العودة   منتديات الطرف > الواحات الخاصـة > منتدى السهلة الأدبي




إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 31-03-2010, 08:25 PM   رقم المشاركة : 1
منتدى السهلة الأدبي
منتدى السهلة الأدبي






افتراضي الفهم ما له وما عليه ــ حسن بن مبارك الربيح

الفهم ما له وما عليه


حسن بن مبارك الربيح


وكمْ مِن عائِبٍ قولاً صحيحًا
................وآفتُهُ مِنَ الفَهمِ السَّقيمِ

المرء يتفاعل مع ما يقرؤه أو يسمعه سلباً أو إيجاباً بحسب فهمه له، ولكن قد يقع المرء فيما يسمَّى بسوء الفهم فيقوده حكمه إلى نتائج وخيمة، وقد يقع المرء في مستوى آخر من مستويات الفهم فيخرج بنتائج مختلفة، وقد تكون مغايرة لما هو سائد من الفهم.

موضوع الفهم من الموضوعات التي تحتاج إلى تجلية، فكل التباينات والاختلافات والنـزاعات والحروب في الآراء والأفكار مردها في الغالب إلى التفاوت في الفهم، ترى ما هو الفهم ؟ وكيف ينشأ ؟ وكيف يمكن تجاوز أسباب سوء الفهم ؟.

بمرور سريع على كتب اللُّغة سنخرج ببعض المعاني، فهذا ابن مَنظورٍ يحدد معناه في: العلم، والمعرفة، رابطاً ذلك مرة بالقلب ومرة بالعقل يقول:

( الفَهْمُ معرفتك الشَّيء بالقلب فَهِمَه فَهْماً وفَهَماً وفَهامة عَلِمَه... وفَهِمْت الشَّيء عَقَلتُه وعرَفْته ) (1) .
وحدَّد الجُرْجانيُّ الفهم بأبسط تعريف، وهو: ( تصوُّر المعنَى من لفظ المخاطب ) (2) والتصوُّر كما نعرف له ارتباط بالذِّهن.

أمَّا أبو هلال العسكريُّ فقد استرسل في بيان الفرق بين الفهم والعلم: ( الفهم هو العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصَّة، ولهذا يقال فلان سيِّء الفهم إذا كان بطيءَ العلم بمعنى ما يسمع، ولذلك كان الأعجميُّ لا يفهم كلام العربيِّ، ولا يجوز أن يوصف الله بالفهم، لأنَّه عالم بكلِّ شيءٍ على ما هو به فيما لم يزل، وقال بعضهم لا يستعمل الفهم إلاَّ في الكلام ألا ترى أنَّك تقول فهمتُ كلامه ولا تقول فهمت ذهابه ومجيئه كما تقول علمتُ ذلك... والفهم في الكلام وغيره من البيان كالإشارة ألا ترى أنَّك تقول... فهمتُ ما أشرتَ به إليَّ، وإنَّما استعمل الفهم في الإشارة، لأنَّ الإشارة تجري مجرى الكلام في الدِّلالة على المعنى ) (3) .

فالمفهوم إذن هو ما يستفاد من اللَّفظ باعتبار أنَّه فهم منه معنى ما، فالفهم بهذا المعنى يشترك مع معنَى ( المعرفة ) القائم على الإدراك والتَّصوُّر، إلا أنَّ الفهم أكثر خصوصيَّة ودقَّة منه في إدراك الشَّيء وتصوُّره، وكأنَّه مستوًى أعلَى في مستويات المعرفة، فهو لا يكتفي بمعرفة الشَّيء فقط، وإنمَّا هو أشبه بعمليَّة هضم الطَّعام لامتصاص ما هو مفيد ونافع، فالفهم من جانبه يهضم الجملة للوصول إلى المغزَى والغاية من التَّعبير.

نأتي إلى السؤال الثاني وهو: كيف ينشأ الفهم ؟.

للفهم طرفان ينشأ بينهما، الأول هو النص والثاني هو المتلقي، والخلل في الفهم قد يتسبب به أحد الطرفين، فقد ينشأ الفهم من خلال تصور معاني الكلمات في النص من قبل المتلقي، واللغة بطبيعتها لا تقف عند معنى واحد للمفردة، لذا على المتلقي أن لا يقف على المعنى الأولي، عليه أن يدرك سياق الجملة أولاً؛ كي يحدد المعنى المراد فلا يقع في سوء فهمه، وقد يكون الخلل في النص نفسه بأن تأتي عباراته غامضة، أو مخالفة للوضع اللغوي فتربك المتلقي في تحديد المعنى.

أمَّا في النص الديني ونقصد به القرآن الكريم والروايات الصحيحة، فالخلل في الفهم إذا وقع لا يكون إلا في المتلقي لقصوره في إدراك المعنى؛ لأنَّ النص الديني غايته الإرشاد والتوجيه للمجتمع.

والاختلافات كثيرة حول النص الديني، حيث تشكلت من خلالها المذاهب والمعتقدات على مر العصور، فمنذ عصر الصحابة وأَغلبنا مرَّ على قصة: ( لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فصلَّى بعضهم حين دخول الوقت قبل الوصول إلى المكان، لأنهم فهموا من كلام الرسول (ص) التعجيل في المسير ( قراءة ما وراء السطور )، وصلَّى الآخرون عند وصولهم في المكان متأخرين عن الوقت؛ لأن فهمهم تحدد في العبارة نفسها، وأقرَّ النبيُّ (ص) الفهمين؛ لأن في مثل هذا الاختلاف توسعاً وتخفيفاً، وكانت الغاية تطبيق كلام النبي.

أمَّا عن قصة بعض الصحابة الذين شربوا الخمرة متأوِّلين قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، وكان ذلك في عصر عمر رضي الله عنه (4) ، ثم دعاهم وقرّرهم بالحكم. ففي هذه القصة نلاحظ كيف أوقعهم فهمهم في نتائج وخيمة ؟، ولكن ما الذي دفعهم إلى هذا الفهم الذي جعلهم يحلِّلون ما انتهى القرآن إلى تحريمه ؟، أنقول سوء فهم ؟ أم أنه الهوى ؟ أم أنه تبرير لفعلهم الذي يأخذهم عليه المجتمع ؟.

ومن الطريف ما حصل لأبي موسى العنـزي (5) عندما قال: صلى إلينا النبي (ص) وهو من قبيلة عنـزة، وذكر الحديث عن النبي (ص) أنه صلى إلى عنزة ظناً منه أن الراوي يريد قبيلة عنزة، بينما العنـزة العصا.

أيكون ذلك سوء فهم ؟ أم أنه قالها مزاحا ؟ أم أنه يحب أن يفهمها هكذا ؟. وظاهرة تعمُّد الفهم هي التي عمقت الخلافات بين المذاهب وشجعت التعصب الطائفي.

بالتحول إلى النص الأدبي نتلمس من خلاله أسباب التفاوت في الفهم، ولنقف عند نموذجين، الأول حينما أتى الزبرقان بن بدر بالحطيئة إلى عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لمَّا هجاه بالبيت المشهور:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
...................واقعد فإنَّك أَنتَ الطَّاعمُ الكاسي

فقال له عمر: ( ما أعلمه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا ؟ قال: إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه !، فحبسه عمر، وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين ) (6) ، إلى آخر القصَّة.

من خلال هذه القصَّة يتَّضح الاختلاف في فهم بيت الحطيئة، فعمر تصوَّر أنَّه مدح، بينما الزِّبرقان فهم أنَّه هجاء، وحسَّان زاد عليه أنَّه هجاء مُذلٌّ، ترَى ما سبب هذا التَّفاوت في الفهم ؟.

قد يكون السبب الأهمُّ في تصوُّر معنى المفردة، فعمر تصوَّر أنَّ ( الطَّاعم والكاسي ) تعني الَّذي يطعم ويكسو ( اسم فاعل )، وعلى ذلك يكون المعنى أنَّه كريم.

قد يقول قائل: بأنَّ عمر أراد أن يمتصَّ انفعال الزِّبرقان ويهوِّن عليه، فتعمَّد أن يؤوِّل له هذا المعنى الإيجابيَّ، فهو بسجيته العربية لا يمكن أن يفوته المعنى الذي أراده الشاعر، وهو ما تصوَّره الزِّبرقان وحسَّان في أنَّ ( الطَّاعم والكاسي ) بصيغة اسم المفعول، وعلى ذلك يكون المعنَى أنَّه عالةٌ على النَّاس ليس له فضل عليهم مهما سعى في طلب المكارم، فهو مطعوم ومكسوٌّ.

والنموذج الثاني نستجليه من ردود طويلة انتقد فيها الكاتب محمَّد العلي كتاب ( الحداثة في ميزان الإسلام ) لمؤلفه عوض القرني، وقد نشرت هذه الردود على أربع حلقات في جريدة الوطن الكويتيَّة، وكان ممَّا أخذه العلي على المؤلف الفهم القاصر الَّذي أوقعه في كثير من الأحكام الجائرة، يقول العلي ناقلاً كلام القرني:

( ويقول ص37: في عكاظ كتبت هدى الدَّغفق تحت عنوان اشتعالات فرح مثقل انظر لتناقض فرح له اشتعالات، وأيضًا مثقل. قالت هدى هذه من ضمن قصيدة حداثية طويلة، لا أريد أن أثقل عليكم بها كلها. ولكن أسمعكم منها قولها:

لأنِّي نفيتُ من الحلم بالأمسِ
سامرتُ قيظًا
وجعًا منح الوقت وقتًا
واحترى أن يمرَّ به الوسم
لأنَّيَ عاصرت حالة دفني
تجذَّرت بالرمل
مارست توق الخروج عن الخارطة
ولأنَّ الخريف طوَى قامتي
ولأنَّ ...

أهذا كلام العقلاء ؟ فضلاً عن أن يكون كلام الأدباء، أو كما يسمونهم المبدعين المتميزين.
بعد تعليق السادة القرني هذا على قصيدة هدى الدَّغفق، أو على ما بتره من القصيدة بترا يمكن لأي قارئ أن يتساءل:

1. هو لم يفهمها، فلماذا هاجمها إذن ؟
2. القصيدة وحدة متكاملة فمن أجاز له نقديًّا أن يقطعها إربًا إربًا ؟
3. ماذا في القصيدة ــ شكلاً ومضموناً ــ من أشياء تنافي الإسلام ؟
إنَّ القصيدة تعبر عن تجربة عميقة وبأسلوب فني، أنا شخصيًّا أعذر السَّادة القرني حيث لم يصل إلى قاعه ) (7) .

العلي يشير إلى آفةٍ من آفات الفهم، إنَّه الانطلاق في الحكم دون استيعاب ووعي تامٍّ للمعنَى، فيكون الخطأ في الفهم وليس في الجملة الشِّعريَّة.

الشِّعر يرتكز على الإيحاء في إيصال المعنى، ويستند إلى المجاز في معظم تراكيبه، ويكتفي بالتَّلميح للأشياء عن التَّصريح بها، لذا فعلى المتلقي إذا أراد أن يفهم أن يضع في ذهنه هذه الأمور، وإلاّ سيقول كما قال ذاك الرجل لأبي تمَّام: لماذا لا تقول ما يفهم ؟، فردَّ عليه سريعاً: ولماذا لا تفهم ما يقال ؟.
وهذه الأزمة في الفهم بين الشاعر والمتلقي مستمرة إلى يومنا هذا، مادام المتلقي في منأى عن متابعة تطورات الشِّعر وفتوحاته في اللغة والصورة والرؤية، وعلى ذلك طرح "العلي" سؤالاً في نهاية مقاله السَّابق يقول:

( لماذا وقع السَّادة القرني في هذا الانزلاق في الفهم ؟!. وقع؛ لأنَّه لم يأخذ النص كوحدة متكاملة؛ ولأنَّه لم يستطع أن يلاحق الكلمات خارج معناها القاموسي وكأنَّ المجاز كله لا يوجد في اللغة العربية ) (8) .

الموضوع بحاجة إلى تجلية أخرى لتشعباته الكثيرة، وإن كنت قد أجبت ضمناً على الأسئلة التي طرحتها في بداية الورقة ..

أترك ذلك للوقت ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ


الهوامش:

(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 12، ص 459.
(2) الجرجاني، التعريفات، ص 54.
(3) أبو هلال العسكري، الفروق اللُّغويَّة، ص 69.
(4) يراجع في ذلك الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية (93) من سورة المائدة.
(5) يراجع سؤالات الدار قطني ص 27.
(6) ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 65.
(7) الوطن الكويتية، الثلاثاء 14 مارس 1989م ــ العدد: 5053، عنوان المقال: قراءة ساخنة في كتاب بارد 2، عرض ونقد محمد عبد الله العلي.
(8) المصدر السابق.

 

 

منتدى السهلة الأدبي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 06:00 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

ما ينشر في منتديات الطرف لا يمثل الرأي الرسمي للمنتدى ومالكها المادي
بل هي آراء للأعضاء ويتحملون آرائهم وتقع عليهم وحدهم مسؤولية الدفاع عن أفكارهم وكلماتهم
رحم الله من قرأ الفاتحة إلى روح أبي جواد