16-01-2009, 11:36 PM | رقم المشاركة : 1 |
منتدى السهلة الأدبي
|
( المصير المحتوم ) طاهر علي الخلف
خــــاطـرة: المصير المحتوم ما أقسى أن يحمل المحبوب حبيبه إلى خط النهاية .. ويتركه هناك وحيدا بعيدا عن الإنس والمعاشرة .. بعيدا عن معاشرة الإخوان والأصدقاء .. في تلك الليلة التي كانت تطاردني الأحلام ويوْرقني الكرى ..حملني خيالي وشردت بي أفكاري .. إلى أن أتذكر الموت والبلى .. فرأيت أعز أصدقائي وإخواني وأهلي وأقربائي يحملونني على ذلك السرير الذي أتعبني من شدة صلابته وعنفه .. وحين انتبهت مرعوبا وإذا بي أرى عيناي قد عميتا .. آه لم تعميا ولكني محاط بجدران فلا أرى شيئا من شدة الظلام .. وأحسست بذلك اللباس الغريب على بدني .. فتسائلت ما هذا اللباس ؟ .. وماذا يجري لي ؟ .. وكيف يخرجوني من بيتي من غير أذني ؟ .. وإلى أين يذهبون ؟ .. وكأني أسمع عبارات وأصوات متداخلة .. كأني بأحدهم يقول (لا إله إلا الله ) وآخر يقول ( سبحان الله ) وثالث يقول ( هذا ما وعد الله ورسوله ) وأسمع أصواتا لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عني تصرخ وتصيح .. آه ما أقسى لحظات الفراق .. حينها أيقنت أنهم يريدون التخلص مني ودفني .. ولم يكن ظني ليخطئ فحين جلست رأيتهم يسيرون باتجاه تلك الجدران القديمة ( المقبرة ) .. آه ما أقسى هذه اللحظات .. وأنا أرى كل أحبائي هم الذين يحملوني ويسيرون بي في أعماق المقبرة .. وكأني أسمع بأحدهم يقول هيا بسرعة .. آه كم تعذبني أصواتهم وتزعجني .. فأخذت قواي كلها تناديهم فلا يجيبون وأتحسسهم فلا يشعرون وأصيح فلا يسمعون .. فأخذت ألطم على وجهي وأخمش خدي وعيناي تذرفان دموعا غزيرة .. وكأني استسلمت لما أنا فيه وأيقنت أن القبر هو نهاية هذه الزلزلة المريرة .. وفجأة وبينا أنا مشغول بنفسي وبين آلامي إذ سكن المسير.. وهدأت ثورة النائحين وخفت أصوات الذاكرين .. فانتبهت أستطلع النبأ وإذا بهم أنزلوني على الأرض وقد حط القوم رحلهم .. فما أدري كم من السعادة التي غمرتني والنشوة التي حملتني .. وقد طرت فرحا وتهلل وجهي طربا .. ولم يسعني ذلك المحمل ركابا حتى تنفس الصعداء .. لأني اعتقدت أنهم سمعوني فقرروا إرجاعي إلى بيتي وإلى حيث معاشرتهم .. ولكنها لحظة نادرة من لحظات اللذة .. لحظة لم يشبع الاطمئنان قلبي والشوق روحي .. لحظة لم يستقر نفسي في مكانه وقلبي في ضرباته .. إلا وقد رأيتهم يحملوني مرة أخرى وتعود أصواتهم ونوائحهم .. لتطمس على قلبي ظلمة الفراق ومرارة الدمع الرقراق .. آه ما أقسى لحظات الفراق .. وساروا بي مقتربين من تلك الحفرة المخيفة .. يقتربون شيئا فشيئا فأراها كثعبان ينتظر فريسة شهية .. فبدأت أصرخ .. وأصرخ .. وأصرخ بأعلى صوتي وأخذت أمسك بأيديهم وأعاتبهم .. ولكنهم لا يشعرون بحرارة دمي الملتهبة وآلامي المضطربة .. وبينا أنا كذلك وإذا أحس بسكون يعم القوم .. وحين انتبهت وإذا بهم قد أنزلوني على الأرض مرة ثانية .. فأحسست كمن سقط من شاهق لا يلوي على أحد وقد أيقن الهلاك .. وإذا به يفاجأ بأيد ناعمة تمسك به هي أيدي الحبيب .. ولكني كما ظننت سابقا لم تكن إلا لحظة واحدة .. وإذا بهم يحملوني ليقول أحدهم لقد وصلنا القبر ..آه ما أقسى لحظات الفراق .. لو يعلم هذا القائل بكم سهم رماني بين أحشائي ولم يقل هذه الكلمة لكان أهون علي منها .. وكأني أسمع آخر يقول هيا أنزلوه .. فصرخت في وجهه ولكن ما من مجيب .. فبكيت حينها بكاء يقطع القلوب .. بكاء المفقود الحزين .. بكاء لم أشعر بمرارته في حياتي أبدا .. فأخذت أنادي بصوت حزين .. "بائس مسكين مستجير لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا " .. فقلت بلسان انقطعت به حيلته وعظمت حسرته مناديا به القوم .. لماذا تستعجلون بي ؟ .. ولماذا تريدون الانصراف ولي البقاء ؟ .. ألستم الذين دعوتموني قبل ذلك أيام الدنيا .. وتقربتم مني في السر والعلانية .. دعوني أجلس بجانبكم أياما .. علني أرتوي منكم وأستعد للوحدة والوحشة .. أريد أن أسامركم في هذه الأيام القلائل .. ولكن رغم هذا كله فإذا السرير يسمع فهم يسمعون .. بل قد يكون هو أسمعهم جميعا .. آه ما أقسى لحظات الفراق .. فرفعت عقيرتي مناديا إلهي ارحم غربتي .. إلهي ارحم وحشتي .. تذكرت حينها أبيات الشعر لسيدي ومولاي زين العابدين (ع) .. فأخذت أغنيها ممتزجة بدموع كالسيل العارم ليس الغريب غريب الشام واليمن ***** إن الغريب غريب اللحد و الكــفن إن الغـريب له حــق لغربتـه ***** على المقيمين في الأوطان والسـكن وبعد أن أنزلوني من سريري .. رأيت بعض أخواني وأصدقائي يحملوني بأيديهم الحانية القاسية .. وآخرين يستلموني داخل القبر .. آه ما أقسى هذه الأيدي التي طالما آنست برحمتها وعطفها .. ما أجرأها من لحظات على أنيسها .. وليس يكفيهم ذلك فحسب .. بل أنزلوني في ذلك ( اللحد ) الضيق الموحش .. ووسدوني بعدها التراب معتقدين راحتي .. ولكنها وسادة عذابي ووحشتي .. وكأني أراهم بعدها يخرجون من القبر مخلفيني ورائهم .. حاولت الهروب ولكن لم أستطع من شدة الأغلال والأحمال .. فبدءوا يحثون علي التراب .. فتسائلت في نفسي لماذا يحثون علي التراب ؟ .. أليس يكفيهم أن يتركوني وشأني .. وكأن أحدهم يجيبني غطوا كل شئ ولا تبقوا مخرج هواء .. لماذا .. لماذا .. لماذا ؟؟؟ .. آه ما أقسى لحظات الفراق .. وبعدها أحسست بظلمة شديدة مرعبة .. كظلمات ثلاث في تراب سديم ولحد ضيق يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب .. فأيقنت أنهم قضوا وطرهم ومشوا .. وكأني أسمع أصوات أحذيتهم حتى اختفت عن مسامعي .. فتركوني وحدي بين الظلام والتراب .. تركوني مع نوائحي وصياحي .. أخذوا كل شئ مني فلم تبقى إلا جراحاتي وآلامي .. وودعوني في آخر نظرة بيني وبينهم .. طاهر علي الخلف
16 \ 4 \ 1418هـ
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
|
|