في الامامة احد عشر كوكبا معصومون من الزلل , أمرن بطاعتهم , فكانوا هم سفينة للنجاة وسبيلا للهداية , واذا شئت ذكرت لك أسمائهم واحدا تلو الآخر.
كنت خلال حديثي مع الملكين انظر لمن حولي فرأيت القبيح يشتعل غضبا ويمتلئ غيضا لدرجة انه لم يحتمل البقاء, فترك موضعه واختفى فلا أثر له !
اما منكر ونكير فبعد انتهاء كلامي سمعتهما يتحدثان بصوت خافت لم أفهمه , بعدها توجه نكير بالكلام لي وقال :
- انك سبقت سؤالنا حول الامامة بحديثك فلا نسألك عنها , ولكن قل لي بأي دين جاء نبيكم وأي كتاب وأي قبلة اوصاكم بالتوجه اليها ؟
كنت في الدني احب قراءة القرآن وأءنس به , اذ كنت أشعر بأن الله تعالى هو الذي يخاطبني , وكلما تدبرت في آياته ازددت يقينا , وبدت لي معجزات عظيمة فيه , وظهرت لي حقيقة الدين الذي اعتنقته وهو الاسلام , ولشدة حبي لتلاوة القرآن كنت أحمله معي الى موقع عملي , فأتلوا ما تيسر منه في وقت فراغي , وبسبب هذه العلاقة بيني وبينه تمكنت من النطق بطمأنينه فقلت :
- نبينا الكريم جاء بدين الاسلام وهو أكمل الاديان وخاتمها وكتابنا القرآن وهو(كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
وقبلتنا الكعبة فهي محور توجه المسلمين الى الله الذي امرنا بها بقوله ( وحيث ماكنتم فولوا وجوهكم شطره)
كنت سعيدا جدا لتمكني من الاجابة , وكا بودي الاسترسال بالحديث اكثر لولا اني شعرت بتجاوز حدود السؤال لذا توقفت عن الكلام وانتظرت ان يبادراني بالسؤال مرة اخرى.
قال منكر وقد بدت عليه ملامح التبسم الممزوج بالهيبة والوقار:
- ان اجوبتك كانت مصداقا للآية الكريمة( يتبت الله الذين آمنوابالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
وهي انما كانت حصيلة جهودك في البحث عن الحقيقة وتحصيل العقائد الحقة خلال سنين عمرك الأخيرة , كما أن تلقين صديقك مؤمن حين نزول بدنك في القبر كان له الأثر في ذلك, اضافة الى مساعدة بعض الأعمال والأذكار التي أديتها في الدنيا , من قبيل صيام شهر شعبان , واحياء ليلة الثالث والعشرين من رمضان وصلاة مائة ركعة فيه
انتهى كلامه فسألته قائلا:
- يبدو ان لديكما العلم والاطلاع بدرجة الايمان في قلبي وصدقه من كذبه , وماهي العقائد القوية والضعيفة لدي , اذن فما وجه تساؤلاتكما هذه ؟
أجاب قائلا :
- ان اسئلتنا كانت لغرض اظهار مستوى عقائدك اليك لتطلع عليها,حينها سوف لاتعترض على أي أثر نرتبه طبقا لذلك, وهدف آخر منها هو ان هذه الاسئلة والاجوبة تكون سرورا للمؤمن ان اجاب عنها وعذابا للكافر اذا تعثر فيها, كالطالب الذي يفرح عندما يجيب عن اسئلة معلمه , وبعكسه الكسول الذي يخجل ويحزن لتعثره فيها , وما ذلك الا ضرب من ضروب الثواب والجزاء.
لم يترك الملك مجالا لسؤال آخر فبادر قائلا :
- ان روحك سوف تترك بدنك الدنيوي المادي بصورة كاملة .وتستقر في قالب مثالي لطيف يشابه من حيث الصورة والشكل قالبك الأول
قال ذلك واختفى مع صاحبه فجأة , فالتفت يمينا ويسارا ابحث عنهما ولكن لا أثر لهما قط
وكما قال الملك وأخبر فقد أحسست بعد اختفائه بتفكك كل القيود التي كانت تربطني ببدني المادي , وكأن حبالا كانت تجرني نحوه قد تقطعت , وقيودا قد تمزقت , فأصبحت خفيفا لطيفا , ولم أشعربالتحاقي بالعالم المثالي الا بعد استقراري فيه لخفته ولطافته.
زالت همومي وآلامي بنجاتي من أسئلة منكر ونكير الا هم العقرب وألمه فهو لايرضى المفارقة ولا يقبل المساومة , لذا عاد أنيني وصراخي منه , بينما انا كذلك لا حظت اتساعا في القبر وانفتاح باب منه نحو حديقة واسعة كبيرة , حينها قال لي أحد الكائنات النورانية وهو يجرني نحوه :
- لنخرج الى الحديقة التي فتح باب القبر اليها
تحرنا جميعا واتجهنا نحو الباب , فخرجنا منها وجلسنا وسط حديقة واسعة , كانت سعته بمد البصر , وجماله ملفت للنظر قد وزعت فيه الورود بشكل منسق ومنتظم كما ان الوانها تتغير بين الحين والآخر لتعطي جمالا باهرا ورائح خلابة
كانت الكائنات النورانية على شكل ست صور بينهن صورة أحسنهن وجها وأبهاهن هيأة واطيبهن ريحا , قد استقرت فوق رأسي , اما الآخريات فكانت واحدة عن يميني والثانية عن يساريوالثالثة بين يدي والرابعة من خلفي والخامسة عند رجلي فقال احسنهن صورة
- من انتم جزاكم الله خيرا ؟؟
قالت التي عن يميني : انا الصلاة .
قالت التي عن يساري : انا الزكاة.
قالت التي بين يدي : انا الصيام
وقالت التي خلفي : انا الحج والعمرة .
وقالت التي عند رجلي : أنا البروالاحسان .
ثم قالت الصور الخمس جميعا وبصوت واحد : ومن أنتِ , فأنتِ أحسننا وجهاً , وأطيبنا ريحاً , وأبهانا هيأةً ؟
قالت أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين .
كنتُ أشاهد واسمع مايجري من حديث هذه الكائنات النورانية فسألتهن مستغرباً:
- ألم تتعارفن من قبل هذا الوقت ؟
قالت الولاية : كلا لم تترك أحداث القبر مجالا لذلك .
حقاً كان اجتماع أُنس مع هذه الكائنات , لكنه انقضى سريعا لحلاوته إذ استأذنوا بمغادرة المكان بعد سويعات من جلوسنا ,فأجبتهم مستغرباً :
- أحقاً ماتقولون ؟ وهل سأبقى وحيدا قريبا هنا ؟
أجاب أحدهم :
ان لكل منا طاقة محدودة في الدفاع عنك ومرافقتك , وذلك يتبع مدى أدائك لنا في الدنيا واخلاصك لله حين االأداء, لذلك سوف يغادرك بعضنا ويبقى البعض الآخر , وبعد سويعات اخرى يغادرونك أيضا , وسيكون منوالنا هكذا خلال مسيرتك في عالم البرزخ , لكننا وف نلتقي بين مدة وأخرى , ولا بد من قطع أشواط وأشواط ومراحل قد تكون صعبة وموحشة في بعضها , وقد تكون ممزوجة بنعيم أعمالك حتى تستقر لك درجة ومرتبة تكوم عليها الى يوم الحشر والحساب الأكبر .
- وهل سيكون بإمكاني الرقي خلال مدة البرزخ ؟
- إن ذلك مرتبط بأعمالك أيضا .
- وكيف ؟
- قد يكون رقيك بسبب صدقة جارية لم تزل آثارها ومنفعتها مستمرة على أهل الدنيا , فكل يوم يمضي عليك ترقى درجة تتناسب معها ,
ومنها الولد الصالح الذي ترعرع في احضانك وقد بلغ رشده .
فخدم الإسلام وأهله , أو قد يكون رقيك بسبب دعاء خير يأتيك من أهل الدنيا , أو من الصلاة أو صيام أو عمل خير يُهدى ثوابه اليك .
ساد صمت قليل ثم عاد ليقول :
- والآن لابد من الفراق وسيبقى معك الصلاة والصيام الى وقت آخر .
ذهبوا وعيني تلا حقهم , ثم بعد سويعات غادرني الصلاة والصيام فبقيت وحيدًا فريداً . ساد ظلام الليل لكنني مازلت أرى , فهناك أنوار ثابتة وأخرى تشع بين الحين والآخر , وما زالت رائحة الورود العطرة تخالط النسيم النقي الذي كان يهب برفق وهدوء , لكني مع كل هذا لم أكن أحس بلذة ًولا بالرغبة فيه بسبب ألم العقرب الذي لم يزل عالقاً بقدمي , وبين ساعة وأخرى تتطاير شرارات عينيه المخيفة نحوي لذا تنحيت جانباً وجلست حزيناً مستوحشاً على سرير دلني عليه نزره المشع وبريقه الجذاب .
قلتُ مع نفسي أهذه الجنة التي طلما تأملتها وسعيتُ لها وكنت أحلم بنعيمها؟!
لكني لاأرى فيها الآن غير الغربة والوحشة , وفي هذه الأثناء سمعت نداء من شجرة قريبة فتوجهتُ نحوها , وأطرقت لكلامها فإذا بها تقول :
- ان كل ماتراه هنا هو تجسم لأعمالك في الدنيا , وأنت بحاجة الى نقاء أكثر حتى ترقى الى موضع أفضل مما أنت فيه .أجبتها متسائلاً:
- حتى أنت وهذا السرير الذي جلست عليه هو تجسم لأعمالي ؟
- نعم
- بالله عليكِ أخبريني اي عمل تجسم بصورتك هذه؟
- أما أنا فقد خلقتُ منذ وقت طويل على اثر ذكر وتسبيح وتهليل كان بتدبر وخلوص لله , وكذلك هذه الأشجار التي تراها والمتباينة في الشكل والجمال , انما هذا التباين يتبع التفاوت في درجة أذكارك .
- لم تخبرني عن السير الذي كنت جالساً عليه.
قالت
- اما السرير فهو تجسيم لإيوائك مسافرذات يوم أدخلته ساعة في بيتك فوقيته حر الظهيرة.
أصابتني الحسرة والندم على أوقات عمري التي انقضت , ولم املأها بذكر الله لكن الحسرة والندم لا يجدي وعلي التسليم والقبول
تمعنت جيدا في ثمر هذه الشجرة , فرأيته أشبه بالتفاح , لكنه بألوان متعددة فنويت الطلب من بعضها وكن قبل ان اتفوه بكلمة واحدة رأيت الثمر يتساقط امامي واحدة تلو الأخرى وبعدد ألوانها , فتحيرت بأيها أبدأ ,
تجولت في أنحاء الحديقة فرأيت الطيور المضيئة بألوانها الزاهية وتغاريدها المطربة تطير بين الأشجار ومن موضع الى آخر , ورأيت الأنهار تشق لحديقة بشكل هندسي رائع لتجري وتشكل شلالات جميلة امتزجت اصواتها فتكونت نغمة موسيقية عذبة . لم تكن الأنهار من نوع واحد, فكان الأول نهر ماء عذب , والآخر لبن ناصع البياض مصفى , والآخر تسمى مادته خمرا لكنه بأي طعم لذيذ ورائحة عطرة كان , انه لايشبه خمر الدنيا سوى أسمه وبعض من صفاته الحسنة التي قال عنها القرآن الكريم (فيها اثم كبير ومنافع للناس)
وقد أضيفت لها صفات ملكوتية جذابة
بينما كنتُ اتجول وأنظر يمينا ويساراً مبهوراً مما أراه , وإذا بشخص في غاية الجمال والبياض يتقدم نحوي ويسلم علي فأجبته :
- وعليك السلام
أحسست براحة كبيرة عند رؤيته , وبدأتُ الحديث معه وعرضتُ أسئلتي عليه فقلتُ له :
- هل يمكن أن تخبرني من أنت وماذا تفعل هنا ؟
قال :
- انا خلاصة أعمالك الحسنة , قد كنت معك في الدنيا , وسأكون معك على طول مسيرتك في عالم البرزخ .
- لكني لم اركَ قبل هذا الوقت !
- ان الإنسان في الدنيا لايرى سوى ظاهر عمله , غافل عن باطنه وحقيقته الملكوتية التي هي مرافقة له لحظة الأداء ولا تظهر له الا بعد كشف الغطاء عنه .
- وماذا بعد البرزخ؟
- وبعد البرزخ سيكون لي دور يتناسب مع عظمة الحساب والأهوال يوم ذاك
- اذن قد فزت ونجوتُ .
- كلا ان امامك الكثير من الأهوال والمصائب وأنواع العذاب سوف يُصَب عليك , وكله آثار أعمالك السيئة , وكل عذاب يُصيبك في البرزخ سوف يطهرك أكثر وأكثر حتى تنقى .
- وماذا سيكون دورك في كل ذلك , وأين رفقتك لي في تلك الأهوال والمصائب ؟
- ان لي حداً محدودا في مرافقتك والسعي لنجاتك اذ أن لديك ملكات فاسدة ومعاصي ارتكبتها ولم تتب منها ولابد لك من ان تذوق عذابها , وفي ذلك كله سأكون بعيدا عنك حتى تطهر منها
- وماذا عن العقرب الذي في قدمي وكيف الخلاص منه ؟
- ان هذا أمر متعلق بالشخص الذي يطلبك مالاً ولم تؤده اليه , وسوف لايزول عنك حتى تؤدي دينه أو يبرئك منه .
- وماذا بوسعك أن تساعدني في هذا الأمر؟
- سوف أبذل قصارى جهدي لمساعدتك ونجاتك منه ان شاء الله والآن لابد من مفارقتك على أمل اللقاء مرة أخرى .
.
.