قراءة انطباعية في هوامش تدقيقية
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، بين يدي كتاب هوامش تدقيقية، ينفتح فكر كاتبه الشيخ عبد الجليل آل بن سعد، سعة واطلاعا، ويتدفق عطاؤه الثر والذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا لاحقها، لدرجة إني كمتابع لصفحات الكتاب وما إن تساورني الشكوك بنقص هنا أو هفوة هناك إلا وتراه يعاجلك باستباقة تنبؤية وكأنه على دراية بما يجول في ذهن الناقد البصير.
إطناباته العديدة وتنوع شجون الحديث في حوارياته تدل على موسوعة دينية وخزانة ثقافية تستحق الوقفة والإطراء، فهو في رده على الخمسة أحاديث للشيخ الراضي (سلام الله على الخمسة أصحاب الكساء)، قد رصف عقد كتابه في أربعة عشر حلقة (سلام الله على الأربعة عشر المعصومين)، فهو بالتالي حوار داخلي شيعي شيعي - كما عبر هو - فيه ما فيه من دلالة على النفس الطويل والهم المؤرق الذي يعيشه الكاتب بين أرفف الكتب وسوانح الأفكار.
قراءتي انطباعية لا تسلك منهجا علميا أصيلا، ولا تيارا نقديا معاصرا، وهي تؤطر مساحتها في حدود ما بين يديها من كتاب، والشيخ الجليل ليس معنيا بأن يجيب عليها، فهي ليست من طريق الشيخ الراضي كما اشترط الشيخ الجليل في نهاية كتابه على غرار المسابقات الإعلامية في ص (264).
دلالة الألفاظ والمصطلحات
أبرز ما يشد إلى عنوان الكتاب تذييله بالمقارنة العلمية بين منهجين: البحث العلمي الأصيل، وتيارات النقد المعاصر، لكن هذا الانشداد يظل مبهما حينما نمر لماما على حلقات الكتاب حول هذين المنهجين، فالقارئ العابر يحتاج إلى تعريف واضح وصريح حول ماهية البحث العلمي الأصيل وتطبيقاته، وكينونة التيار المعاصر وإسقاطاته، وذلك من خلال مصادر منهجية تؤصل لهما، وليس كما عمد الكاتب في مقدمته في التنظير غير المشفوع بما يؤكد ما ذهب إليه.
كنت أتمنى على الكاتب أن يذكر في مقدمته أو المدخل على أقل تقدير مبحث الألفاظ حول مصطلحي البحث العلمي الأصيل وتيارات النقد المعاصر، وأبرز ملامح المنهجين حتى تكون الصورة واضحة لدى القارئ ليرى و يقيس: هل طبق الباحث أدواته البحثية وأعملها بموضوعية يتحقق من النتيجة في نهاية المطاف.
وبحسب اطلاعي فإن الكاتب لم يشر إلى ملامح ذينك المنهجين بموضوعية، بل اكتفى في ثنايا حلقة وأخرى إلى إشارات سلبية المحتوى حول تيارات النقد المعاصر ومحاولاته زرع الشك في الموروث الروائي وعدم منهجيته في تناوله لتلك القضايا، وغالبا ما يعطف بحث حديث الكساء بين التواتر والوضع على تلك التيارات المعاصرة وكأنما هو مثال لها، بالشكل الذي يعطي انطباعا بأن تلك الهوامش التدقيقية هي مثال على البحث العلمي الأصيل، والتي جاءت في سياق النفس الملائي والذي لم يكن بالصورة الجلية الذي يستوعبه القارئ من حيث منهجيته وأدواته.
ونتيجة لعدم وضوح المصطلح وفي قبال منهجه الأصيل، فقد ساق الشيخ الجليل في مقدمته حديثاً عن التيار التجزيئي والاتجاه المولع بالآثار الموضوعة والتي لا تحتاج - حسب اعتداد هذا التيار - إلا الى مشكلة في السند واستبعادات محضة، ويتراءى من ذلك أن بحث حديث الكساء بين الوضع والتواتر ضمن هذا التيار، إلا أنه - كما ألمح - لم يظهر له أن الشيخ الراضي يدين بواحد من تلك التوجهات على وجه مانعة الجمع، وبعدها يستدرك على أن مؤاخذاته على الشيخ الراضي تأتي في سياق تيارات النقد المعاصرة بهمز هنا وغمر هناك كما في هامش 3 (ص14)، (ص46)، مما يشوش رؤية الكاتب.
وهذا المنهج الذي سار عليه في نقده لبحث الشيخ الراضي ظل غير مؤطر بملامح ومسمى يسير على هديه وإن تميز بالأسلوب النقضي، وما من شك في أن غياب المنهج قد يخضع البحث للعشوائية وتضحى المعرفة المنتجة عن ذلك غير علمية، "فكل بحث علمي لابد وأن يقوم على المنهج العلمي الذي هو عملية منظمة متدرجة المراحل، تفضي إلى الكشف عن حقائق مجهولة أو حلول مبتكرة لمواجهة مشكلات ماثلة أو متوقعة.
وبالتالي فإن عملية البحث العلمي ليست تجميعا للمعلومات من المصادر أو رصدا للملاحظات من التجارب المعملية، وإنما هي جملة عمليات ومراحل مشتملة على ترتيب وتصنيف وتحقيق وفحص ومقارنة واختبار وتحليل وتفسير بطرق منظمة تؤدي إلى الاستدلال على صحة المعلوم وتفسيره أو نفيه ومعارضته"/ (مقال: اعداد خطة البحث العلمي د. محمد شريف بشير).
الوحدة الموضوعية
المدقق في أروقة حلقات الكتاب يلمح شيئا يشي بعدم الوحدة الموضوعية في الطرح، وعدم التركيز في التناول بالهيئة التي تذهب شططا بذهنية القارئ، فهناك استطرادات كثيرة وصلت بالكتاب على ما يربو على المئتين وخمسين صفحة، وكان بإمكان الكاتب الاكتفاء بإيراد النقاط المهمة التي تتقاطع مع بحث الشيخ الراضي، والرد عليها بإيجاز غير مخل يضمن معها وصول المطلب بأيسر السبل وأقصرها بشكل لا يفقد متابعة ذهن القارئ، والمطلع على بحث الشيخ الراضي يجده من الناحية الشكلية قد التزم بأصول البحث المنظمة في حلقات سلسة موثقة بحيث لا يجهد القارئ في معرفة ما يراد بحثه وبشكل مباشر.
فالموضوع الرئيس في بحث الشيخ الراضي هو أن حديث الكساء متواتر، بينما حادثة الكساء المعروفة بين الناس موضوعة وأورد أدلته على ذلك، بالرغم من أن الشيخ الجليل لم يشر إلى ذلك بشكل واضح وصريح حيث لا يتجلى ذلك إلا بالرجوع أعلى بحوث الشيخ الراضي، فكان ينبغي ومن باب المقابلة، أن يثبت الشيخ الجليل إما تأييده لبحث الشيخ الراضي أو تفنيده والرد عليه بالأدلة والبراهين وهذه هي النتيجة المتوخاة، وأما ما يتناسل عن ذلك الموضوع الرئيس من تفريعات فتبقى في الصف الآخر من حيث الأولوية.
إضافة لهذا فإن قراءة النوايا والافتراضات التي تدخل في شخصية الكاتب - وإن أشار الشيخ الجليل إلى اجتنابها لما أشار في مقدمته إلى الحوار النموذجي والموضوعية -، إلا أنها في كثير من الأحيان تطفح ما بين السطور، وتتوزع في كثير من صفحات الكتاب، وتلك الأدعية ما بين الأقواس هداية وبصيرة وغيرها للكاتب والتي زادت عن الأربعين دعوة، والتي بدت وكأنها علامة مسجلة يعرف بها أسلوب الشيخ الجليل، مما ينأى بشكل أو بآخر بالكتاب عن الموضوعية والبحث العلمي، وهذا لا ينفي أن الكاتب كان يراكض الفكرة، إلا أن ذلك شِيبَ في أحيان كثيرة بالشخصنة، سيما تلك المقارنات الاستفزازية، فعلى سبيل المثال أورد الشيخ الجليل في الحلقة الثالثة أن قصد الشيخ الراضي في حديثه عن الوضع أشبه ما يكون فيه زعزعة إيمان النفوس، وتشكيكها في تراث أهل البيت (ع)، وهو يساويه بالقبانجي، وهذه المحاولات تأتي في انسياق غير إرادي لعزف السلفية من أيام النبهان ومن تبعه!!.
وأشار الشيخ الجليل في أكثر من موضع إلى أن الأدوات البحثية للشيخ الراضي في تناوله لبحث حديث الكساء غير علمية حسب ميزانه التقييمي، وهو - أي الشيخ الجليل - يقع أحيانا في قياسات ظنية للتدليل على بعض المطالب، فمثلا في الحلقة الأولى يرى الشيخ الجليل أن تعدد حدوث واقعة الكساء يدل على التقليل من قيمة دعوى التزوير التي يتبناها الشيخ الراضي، ويستدل على ذلك باستشهادات لا تفيد القطع واليقين، فاستدل بالطبري في قوله: (الظاهر) أن هذا الفعل كرر، وأشار الى وقوع الحادثة في المباهلة ولكنه لم يورد ما يثبت تغطي النبي (ص) بالكساء من شواهد وإنما أورد مصادر كثيرة، وذكر حديث الخيمة الذي أشار اليه السيد شرف الدين في النص والاجتهاد بقوله: (لعل) هذه الخيمة الكساء، وذلك للتدليل على تعدد مسميات الكساء، مثل هذه الاستشهادات التي لا تشير مباشرة وبشكل واضح وصريح الى ما ذهب اليه الشيخ الجليل قد يقلل من قيمتها في ميزان الأدوات العلمية بحيث تصبح استنتاجات أكثر منها تثبيت حقائق.
العنوان والمعنون
المطلع على كتاب الهوامش التدقيقية يلاحظ الكاتب لم يلتزم بمباحثة حديث الكساء بين التواتر والوضع، وإنما استخدمه مطية لبسط موضوعات عديدة تناولها الكاتب من خلال حلقات الكتاب، وإلا فالشيخ الجليل يرى منذ مدخل الكتاب: إن حديث الكساء من أبواب الروايات التي لا تحتاج إلى الأسانيد الصحيحة والثابتة بالقطع واليقين (16)، ولم يسع إلى تصحيحه (247)، مع العلم أنه لم يتبين له صحة الحديث في تقديره السندي (217).
ويستشف من بعض التلميحات داخل الكتاب أن الشيخ الجليل يلاحق المنهجية التي يستند عليها الشيخ الراضي في مباحثه، ومن يسلكون المنهج ذاته من تيارات النقد المعاصر، ولذا ترى الكتاب في حلقاته يستطرد وكأنه خطيب منبري، يبدأ بعرض فكرة وسرعان ما يتشعب الحديث إلى مواضيع ضمنية أخرى، وعلى سبيل المثال نرى في الحلقة الثانية كيف تداخلت مباحث زيارة عاشوراء والأفلاك بحديث الكساء (ص58)، وعرج على حديث الوحدة ورؤية الشيخ، وشيء حول المؤامرة الكبرى، وفي الحلقات الأخيرة دور الاعتدال الذي مارسته الحوزة، وغير ذلك مما وسع دائرة البحث من تمحورها حول حديث الكساء إلى مواضيع شتى ذات صلة، وعلى هذا الأساس كان على الشيخ الجليل أن يعدل على عنوان الكتاب لكي يسق مع مضمونه، فيجعل جملة المقارنة العلمية سابقة على بحث حديث الكساء، بحيث تكون المقارنة أولا بين منهجي البحث والتيار بشكل عام، وبعدها بحث الكساء مثالا.
وقد نلمس دلالة العنوان على المعنون بشكله الحالي إذا وصلنا لتحية المطاف (247)، والتي ركز فيها الشيخ الجليل ما يريد طرحه حول بحث الكساء وبشكل وحدوي موضوعي دون إسهاب.
تنقيح التراث
في معرض تأييد الشيخ الراضي من قبل الشيخ الجليل، والمشروط حول غربلة التراث الروائي عن أهل البيت (ع) ذكر الشيخ الجليل أن تلك الدعوى لا يمكن رفضها، ولكن ذلك مشروط لاحتياجه إلى عمليات مسح خطيرة ويجب أن تتولاها مؤسسة علمية لا رجل بمفرده.
ولاشك أن هذا هو المؤمل من الهيئات الدينية والمؤسسات التراثية، ولكن في ظل تراخي الجهود الجمعية عن هذا الأمر فإن المشروع الفردي مكون مهم في تأسيس قاعدة الاهتمام ولفت أنظار المعاهد العلمية لتتبنى الوضع التراثي، وأحسب أن جهد الشيخ الراضي يصب في هذا الاتجاه التنقيحي، لا ذاك الذي ينسف التراث نسفا فيذره قاعا صفصفا.
فالشيخ الجليل في هوامشه مارس هذا الدور التنقيحي وعلى سبيل المثال في (ص53) تناول حديث أبي عمرو الكشي الذي استشهد به الشيخ الراضي لبيان عدم التساهل في الأخذ بروايات أهل البيت (ع)، وأقام لذلك الحديث جلستي تحقيق سندا ومتنا، وانتهى إلى أنه من قبيل الروايات المرفوضة طريقا ومتنا، وكذا ناقشه في رواية الإمام الصادق (ع) والتي ذكر فيها شريكا.
إن مثل هذه المقابسات من طرف الشيخ الجليل تارة ومن طرف الشيخ الراضي تارة أخرى والتي هي حق مكفول للجميع وليس لطرف دون آخر، تدل على جو علمي صحي يثري الساحة، ويهيأ المقدمات لتوسيع رقعة الاهتمام لتصل إلى المؤسسات العلمية حتى تستكمل الجهود، مع العلم أن ما ذهب إليه الشيخ الراضي من وضع الحادثة غير مختص به ولم يكن السباق في ذلك الرأي كما تمت الإشارة في (ص 27)، فقد قال بهذا الرأي الريشهري، وهادي اليوسفي، وممن لم يذكروا في الكتاب: الشيخ مرتضى العسكري في محاضرة 2004م بطهران، والسيد فضل الله في بيناته.
إن فتح هذا الباب التنقيحي ومراجعة البيت الداخلي من قبل ذوي الاختصاص والتحقيق شجاعة فكرية تزيد من رسوخ قدم صدق هذا المذهب، ولا حاجة للخوف من نتيجة افتراضية مفادها - كما أشار الشيخ الجليل - في (ص 237 ) " سد باب واسع من رواية فضائلهم، ووضع قلم الشطب على كثير من الجهود التي استفرغ فيها العلماء والمحققون كامل وسعهم"، فمهما تكن النتائج فالحق أحق أن يتبع، ويبقى لكل وجهة نظره الخاصة وأدواته العلمية وأسلوبه البحثي الذي يتميز به عن غيره، ليصب ذلك كله في حوض الفكرة الأم.
جلسة شوال 1435هـ
أحمد مبارك الربيح