الحداثة وخطاب التأثيم
قراءة في محاضرتيْ "أصالة الفكر وترهلات الحداثة" للشيخ حيدر السندي
الكاتب: جابر عبدالله الخلف
إضاءة:
* "الحداثةُ اليومَ ديدنُ الحياةِ في كلِّ مجال؛ الحداثة الفكريةُ ضروريّةٌ لإنتاج المعرفة، ضرورةٌ للتجديد والاجتهاد في كل ميدان؛ في ميدان الدين كما في ميادين العلم والفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد. أما ممارسة الحقوق، وفي مقدمتها "حقوق الإنسان" فتتوقف على مدى ما يتوافر لدينا من مقومات الحداثة السياسية؛ من مؤسساتٍ دستورية حديثة تمثيلية حقا، وحرياتٍ فردية وجماعية مضمونةٍ فعلا. أما تراثنا فهو وإن كان يزخرُ بأنواع من "الحداثة" شهدتها فترات ماضيا فهو لا يكفينا في تحقيق الحداثة المطلوبة في عصرنا. حداثاتُ ماضينا مفيدةٌ لنا على صعيد ربط الحاضر بالماضي، ولكنها لا يمكنُ أن تنوبَ عن الحداثة التي تطبعُ عصرنا، والتي تفرضُ علينا، وعلى غيرنا كطريق وحيد لوصل الحاضر بالمستقبل الذي ننشده، والذي نكونُ فيه من جملة صانعيه ومخترقيه"(1).
* "الحداثةُ في حاجةٍ إلى النقد كضرورة حيوية لا غنى عنها، وسواء كان هذا النقد داخليا أو خارجيا، ميتافيزيقيا أو أخلاقيا. فإنه لن يكونَ أمرا غريبا، فالنقدُ هو طقسُ حياة الحداثة، وطقسُ تعبدها وتقواها، وشكلُ التفكير الأكبر تلاؤما معها، وكأنّ الحداثةَ وهي تستحثُّ النقدَ إنّما تعبّرُ عن إصرارٍ وعن ثقةٍ كبيرةٍ في (ذاتها)" (2).
مقدمة:
يدور الكلام في العبارتين أعلاه حول فكرتين أساسيتين ذواتيْ أفنان، تدور الأولى حول ضرورة الحداثة، وأنها حتمية؛ لكونها ديدن الحياة، وتدور الأخرى حول ضرورة نقد الحداثة. وما بين ضرورة الحداثة وضرورة نقدها تُطرح تساؤلات! وأول ما قد يُطرح من أسئلة: ما الحداثة؟ (3)
وهذا السؤال على أهميته وضرورته أصعب ما يواجه من يريد الإجابة عنه؛ لأنّ التَّعريفَ "الجامع المانع" صيغةٌ حدّيّة ثابتة، بينما المفاهيم في حالة نمو مستمر بسبب تطور حاجات الإنسان ونموها(4).
ولهذا أكّد المناطقة حسب - د. الطيب بوعزّة – "أنّ الحدود الماهوية لا بد أن تأتيَ فيها بجنسٍ وفَصْلٍ؛ فتحدد المفهوم بما هو من ذاتيته وجوهره، وتفصله في التحديد عن غيره من المشتركات والمتعالقات به".
وكون هذا الفصل بين مفهوم الحداثة، وما يتعالق به من مشتركات وممارسات لم يحصل في حديث الشيخ حيدر السندي عنها، فإنّ ظلالا من الإبهام أحاطت به، فجاءت هذه المداخلة في سبيل تحرّي الحوار الثقافي حول الحداثة وما يحيط بها من تصورات أرى أنها بحاجة إلى المناقشة(5).
شكر وتقدير:
أجدد الشكر والتقدير لفضيلة الشيخ حيدر السندي على مشاركته، وطرح موضوع الحداثة، وهو بذلك يُسهم في نشر الثقافة المنبرية الفاعلة، ويشارك في الحراك الثقافي والاجتماعي المتجدد والدائم. ويسعدني أن أذكر – بداية – ما يمتاز به الشيخ السندي من صفات خطابية تذكر وتشكر له:
1- وضوح اللغة وأسلوب الحديث، وإلمامه بأصول الخطابة من حيث القدرة البيانية.
2- إجادة السيطرة على الموضوع وعلى نقاطه فنيا، كما يمتاز بحسن التقسيم لموضوعه.
3ـ عصرية الموضوعات وتنوعها، وهذا يعبر عن قدر لا بأس به من الاطلاع والمتابعة لما يدور في الساحة.
تدور إشكالية هذه الورقة أو المداخلة حول محاولة الإجابة عن سؤال لحوح ودؤوب في ساحتنا المحلية طُرح وما زال يطُرحُ منذ عقود، وقد جدّد طرحه الشيخ حيدر السندي، ألا وهو سؤال الحداثة. وهذه إشكالية تدور رحاها منذ الثمانينات في الفضاء الفكري والأدبي بالسعودية عموما! وفي الفضاء الاجتماعي المحلي - في الفترة الأخيرة – خصوصا. والمتابعون يعرفون ذلك ويدركونه. وقد يُطرحُ السؤال التالي: لماذا الحداثة؟ ولماذا ليس موضوعا آخر غيرها؟
ربما تتعدد الاحتمالات، ولكنني أجيب ببساطة جدا؛ لأنها مفهوم ضروريّ وحتمي، قديم ومعاصر، وفي الوقت نفسه ملتبسٌ وإشكالي، هذا أولا. وثانيا لكونه مفهوما تدور حوله الكثير من المفاهيم المرتبطة به، والمنطلقة عنه. وثالثا لأن مصدر الالتباس راجع إلى طبيعته العصية على التحديد والترويض؛ لاختلاف منطلقاته، وهذه هي طبيعة المفاهيم الإشكالية التي هي بحاجة إلى تجلية خلفياتها التاريخية، وأسسها النظرية. وراجع أيضا – وهذا هو الأهم – إلى تهمة التأثيم والالتباس التي تلحقُ به في ثقافتنا كبقية المفاهيم التي تدور في فلكها منذ أن انتقلت الحداثة من السياق المعرفي إلى السياق الإيديولوجي فكريا وأدبيا(6).
لستُ مهتما – هنا - بالدفاع عن الحداثة والحداثيين، ولكنّ مداخلتي تجري في نهر المجادلة الثقافية بالحسنى بين الخطابات، ومنها نقدُ ما وجدتُه تصوراتٍ مغلوطةً، وقراءةً اختزالية حولها وحولهم. وأبدأ حديثي بذكر بعض الملاحظات المنهجية:
ملاحظات منهجية عامة:
1- عدم توثيق المحاضرتين بالنقول والاقتباسات، وإنما هي مستخلصات عامة معوّمة في مبنى كلام الشيخ ومعناه. فما لمسته هو أن الشيخ المحاضر يكتفي بنقل مفهومه لتلك النقول والاقتباسات، ولا يهتم بنقلها كما وردت. وتكمن أهمية التوثيق للتمييز بين وجهات النظر والآراء للناقل والمنقول عنه، وللتمييز أيضا بين الأفكار الأساسية من الأفكار الثانوية في المقروء.
2- تنهض لغة الخطاب على وصف حالة تيارية لمدّعي الحداثة، قوامها التحذير، وهدفها التحصين والحمل على الإقناع، لا الاقتناع.
3- كثرة الأفكار وتشظيها وتعدد المصطلحات وتداخلها، وتواتر المفاهيم وتكاثرها، وجلّها يحتاج إلى تعريف وتدقيق، وجاء ربطها مع بعضها البعض بطريقة وأخرى.
4- لجوء فضيلة الشيخ إلى حَمْل المستمع حَمْلاً لاتخاذ موقف من مدّعي الحداثة، وبالمثل من الحداثة دون محاولة الفصل بين المفهوم، وما يتعلق به من مشتركات أو ممارسات، وقد "ميّز علماء الخَطَابة والحِجاج بين الحمل على (الإقناع) و(الاقتناع)؛ إذ يقوم الأول على ليّ الرقاب حتى تذعنَ وتطيع، أما الثاني فمن سماته أن يكون عقليا.. تنبسطُ فيه النفسُ، وتُسلِّمُ تسليما عقليا لا عاطفيا"(7).
سأحاول أن تكون مداخلتي في محورين:
المحور الأول ومداره النظر في الجهاز النظري الذي افتتح به الشيخ مجلسه متحدثا عن تحديد مفهوم الحداثة، ولا أدري لماذا لم يحرص فضيلة الشيخ السندي أن يشارك في جلاء الالتباس حول المفهوم نظريا، وكذلك لم يحرص على استجلاء مضمونه الإيجابي فكريا كما أشار إليه في مفتتح حديثه في الليلة الأولى.
أما المحور الثاني: ومداره التأمل في بعض الأمثلة التي أوردها مما أخذه على مدّعي الحداثة من نقود ومآخذ وإشكالات... وأحاول أن تكون مداخلتي مختصرة قدر الإمكان.
المحور الأول:
أ- نظر في العنوان:
يتكون عنوان الموضوع من أربع مفردات "أصالة الفكر وترهُّلات الحداثة". لا أدري عن أي أصالة وفكر سيتحدث فضيلة الشيخ، وقد مازج بينهما بالتركيب الإضافي؟ وعَنْ أيِّ حداثة سيدور الكلام. فبالإضافة إلى وقوع الشيخ في مغبة الانحياز ضد مفهوم مقابل مفهوم آخر في عنوانه. وقع العنوان – تاليا - في مقابلات لفظية لا علاقة مفهومية بينها؛ فما العلاقة بين الأصالة والترهل، بما تحيل عليه مفردة الترهلات – لغويا - من التورّم والانتفاخ والارتخاء والتّكوّم، وهذه كلها معانٍ لغوية تعبر عن موقف تبخيسي مسبق؟ وكيف قابل بين الفكر والحداثة في علاقة تبدو تضادية دون تقديم مبررات فكرية ولغوية لهذا التقابل وذاك التضاد؟ ودون توضيح مفهومي لمصطلح الحداثة الذي يريد أن يتحدث عنه؛ لأنّ تحديد المفهوم وضبطه وتعريفه وتوضيحه خطوةٌ في الطريق الصحيح نحو تمييز جوهره عن متعلقاته.
فما يشي به العنوان بهذا التركيب هو أن ثمّة موقفا مسبّقا ومنحازا ضده. وهذا يتنافى مع أصالة الفكر التي يبحث عنها فضيلة الشيخ.
ب- مفتتح الليلة الأولى:
افتتح فضيلة الشيخ مجلسه بقوله:"يوجدُ في الوسط الثقافيّ في مجتمعنا وغيره من المجتمعات تيارٌ جديدٌ يدّعي الحداثةَ، ويدّعي أنه يريدُ أنْ يُطوّرَ المجتمع، ويصعدَ به في جوانبه المختلفة، ومنها الجانبُ الفكريِّ(8).
ويضيف فضيلة الشيخ بأنّ "هذا التّيارُ نشِط، يقدّمُ في بعضِ الأحيان نظرياتٍ، وفي كثيرٍ من الأحيان يطرحُ أسئلًة، ويُبدي تأملاتٍ، وقد تأثّر به بعضُ الشّباب؛ ولأنه في بعضِ أطروحاته يتقاطعُ مع ثوابتِ الّدين؛ رأيتُ من المناسبِ أن نتحدثَ في هذه الليلة حولَ أهمِّ سماتِ وملامحَ هذا التّوجه، وهذا التيارِ.. رأيتُ من المناسب أن نبسطَ الكلامَ في سماتِ هذا التيار".
هذه العبارة الافتتاحية تُعبّر عن توصيفٍ لحالةٍ تياريّة (تبدو لي متوهّمة) يمرُّ بها الوسطُ الثقافّي والاجتماعيّ. هذه الحالة يقودها تيارٌ من مدّعي الحداثة، وهدفهم كما يزعمون تطوير المجتمع والصعود به فكريا. ويظهر من متابعات الشيخ أن هذا التيارَ نشِطٌ وفاعل ويخطط ولا ينام ليله ونهاره، فهو يقدّم نظريات، ويطرح أسئلة، ويبدي تأملات، وأن شريحة من الشباب قد تأثرت بهذه الأطروحات والمخططات التي تتقاطع مع ثوابت الدين - حسب توصيف الشيخ - مما أثار قلقَه ومسؤولياتِه، وبالتعبير الفقهيّ "تكليفَه الشّرعيَّ" للوقوف على أهم سمات هذا التيار وملامحه، فاختار أن يبسطَ الكلام حولها على مدى ليلتين.
يجب التأكيد - أولا - أنّ هذا الدور الاجتماعي الذي يقوم به فضيلة الشيخ، بأخذه زمام المبادرة لمناقشة الإشكاليات الفكرية في الوسط الثقافي دورٌ مشروعٌ، ومسؤولية أخلاقية، يقدّر ويشكر. وهذا بلا شك من أهم الأدوار التي ينهضُ بها المنبر المعاصر. والتأكيد – ثانيا – على أنّ نقد الخطاب الحداثي ضرورة طالما أصبح خطابا فاعلا ومؤثرا في الفضاء الاجتماعي والثقافي، فهو ليس فوق النقد ولا تحته. ونقد الخطاب الثقافي عامّة، والحداثي خاصّة حقٌّ تكفله أدبيات الحداثة نفسها؛ لأنّ الحراك النقديّ المعرفي أحد أهم سمات الحداثة وأسسها الفلسفية(9).
وليسمح لي فضيلة الشيخ أن أطرح عليه باقة من الأسئلة:
أليس من حقّ أي تيار أن يمارسَ ما يظنُّ أنه حقه في تقديم النظريات وطرح الأسئلة وإبداء التأملات؟
كيف قرّر فضيلة الشيخ أن هذه النظريات وتلك الأسئلة وهاتيك التأملات جميعها تتقاطع مع ثوابت الدين؟ وما محددات ثوابت الدين؟
هل طرح السؤال حول أي قضية تاريخية أو عقائدية أو فقهية هو بالضرورة تقاطع مع ثوابت الدين؟
وإذا سلمنا جدلا أن بعض نظريات مدّعي الحداثة وأسئلتهم وتأملاتهم تتقاطع مع ثوابت الدين. كيف ينظر فضيلة الشيخ إلى ما تموجُ به الساحة المحلية من خطاب خرافي يجترُّ الموروث دون تحقيق، بل يبتكر موروثات تلو أخرى لا حصر لها، ولا هيمنة على توالدها وتواترها؟ ألا يتقاطع ذلك أيضا مع ثوابت الدين؟ أليس هذا الخطاب الخرافي ترهلاتٍ، ألا يستحقّ أن يُبسط الكلام حوله نقدا؛ لوقف النزيف في الطاقة الحيوية المهدورة للشباب؛ لكي لا يتأثرَ بعضُ الشباب به أيضا؛ فيغدو شبابا مفرّغا من طاقاته الفكرية التي يزعمُ مدّعو تيار الحداثة أنها ضمنَ اهتماماتهم وأولوياتهم، كما قد يغدو مفرّغا من طاقاته الروحية التي يزعم [خصومهم إن صح التعبير] أنها ضمن اهتماماتهم وأولوياتهم؟
المحور الثاني:
نظر في سمات الخطاب الحداثي من منظور الشيخ حيدر السندي
ذكر فضيلة الشيخ في الليلة الأولى سمتين اثنتين من سمات تيار مدّعي الحداثة:
السمة الأولى: هي تفريغ الحداثة من مضمونها الإيجابي".
يقول:"من المفاهيم الحديثة التي ينطبق فيها العنوان على المعنون مفهوم الحداثة. هذا المفهوم صار له انتشار واسع ورواج في كلمات المفكرين والباحثين والمثقفين، وقدّمت له مجموعة من التوضيحات والتعريفات؛ ولاختلاف هذه التعريفات واضطرابها ذكر الدكتور محمد سبيلا في كتاب مدارات الحداثة أن هذا المفهوم مفهوم ملتبس جدا، ومن الصعب أن يطوق ضمن تعريف محدد يكون جامعا لجميع الأنظار التي قدمت في تعريفه. في هذه الليلة نذكر أمرين يرتبطان بتحديد هذا المفهوم (مفهوم الحداثة)، وإن شاء الله يكون البيان بيانا واضحا لا يكون فيه غموض"(10).
فذكر فضيلة الشيخ:
الأمر الأول: وهو التعريف بمفهوم الحداثة، وقسّم مَن عرّفوا بها إلى ثلاثة أقسام:
أولا: هم الذين عرفوا الحداثة بأنها مفهوم ذاتي قصدي. [تطوير المجتمع وتغييره والرغبة في النهوض به].
ثانيا: هم الذين عرفوا الحداثة بأنها مفهوم أدائي ووظيفي. [ممارسة التغيير فعلا].
ثالثا: هم الذين عرّفوا الحداثة بأنها مفهوم انطباقي غائي. [تحقق التطوير والتغيير في المجتمع، والمواكبة لآخر التطورات. الحداثة مرادفة للعصرنة].
وانطلق من هذه الأقسام إلى تقسيم الحداثة إلى عدة أقسام، فهناك (حداثة فكرية)، وقوامها نظرة الإنسان للوجود فلسفيا، وهناك (حداثة علمية)، وقوامها نظرة الإنسان إلى الكون علميا، وهناك (حداثة اجتماعية)، وقوامها علاقات المجتمع أفرادا وجماعات اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وهناك (حداثة وسائل الإنتاج) تقنيا.
هذا الكلام [المختصر جدا] على أهميته لم يكن كافيا للتعريف بالحداثة؛ بوصفها مفهومًا ملتبسا – كما أشار فضيلة الشيخ – فكان من الضروري أن يحرر مفهوم الحداثة؛ ولو بذكر معالمها وعلاماتها وسماتها وغاياتها وتياراتها - ولو إيجازا - كما بدا له المفهوم من خلال قراءاته، وكما تمثّله، ولا يقف عند التباس المفهوم، خصوصا أن جمهور المستمعين ليسوا على إلمام بهذا (المفهوم الملتبس)، فمقتضى الحال – كما في البلاغة - أن يكشف الالتباس، [فالبيان لا يؤخر عن الحاجة]، وبعد أن يحرر المصطلح، ويكشف اللبس، يأتي دور النقض، ونقد دعاته ومدّعيه.
وقد أشار - فضيلة الشيخ – إلى أن هناك (مضمونا إيجابيا للحداثة) في حديثه، ولكن لا أدري لماذا تجنّب – قاصدا أو غير قاصد – الحديث عن ذلك المضمون الإيجابيّ لجمهور المستمعين!؟ ولا أعلم لماذا يُفرّغُ مدعو الحداثةِ (الحداثةَ من مضمونها الإيجابي)، وهم أحوجُ ما يكونوا إليه؛ لتثبيت دعواهم؟
بعد ذلك أوضح فضيلة الشيخ:
الأمر الثاني: وهو أنّ دعاة الحداثة دائما ما يتحدثون عن الحداثة بوصفها مفهوما تغييريا، "فيتحدثون عن التغيير والتبديل والتحديث، وهذا سبّب وجود لبس عند جماعة من الذين يدّعون أنهم من دعاة الحداثة".
ويكمن ذلك اللبس في تصورهم أنّ"مفهوم الحداثة يوازي مفهوم التغيير". ويعلق بأن "هذا التصور غير صحيح، فهناك فرق بين الحداثة والتغيير. الحداثة قسم من أقسام التغيير".
ما يظهر – لغويًّا على الأقل - أنّ التغيير من متعلقات الحداثة، وهو سمة من سماتها، ولكون الحداثة حركة اجتماعية وفكرية وظاهرة إنسانية فهي تنهض على عدة مفاهيم متوازية معها ومتداخلة بها كالتغيير والتطور والتقدم والنهضة والتحديث، ولا مشاحة في الاصطلاح [كما يقولون]، فلتكن الحداثة قسمًا من أقسام التغيير، أو التغيير معنى من معانيها. لا أجد ثمة مشكلة في ذلك أو لبسًا خطيرا عند (جماعة) من مدّعي الحداثة ودعاتها. فهذه هي طبيعة المفاهيم ذات الأبعاد المتعددة تكون في حالة اشتباك مع مفاهيم مجاورة لها ومتعالقة معها. فليس مدعو الحداثة ودعاتها من ابتكر هذه المفاهيم، أو اختلقها، وإنما هي إشكالية قديمة قدمَ وجود التداخل والترادف بين المفاهيم، فلا أجد أنّ في التوازي المفهومي بين الحداثة والتغيير مشكلة طالما تحققت الغاية الكبرى من الحداثة أو التغيير، وهو نهوض المجتمع وتقدمه.
يقول الشيخ متحدثًا عن ما أسماه بالحداثة العقلائية، وهي التي يقرّها العقلاء، وهي الحداثة التي تُحافظ على المكتسباتِ التراكمية الموروثة من تجارب السابقين، وتحاولُ أن تعرفَ سلبياتِ المجتمع، وتضيفَ إلى المكتسبات مكتسبات جديدة.
يضع الشيخ ثلاث سمات للحداثة العقلائية، وهي:
1ـ يُقرّها العقلاء.
2- تحافظ على المكتسبات والتجارب، وتضيف إليها.
3- التعرّف على سلبيات المجتمع.
مع إنني لا أعرف أن هناك حداثة عقلائية وحداثة مجنونية، ولكنني أتفق مع هذه السمات الثلاث، ويوافق عليها – فيما أحسب - تيار مدّعي الحداثة، فإنّ أيّ حراك ثقافي – حداثيا كان أو غير حداثي – من المؤكد أنّ مجال اشتغاله تراكم الخبرات والتجارب، والإضافة لها، والنقد للسلبيات، وليس التعرف عليها فقط. ولكنْ لا بد من تجلية المقصود بمفهوم العقلاء والتجارب والمكتسبات؛ لكي لا نقع في شَرَك الإبهام، فيصبح العقلاء أناسًا دون غيرهم، ويُضحي الموروثُ – أي موروث – هي المكتسبات دون غيرها؛ لأنّ مفردة "الموروث" مفتوحة على السليم والسقيم، والأصيل والدخيل دون تحديد واضح: يقول الشيخ: "فالحداثة لا تنافي التمسك بالموروث، ولا تعني أن يتخلى الإنسان عن المعلومات الحقّة التي انتقلت إليه من السابقين. الحداثة لا تنافي التقليد، بل تنسجم مع التقليد".
وهنا جملةٌ من الأسئلة:
عن أي موروث يتحدث فضيلة الشيخ الذي لا تنافيه الحداثة؟ وما الموروث المقصود؟ وهل أن كلَّ موروثٍ – هكذا دون تحديد لمفهوم الموروث – وهل أنّ الإنسان ملزم بقبول كل موروث – لكونه موروثا - دون مساءلةٍ أو مراجعة؟ ومن الذي يحدد أن هذه المعلومات حقّة أم غير ذلك، سوى البحث والاستقصاء والتساؤل، وكيف لنا أن نفهم أنّ "الحداثة لا تنافي التقليد، بل تنسجم معه"، وهي في صميمها تنهضُ على عدم الركون إلى التقليد التسليمي الاتباعي؟
يبدو لي أن فضيلة الشيخ يريد أن يقولَ:"الحداثة حركةُ انفصالٍ. إنها تقطعُ مع التراث والماضي، ولكن لا لنبذهِ، وإنّما لاحتوائه وإدماجه في مخاضها المتجدد، ومن ثَمّة فهي اتصالٌ وانفصالٌ، واستمرارٌ وقطيعةٌ: استمرار تحويليٌّ لمعطياتِ الماضي، وقطيعةٌ استدماجيّة له. هذا الانفصالُ والاتصالُ تُمارسه الحداثةُ حتّى على نفسها" (11).
فالحداثة ليست ضد التراث أو الماضي (الموروث)، وليست خصما له، وإنّما هي تتمثّله وتدمجه في "مخاضها المتجدد" والمستقبلي، وهذا ما يؤكده رموز الحداثة سواء كانت فكرية أم أدبية أم اجتماعية، والمقولة السابقة مثال واضح على ذلك من مئات الأمثلة(12).
ويُصرُّ فضيلة الشيخ على أن يأخذ الكلام إلى لغةٍ تصعيديّة (اجتماعيًّا)، فيطرح أنّ تيار الحداثة "واجه مشكلة في مسألة الاستفادة من التراث المنقول عن المعصومين (ع)، وواجه مشكلة في مسألة الاقتداء بالنبي الأكرم (ص) وأهل البيت (ع)".
ليس تيار الحداثة من يواجه مشكلة مع "التراث المنقول"، بل المشكلة موجودة قبل أن يولدَ تيار الحداثة، وهناك أطروحات نقدية عميقة وجذريّة "للتراث المنقول" من داخل البيت الحوزوي، أفهولاء يصبحون تيارا حداثيا؛ لكونهم يواجهون مشكلة مع "التراث المنقول"؟ ولماذا لا يُصبح "التراث المنقول" هو المشكلة؟! وعلينا أن نواجهها بنقدها وتمحيصها. فالتراث المنقول ما زال منقولا، ولن بُصبح قطعيا لكونه منقولا إلا بعد الفحص والتثبت، وهذه وظيفة الحداثي والتراثي على حدٍّ سواء(13).
السمة الثانية: إعطاء القيمة لعملية التفكير في نفسها، وليس للحقيقة التي يوصل إليها التفكير.
يُعرّف علماء المنطق القدماء - حسب نقل الشيخ - عملية التفكير بأنها واسطة ينتقل الإنسان من خلالها من معلوماتٍ موجودةٍ إلى معلوماتٍ مفقودة.
ويقول الشيخ بأن الإنسان يبدأ بعد ولادته في:
1- إدراك المفاهيم الحسية، مثل الألوان، والثقل والخفة، والخشونة والنعومة، وطعم المطعومات، ورائحة المشمومات.
2- إدراك مفاهيم لا يقع عليها الحس، مثل مفهوم العدم.
3- إدراك القضايا البديهية الواضحة التي لا تحتاج إلى دليل، مثل الوجود والعدم لا يجتمعان.
4- مرحلة التفكير.
لنقف على تعريف واحد لعملية التفكير: يُعرّف الدكتور علي حرب التفكير بقوله:" هو سَعْيٌ لفهمِ ما يَحْدُثُ بالتّحرر من المسبقات الفكرية. إنه اشتغال على الأفكار ذاتها؛ للكشف عمّا تمارسه المقولات من تسلّطٍ على الموجودات".
ما نتبيّنه من تعريف د. علي حرب للتفكير أنه سَعْيٌ للفهم أولا، وهو تحررٌ من الأفكار المسبقة ثانيا، وهو اشتغالٌ على الأفكار ذاتها ثالثا، وكشف ما تمارسه المقولات من تسلُّط رابعا.
بينما فضيلة الشيخ – حفظه الله – يُعرّفُ التفكير - كما ينقل هو عن علماء المنطق القدماء - أنهُ "واسطة ينتقل الإنسان من خلالها من معلوماتٍ موجودة إلى معلوماتٍ مفقودة".
وليسمح لي أن أطرح جملة من الأسئلة:
مَنْ هم علماء المنطق القدماء الذين اتفقوا جملة وتفصيلا على تعريف عملية التفكير بأنها مجرد واسطة للانتقال من معلومات إلى معلومات؟
كيف نتأكد أنه تمت عملية الانتقال من معلومات إلى معلومات دون معرفة مكونات هذا التفكير وخصائصه، مثل الفهم وتحرر الوعي من الأفكار المسبقة وتسلط الموروث؟
هل مجرد الانتقال من معلومات إلى معلومات يُسمى ذلك تفكيرا؟
إنها لمسألة خطيرة جدا أن تُطرح المفاهيم بهذا الاختزال المخل!؟ لا أجدُ مبررا لتعويم المفاهيم بهذا الشكل دون الوقوف على جوهرها وسماتها؟!
يقدم فضيلة الشيخ ذلك التعريف لعملية التفكير؛ ليصل إلى أن يقول:"التفكير ليس مطلوبا في نفسه، ليس له قيمة ذاتية، وإنما التفكير مطلوب باعتبار أنه واسطة وآلة يصل الإنسان بواسطتها إلى إدراك الواقع. وما له قيمة معرفة الواقع، وإدراك الحقيقة. أما التفكير في نفسه لا قيمة له".
والسؤال: كيف لا يكون للتفكير قيمة في نفسه، وهو أساس الوصول للأفكار وإدراك الواقع؟ فلماذا الفصل التعسفي بين قيمة التفكير وقيمة نتائجه، فليست عملية التفكير أمرا ماديا، أو تتمُّ بطريقة آلية بحتة، وإنما هي حراك نشِطٌ، وسعيٌ دوؤب، ومحاولات دائمة للفهم، وكل ذلك له قيمة؛ لكونه يفضي إلى نتائجَ صائبة أو خاطئة؛ فإن كانت صائبة فهي الغاية، وإن كانت خاطئة فإن الإنسان - من قبلُ ومن بعدُ – قادر على الاستمرار في تصويب أخطائه بالتّفكير؛ فـ"الحقيقة خطأ قد صوّبَ".
يقول العقاد في كتابه (التفكير فريضة إسلامية) في حديثه عن التفكير من منظور قرآني؛ متحدثا عن المنطق والفلسفة والعلم والفن الجميل والاجتهاد وعلاقة كلّ هذه المفاهيم بفريضة التفكير. يقول:"وليس التفكير في الإسلام عوضًا من النص أو ما يشبه النّص في الأحكام، بَلْ هُوَ فَرِيضَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، ولما يتوقّف عليها من فهم الفرائض الأخرى. وكلها محظورٌ على المسلم أن يهمله، وهو قادر على النهوض بتكاليفه غير مضطر إلى تركه، فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصير" (15).
يقول الشيخ متناولا مسألة مواجهة القرآن لأسباب الانحراف في التفكير، مستشهدا بقوله تعالى:﴿ولا تتبعِ الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾، فبيّن القرآن أن من أسباب الانحراف في التفكير والخطأ والاشتباه هو الهوى.
لا أدري لماذا اختزل فضيلة الشيخ الآية، وقطعها عن سياقها، تقول الآية:﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(16) سورة [ص، 26].
فالآية خطاب إلى نبي الله داود (ع)، وإذا أراد لها أن تكون مطلقة فهي تشمل الحداثي وغير الحداثي ممن يتبع الهوى والنظرة الذاتية، فلماذا إيراد الآية في سياق نقد تيار بعينه بطريقة تهوينية؟ و(أل التعريف) في لفظة الهوى تعريف الجنس المفيد للاستغراق، فالنهي يعمُّ كل ما هو هوى، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره.
ولا أدري لماذا يعدُّ فضيلة الشيخ الاهتمام بعملية التفكير، ويعدُّها مأخذا على تيار مدّعي الحداثة؟ ولا أدري كيف يكون ذلك مأخذا طالما القرآن امتدح في مئات الآيات الذين يفكرون ويتأملون ويتفكرون، فيقول: "مشكلة هذا التيار الجديد الذي يدّعي الحداثة هي أنه ينظر إلى التفكير على أنه قيمة في نفسه، و(يرى) القداسة لنفس عملية التفكير لا للحقيقة التي ينبغي أن يوصل إليها التفكير"؟
فأين المشكلة طالما عملية التفكير تجري في سياق التراكم المعرفي البشري القائم على مبدأ الخطأ والصواب والتعثر ثم النهوض، فأين المشكلة في ذلك؟
ويرى فضيلة الشيخ أنّ إعطاء القيمة لعملية التفكير في نفسها ترتب عليه "نتائج كبيرة وخطيرة"، ذكر منها نتيجتين:
1- تقديس كلّ مَن يُفكر؛ ولذا نلاحظ توزيع الألقاب، مثل المفكرين الإسلاميين والاجتماعيين والكونيين.
2- هزالة الطرح؛ فنتاج هؤلاء نتاجٌ أدبيٌّ ولغوي بحت، تجد فيه سبكا للجمل، وثراءً في المفردات، ولكن لا تجدُ ترابطا في المعلومات، ولا يوجد ارتباط بين المقدمات والنتائج".
هذا الكلام الإنشائي المفعم بالروح النقدية لكل شيء يصدر عن وعيٍ حداثي حقيقي أو مدّعى يدفعُ المستمع للتحسس من كلّ ما هو حداثي. فالتقديس مرضٌ اجتماعيٌّ عامٌّ، ومشكلة اجتماعيّة، ولكن لا يكفي نقدها عند طرف دون طرَف؛ وحريٌّ بالإنسان أن يتحرر من التقديس لكلِّ شيء، خصوصا في عالم الأفكار؛ لأنّ ذلك سيؤدي إلى استقالة الذات، وعطالة العقل.
أما الحديث في النقطة (رقم2) فهذا كلام جميل. فقد أخذ فضيلة الشيخ في نقد النتاج لا الأشخاص، وهذا فعلٌ معرفي ونقدي بامتياز، ففي هذا تجاوز للذاتي إلى الموضوعي، ونقد للمقولات لا لقائليها، وهذا على أهميته نادر في المحاضرتين (17).
ذكر الشيخ مثالين اثنين على هزالة الطرح لدى تيار مدّعي الحداثة، هما:
المثال الأول:
إشكالية ترتبط بعدالة الإسلام وموقفه من الرق والعبودية، وذكر بأن هناك عدة مقاربات؛ للرد على تيار مدّعي الحداثة، اقتصر ردّه منها على المقاربة الكلامية، فذكر بأن الوجود له محور أخرج جميع الموجودات من العدم، هذا المحور هو الله، ولله أن يتصرف في الموجودات كما يشاء؛ وتفهم من كلامه - حسب هذه المقاربة الكلامية - أنّ الرّق والعبودية هي بمشيئة الله، (أو بالتعبير المسيحي بمشيئة الرب)، ويضيف: وهذا لا يمكن أن يكون ظلما، فالملكية حكم اعتباري مثل الزوجيّة، ولا بد أن نبحث في مسألة التوحيد والخالقية والمالكية المطلقة؛ لنفهم أن الرق والعبودية ليست ظلما.
هذا الكلام - بإرساله هكذا إرسالا - مشكلة كبيرة وخطيرة جدا، وهو غريب جدا. وللمنظمات الحقوقية المناهضة للعبودية كلام آخر أجود من هذا الكلام.
المثال الثاني:
إشكالية تولية زياد بن أبيه، وتناقضها مع عصمة الإمام علي (ع)، وتنافيها مع حكم الله (حسب تعبيره) في عدم تولية ابن الزنا، وردّ على الإشكال بأن الإمام علي هو مصدر من مصادر الحكم الشرعي، وفعله دليل على المشروعية. وفي هذه المعالجة حسٌّ كلاميّ أيضا.
شخصيا لا أعرف ما علاقة هذين المثالين بالحداثة، فالأول مسألة فقهية قانونية – يصلُ امتدادها امتداد عمر الإنسان – وهي مدار مناقشة في كلِّ الأمم والشعوب. والثاني قضية تاريخية، فيها تفاصيل، واختلافات، فحبذا مناقشتها من منظور تاريخي فقهي بحت. ولا علاقة للحداثة أو الأصالة أو المعاصرة بها. فزيادٌ هو ابن أبيه على قاعدة (الولدُ للفراش). وفي تولية الإمام علي (ع) له نظرة إدارية ثاقبة تعتمد الكفاءةَ الإدارية بغض النظر عن أصلِ الموظف الإداري وفصله. وهذه رؤية إدارية حداثية وسابقة تراثية.
يقول الشيخ: "الحداثة العقلائية هي التطوير الإيجابي". وقد تكرر هذا التعبير أكثر من مرة. حبذا لو طرحَ فضيلة الشيخ النماذج الإيجابية للتطوير الإيجابي الذي يراه مثالا على الحداثة العقلائية؛ لكي يكون المستمع على دراية بالحداثة المدعاة والحداثة العقلائية.
افتتح مجلس الليلة الثانية بقوله:"موضوعنا في الليلة الماضية ولا يزال حول تيار جديد له تأثير على الشباب في كثير من مفاصل الثقافة". ثم أخذ في مواصلة الحديث حول سمات هذا التيار، ومنها:
السمة الثالثة وهي: إسقاط التخصص في العلوم الدينية والمعارف الشرعية.
وتحدّث عن المتخصص وغير المتخصص في تقسيم العقلاء، فالأول هو من يمكنه أن يعطي رأيا، أما الثاني ليس من حقه أن يعطي رأيا، ووظيفته أن ينقل آراء المتخصصين.
وأكد أن التيار الذي نتحدث عنه يدرك هذه الحقيقة في جميع المعارف والعلوم إلا في العلوم الدينية والشرعية. وأن هذا التيار يقدم نقدا لعلماء العقيدة وعلماء الكلام.
وذكر مثالين لتوضيح الصورة:
1- استمعت إلى شخص في لقاء تلفزيوني قد وُجّه له سؤال حول المرجعية وجواز التقليد، هل يوجد في الإسلام مرجعية فقهية؟ هل يجوز أن يرجع عامة الناس إلى الفقهاء لأخذ الأحكام الشرعية؟ فأجاب بهذا الجواب: المرجعية هذه كهنوتية لا أساس لها في الإسلام.
وأخذ في توضيح مسألة جواز التقليد وأدلتها النقلية والعقلية. وأكد أن هذا الكلام يكشف عن مدى تدخل هؤلاء فيما لا يحسنون؛ لإسقاط قيمة التخصص في العلوم الشرعية، وأبان أن المتخصصين في العلوم الدينية لهم بحوث معمقة في علم الطبقات والأسانيد والمشتركات والنسخ والتعارض والتراجيح وقواعد علم الأصول؛ لتأمين جهة صدور الروايات وتبيان دلالاتها.
هذا الكلام على أهميته يُغفل أمرين:
الأول: واضح أن المتحدث في اللقاء التلفزيوني "شخص"؛ أي إنه واحد، إن أصاب أصاب هو، وإن أخطأ أخطأ هو، بينما الحديث على مدى ليلتين عن تيار اسمه تيار مدّعي الحداثة، أترى أنّ هذا اللقاء التلفزيوني تمّ بحضور التيار الحداثي وراء الشاشة يسبحون بحمد كلام هذا "الشخص الحداثي"، مؤيدين ومساندين ومشجعين في الحلقة المذكورة. أم أن هذا الشخص هو تيار حداثي تامٌّ قائمٌ بذاته؟؟؟
الثاني: لماذا لا تُفَعّل تلك البحوث المعمّقة التي يشير إليها فضيلة الشيخ في تهذيب الموروث من قبل المتخصصين خطابيا ومنبريا؛ لكي يتمَّ قطع الطريق على مدّعي الحداثة ودعاتها من غير المتخصصين للحديث في الموروث؟
2- قرأت مقالا لأحد الحداثيين يقدّم فيه اعتراضا على بعض الفقهاء الذين قالوا بجواز أن يجتمع الحيض مع الحمل. هذا الكاتب يعترض على هذه الفتوى، ويقول: هذه الفتوى مخالفة للعلم. ويعلّق فضيلة الشيخ بقوله: هذا الكلام يكشف أنه دخل في مجال غير تخصصه.
واضح أنّ الحديث يدور حول "شخصٍ واحد" في اللقاء التلفزيزني كما في المثال السابق، وهنا "أحد الحداثيين"!!؟
أيصحّ أن يكون "الشخص الواحد"، و"الأحد الواحد" ممثلا لتيار اسمه تيار مدّعي الحداثة!؟ ونحن أيضا لا نعرف (هذا الشخص، أو ذلك الأحد) الذي عمل لقاء تلفزيزنيا، أو كتب مقالا، فربما يكون متخصصا في مجال اعتراضه، فيكون له الحق في إبداء رأيه - كما قد قرّره الشيخ نفسه سابقا.
وشرع فضيلة الشيخ في الحديث عن الحيض والانسياب الدوري، ولم يأخذ في ردّ صميم الإشكال وصلبه الذي أثاره هذا (الأحد)، وهو في اجتماع الحيض والحمل معا(18). وقد يُشكلُ على فضيلة الشيخ حيدر أحدُ مدّعي الحداثة، فيقول له: أأنت حين تناولت موضوع الحداثة كنت متخصصا بها، ودارسًا لاتجاهاتها، ومتعمقًا في خلفياتها التاريخية، وأسسها الفلسفيّة؛ لكي تتناولها بهذا الشكل على المنبر؟ فماذا هو قائل؟
السمة الرابعة: التشكيك في جميع الثوابت الدينية.
يستفيض الشيخ في توضيح موقف العقلاء من التشكيك، وأنه في نفسه ليس له قيمة، ويُعرّفُ الشّكَّ بأنه عدمُ العلم، ويرادفُ بين الشّكِّ والجهلِ، والجهل في نفسه لا قيمة له. وإنما القيمة للعلم والمعرفة.
هذا الكلام في مستوى المعنى اللغويّ المباشر للشكّ يُعدُّ كلاما صحيحا لا غبار عليه، ولكنّ الشكَّ بالمعنى الاصطلاحي لا يقفُ عند تخوم المعنى اللغويّ.
تناول الأستاذ محمد العلي الشّكّ واليقين بوصفهما ثنائية جدليّة، فيقول في كتابه نمو المفاهيم:"تكاد ثنائية الشك واليقين أن تجسّدَ ازدواجية الإنسان نفسه، فهو لا يستغني عن اليقين لاستمرار الحياة وعفوية السلوك وسن قوانين التوازن الاجتماعية، ولا يستغني عن الشك لتطوير الحياة نفسها وإنضاج السلوك وتعديل أنظمة التوازن الاجتماعي؛ لأن هذه حتمية قانون التطور الذي لا يرى"(19).
ويرى أن للشكِّ تعريفًا فلسفيا، فهو حالة نفسية يتردد معها الذهن بين الإثبات والنفي، فيتوقف عن الحكم، وذلك للجهل بظروف الموضوع، أو العجز عن تحويل الذات" (20). ويحدد أن منشأ الشكّ هو "عملية المعرفة نفسها، ومن خلال الآراء المتضاربة حولها، وقد تولدت هذه الآراء من اختلاف الإجابة عن الأسئلة" (21).
ويذكر أنّ للشّكِّ أنواعا، وهي:
1- الشك المطلق، ومعناه أن الأشياء التي نُحسها لا يمكنُ معرفتها موضوعيا، إنها تبقى دائما في نطاق الشك، وذكر أنّ ظاهرة الشك المطلق – بهذا التحديد - تتكرر في التاريخ؛ وذلك لأنه يزداد انتشار النزعة الشّكيّة في فترات التطور الاجتماعي، عندما تكون المُثل القديمة آخذة في التداعي والاهتزاز على حين أن المُثل الجديدة لم تُثبت نفسها".
2- الشك المنهجي، ومعناه التحرر من أفكار السابقين بالشّكِّ، وعدم القبول إلا بما ثبت يقينا.
3- الشك النقدي، ومعناه إعادة النظر في المفاهيم والآراء وقبول الاعتراض عليها، وتغيير الموقف منها، إذا اتضح أنّ الحقيقةَ هي غير ما تقول تلك المفاهيم. وهذا هو السائد الآن في جميع الثقافات (22).
ويقولُ الشيخ كلاما مهمًا في أثناء حديثه عن الشكّ ينسجم مع المفهوم العلمي للشكّ، فيقول:" الشكُّ يرفعُ مانعًا من تحصيل العلم؛ فإذا كان الإنسانُ يجزمُ بقولٍ لا يُطابق الواقع، جزمُه هنا يحُولُ بينه وبين التّحرك للبحث عن الحقيقة. أما إذا كان يشكُّ، فالشكُّ يحرّك فيه غريزةَ البحث عن المعرفة".
ولكنه ينقلُ أنّ العقلاء قرروا عدة قواعد، أهمها قاعدتان:
1- يحسن تشكيك من يعتقد باعتقاد باطل.
2- قبح تشكيك من كان يعلم بالواقع، هذه وظيفة أخلاقية يقرها العقل والشارع المقدس.
ويقول: "التشكيك قد يكون فعلا شيطانيا مذموما يعاقب عليه الإنسان". ولذا عدت الآيات والروايات التشكيك فعل الطواغيت والشياطين. بعض الناس يشك في الحقائق والثوابت".
كثيرة جدا الملاحظات على هذا الكلام أعلاه، فإنّ فيها -أولا- اختزالا مفهوميا لمفهوم الشك، فهو يرادف بين الشكّ المعرفي والحالة الارتيابية، وكأن الشكّ والتساؤل إثم مبين؛ بينما هو صيغة تساؤلية طلبًا؛ لليقين المعرفي. –وثانيها- إذا كان الشكُّ إثما مبينا، فكيف "يحسنُ" فيصبح فضيلة حين توظيفه ضد من يعتقد اعتقادا باطلا؟ فسوف يعاملك هذا بمثل ما تعامله به-وثالثها- كيف يتم قبول مثل هذه التعميمات والإطلاقات المجانية، مثل القول بأنّ "هذا التيار من أهم سماته ممارسة التشكيك في كل الثوابت الدينية، يأخذه من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت". –ورابعها- مفهوم الشك لدى ديكارت ليس مرادفا للجهل والعبث، وإنما هو حداثة السؤال وسؤال الحداثة، هو طريقة نحو الحقيقة، وله مراحل وخصائص وقواعد صارمة مبثوثة في كتبه. فالشك لدى ديكارت شكٌّ جذري وإرادي، وفعلٌ فلسفيّ خالص، منهجي، ومؤقت، وتأسيسيّ شامل، فهو شك ليس لمجرد الشك، وإنما لغاياتٍ ودواعٍ فـ"يكون الشك فعلا مؤقتا؛ لأن منتهاه تأسيس مفهوم الذات والإله والعالم" (23).
يقول الشيخ:"هذا التيار من أهم سماته ممارسة التشكيك في كل الثوابت الدينية، يأخذه من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. شِكْ في كلِّ ما تؤمن به. شِكْ في كلّ ما تعتقدْ. اكفرْ بكلّ ما تعتقد به"(24).
لا أعلم أين قال ديكارت هذا الكلام أعلاه، ولكن ما أعرفه أن ديكارت قال:"وما كنتُ في ذلك مقلّدا اللاأدرية الذين يشكون إلا لكي يشكوا، ويتكلّفون أن يظلوا دائما حيارى، فإني على عكس ذلك، كان مقصدي لا يرمي إلا إلى اليقين، وإلى أن أدع الأرض الرخوة والرمل؛ لكي أجدَ الصّخرَ والصَّلصالَ" (25).
يبدو لي من تعامل فضيلة الشيخ مع الشك أن ثمة التباسًا مفهوميا يُحيط بالشك لديه، وأنه مرادفٌ للارتياب، ولكنني سأطمئنُ الشيخ بأن مبدأ الشكَّ ليس حكرا على الثقافة الغربية أو على ديكارت، فقد كانت له نماذج في التراث العربي الإسلامي؛ لأنه كان طريقا للوصول إلى حقائق الدين وحقائق العلم وحقائق المعرفة، فمثلما كان طلب الإيقان غاية، كان الشكّ وسيلة للوصول لها؛ فإنّ من مفكري العرب والمسلمين وفلاسفتهم وأدبائهم وفقهائهم مَن عُرف بالشك والتساؤل، فمنهم الجاحظ، وابن سينا، والحسن بن الهيثم، والمعري، والغزالي، وابن طفيل الأندلسي. فيقول الجاحظ: "واعرفْ مواضعَ الشَّك وحالاتها الموجبة لها؛ لتعرفَ بها مواضعَ اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّمْ الشَّكّ في المشكوكِ فيه تعلُّما، فلو لم يكن في ذلك إلَّا تعرّفُ التّوقُّف ثمَّ التثبُّت، لقد كان ذلك ممَّا يُحتاجُ إليه"(26).
وللحسن بن الهيثم كتاب معروف بعنوان الشكوك على بطليموس. أما أبو حامد الغزالي فيقول:"الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"(27).
ويقول الفقيهُ ابن عقيل: "مَن لا تعترضه شبهة لا تصفو له حجة، وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد"(28).
فهذه العبارات – وهي غيضٌ من فيض في التراث العربي الإسلامي - تدعو الفرد المسلم إلى إعمال العقل والبصر والبصيرة عن طريق الشك والتساؤل في الموروث والمنقول والمعقول؛ تبعًا لعلماء المسلمين وفقائهم وفلاسفتهم، وليس فقط تبعا لديكارت. وأول ما تدلُّ عليه هذه العبارات – معرفيًّا - أنَّ الغُلوَّ في التّيَقُّن هو عينُ الإسرافِ في التشكيك، وكلاهما أمرانِ مذمومان غير محمودين (29).
يقول الشيخ حيدر السندي:"هذا التوجه تبعا لديكارت وقع في خطأ وخلل وخلط بين أن تشك في المعلومة وأن تعيد النظر في أدلة المعلومة التي تعتقد بها [وهذا كلام جيّد].ثم يقول:" الشك ليس أمرا فعليا باختيار الإنسان على كيفه في لحظة يشك وفي لحظة يتيقن. الشك والعلم أمور انفعالية. إذا كان عندك دليل تجده تاما في مقدماته تنفعل نفسك ويحصل عندك علم اضطرارا".
بينما ديكارت يقول:"الشك إرادي بما هو فعل فلسفيّ خالص صادر عن قرار وإرادة حرة". هناك فرق بين إرادة التفكير واستطاعة التفكير، فالشك بما هو تفكير فعلٌ إنساني، فكلّ فردٍ في مستطاعه التفكير ما دام يتوفر على عقل إلا أنه لا يفكر، أو أنه يتوهم التفكير؛ لأنه يظل مشدودا إلى أحكامه المسبقة، ههنا يصدر الشك بصفته فعلا إنسانيا عن إرادة التفكير، ومن تجلياتها إعادة النظر في جميع الآراء السائدة" (30).
فالشكُّ الديكارتي ليس شكًّا في كلِّ ما تؤمن به. وليس كفرًا بكلّ ما تعتقد، وإنما هو "طريقة حديثة في التفكيرِ؛ قوامُها الشّكُّ سبيلا إلى الحقيقةِ" (31).
قبل الختام:
أجدد الشكر والعرفان لفضيلة الشيخ حيدر السندي، وأرجو له دوام التقدم والنجاح. كما آملُ أن تخرجَ رسالة المنبر من كونها تلقينا إلى كونها تكوينا للعقول وصقلا لقدرتها على النقد والتمحيص والمقارنة والتفكير والإعلاء من قيمة التساؤل، والتشجيع عليه(32).
فليست الحداثة مفهوما منعزلا وظاهرة مستترة تنمو بمعزل عن الحراك المجتمعي اليومي، وإنما هي تفاعل دائم بين الإنسان وبيئته وحاجاته وأفكاره ومقتنياته.
ختاما..
أدعو فضيلة الشيخ إلى الإقامة طويلا عند المفاهيم، ومنها مفهوم الحداثة، كما أدعوه إلى الانفتاح على الحداثة ومنهج الشك، والاعتكاف في فهمهما وفهم تطورهما التاريخي ومدارسة تحولاتهما في الفكر والثقافة، ثم نقدهما نقدا رصينا، فإنّ لديه المقومات فما عليه إلا تجاوز الحجب. فلا يلبث طويلا عند مقالة هنا، أو تغريدة هناك، فالموضوع أكثر عمقا وجدية.
جابر الخلف
الأحساء الطرف
27 محرم 1438هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- محمد عابد الجابري، حسن حنفي، حوار المشرق والمغرب، ص121.
2- انظر: محمد سبيلا، عبدالسلام بنعبدالعالي، الحداثة وانتقاداتها: نقد الحداثة من منظور غربي، ص6.
3- للإجابة عن هذا السؤال انظر: د. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبيَّة، ص262.
4-انظر: محمد العلي، نمو المفاهيم، ص9 وما بعدها. وانظر كذلك: محمد العلي، تاريخية الأفكار, (محاضرة ألقيت في العمران بتاريخ 1 جمادى الأولى 1436هـ الموافق 20 فبراير 2015م).
5- في كتابه سطوة المصطلح توقف د. عادل العلي عند إشكالية (المصطلح) وأبعاده الآنية والتاريخية ومناشئه ووظائفه، وأثر التطور الاجتماعي فيه، كالوعي واللغة والصراع والمصالح، فإذا كان المصطلح - لغويا - يطلق على مفهوم معين يتم الاتفاق عليه، فهو - فكريا واجتماعيا - لا يخضع لهذا الاتفاق، وإنما يخضع لقانون التطور الاجتماعي واللغوي. ولعله من هنا تأتي صعوبة الإمساك بتعريف محدد لمصطلح الحداثة، كغيره من المصطلحات ذات الأبعاد والمناشئ المختلفة. ويُفرق د. عادل العلي بين المصطلح العلمي، الذي – عادةً – ما يكون محل اتفاق، والمصطلح الاجتماعي أو الفكري الذي – عادةً – ما يكون محل اختلاف؛ وذلك راجع لطبيعته الإنسانية وطبيعة العوامل المحيطة به وبها. لمزيد التوسع انظر: ص13 حتى ص30، وص33 حتى ص41، وص166 حتى ص172.
6- أعدّت مجلة فصول ملفًّا خاصا عن الحداثة لغويا وفكريا وأدبيا في عددين اثنين: الجزء الأول، م4، ع3، 1984م، والجزء الثاني، م4، ع4، 1984م.
7- انظر: علي الشبعان، معترك الحداثة، ص180، ص181.
8- توجد مجموعة من الكتب التي اهتمت بقضية الحداثة في ثقافتنا المحلية، ومنها - على سبيل المثال - كتاب نبت الصمت للدكتور شاكر النابلسي، فإن فيه توثيقا وتدوينا لجدل الحداثة فكريا وأدبيا في السعودية، ومنها ما دار في الصحافة المحلية من مناقشات وكتابات كثيرة جدا منذ الثمانينات، وما صدر من كتب تالية، كلها تؤكد أن تيار الحداثة ليس جديدا في النشاط الثقافي المحلي. وإنْ رجعنا إلى الوراء فإنّ جدل الحداثة ثقافيا وصحافيا بدأ فعليا مع صدور كتاب خواطر مصرّحة عام 1926م للشاعر والمفكر محمد حسن عوّاد (جدّة 1902م – 1980م)، وما مرحلة الثمانينات إلا اللجة الثانية أو الثالثة.
9- يمكن النظر – مثالا - في كتاب نقد الحداثة، ألان تورين. وجان فرانسوا ليوتار. ويمكن النظر أيضا في كتاب الحداثة وانتقاداتها من منظور غربي، وكتاب الحداثة وانتقاداتها من منظور عربي وإسلامي، محمد سبيلا، وعبدالسلام بنعبدالعالي.
10- تحدّث د. محمد سبيلا عن أكثر من التباس مفهوم الحداثة، فقد تناول بعض معالمها وعلاماتها في الحقل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري، ومفاصلها الكبرى، وأحداثها الأساسية أوربيًّا وعربيًّا. لمزيد الاطلاع انظر: ص123، ص231.
11- انظر: محمد سبيلا، وعبدالسلام بنعبدالعالي، الحداثة، ص5.
12 - رموز الحداثة العربية الكبار أدبيا وفكريا ودينيا (مشارقة ومغاربة) قدّموا للتراث (الموروث) خدمات جليلة بقراءة التراث قراءة معاصرة تتمثل مضامينه الحداثية ومكتسباته النيرة، وتنقده وتضيف عليه الإضافات التي يبحث عنها فضيلة الشيخ، وجهودهم تحتاج إلى مزيد قراءة دائمة وتتبعٍ واعٍ. والأسماء كثيرة في ذلك لا يمكن حصرها. وقد قال فضيلة الشيخ كلاما مهما، مثل قوله:""على الإنسان ألا يتبعَ السابقين، ويجمدَ على تراثهم بلا وعي وبلا تمعن.. التغيير مطلوب. والتحديث مطلوب". هذا الكلام على أهميته لا بد أن يتجسّد عمليا وواقعيا في ميدان الأفكار والأطروحات على المستوى الاجتماعي المنبري، فلا يكفي أن نقوله نظريًّا، ونخاصم الحداثة عمليًّا. فلا ضرورة أن ينشغل الشيخ بأطروحات حداثية – يجدها من وجهة نظره مدعاة وهزيلة – عليه أن يقدّم أطروحته الحداثية ذات المضمون الإيجابي كما يراها، وتكون نموذجًا متجسدًا للحداثة الناهضة والأصيلة.
13- ينسب فضيلة الشيخ لبعض دعاة هذا التيار بأنه يقول:" كان النبي يعيش في زمان، ونحن نعيش في زمان آخر. الظروف تغيرت. والتعقيدات الاجتماعية تبدلت. وبالتالي لا يمكن أن نقدم النبي (ص) قدوة ونموذجا للإنسان المعاصر". ثم يستطردُ متناولا وظيفة الدين، وأن وظيفته الهداية. لا أدري أين قال (بعض دعاة هذا التيار) هذا الكلام "بأنّ النّبيَّ لا يمكنُ أنْ يكونَ قدوةً ونموذجًا للإنسان المعاصر"، (هكذا بهذه الحرفيّة)، ولكن ما يبدو لي أنّ هذا نوعٌ من التّصعيد لا ضرورة له في سياق النقد الموجه للأفكار، فما تعنينا هي الفكرة.
14- انظر: علي حرب، الفكر والحدث، ص210.
15- عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، ص98.
16- لعل الآية 23 من سورة الجاثية:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ..} أنسب في الاستشهاد في هذا المقام من الآية 26 من سورة ص.
17- لستُ في سياق موافقة الشيخ على صحة النقد من عدمه للنتاج الثقافي لمن يصفهم بتيار مدعي الحداثة، ولكنني أؤيده في طرح وجهة نظره في النتاج بعيدا عن تركيز الكلام على منتجيه.
18- انظر: فؤاد زكريا، كتاب التفكير العلمي، يوجد كلام قيّم من ص5 وما بعدها عن الفرق بين تفكير العلماء والتفكير العلمي.
19- محمد العلي، نمو المفاهيم، ص 29.
20- المصدر نفسه ص 29.
21- المصدر نفسه ص 31.
22- المصدر نفسه ص34، ص35، ص 36.
23- رينيه ديكارت، البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي، ترجمة سفيان سعدالله، راجعه حمادي بن جاء الله، ص114. استثنى ديكارت الدين والقانون الفرنسي من شكه؛ لما لحق بالفلكي غاليليو من بطش الكنيسة به؛ لقوله بمركزية الشمس ودوران الأرض.
24- لم يشكَّ ديكارت في البديهات، وهي المعرفة الواضحة المتميزة التي تبدو جليّةً ودقيقةً للعقل اليَقظِ. والشك عند ديكارت شكٌّ منهجي، فهو إذ يضع الأشياء موضع الشّك يستبعدُ الأحكام المسبقة، ويتجنّب التسرع في الحكم، مما يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، فيحلل المشكلة ويقسّمها إلى أجزاء، ثم يأخذ في ترتيب الأفكار في نظامٍ؛ مبتدئًا بأبسط الموضوعات إلى معرفة أكثرها تعقيدا؛ ولذا فهو يُعنى بذكر الجزئيات وتعدادها بصورة طبيعية، وفحصها فحصًا عامًّا؛ قَصْدَ التّأكد من عدم إهمال أيّة جزئية. لمزيد التوسع انظر: جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1، ص705. وانظر كذلك: حمد الراشد، رينيه ديكارت عالم وفيلسوف العصور الحديثة، وانظر مهدي فضل الله، فلسفة ديكارت ومنهجه.
25- انظر: ديكارت، مقال عن المنهج، ص207، ص208. وانظر كذلك: عبدالإله بلقزيز، الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص508.
26- انظر: الجاحظ، كتاب الحيوان، ج6، ص35. ويُفرّق الجاحظُ بين الشكّ والجحود، فيقول:"قال أبوإسحاق نازعتُ من الملحدين الشاكَّ والجاحدَ، فوجدتُ الشّاكَّ أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود، وقال أبوإسحاق: الشاكُّ أقربُ إليك من الجاحد، ولم يكن يقينٌ قطُّ حتّى كان قبله شكٌّ". لمزيد الاطلاع انظر، الجاحظ، كتاب الحيوان، ج6، ص35، ص36.
27- انظر: الغزالي، ميزان العمل، ص126د. وانظر: محمود حمدي زقزوق، المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، ص70.
28- انظر: عبدالإله بلقزيز، الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص507. يُفرق الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية بين الشك على قسمين: الشك المذهبي، ويُسمّى أنصاره الشُّكّاك واللاأدريين، والشك المنهجي أو العلمي، وهو أن يتجرد صاحبه من معلوماته برغبته وإرادته، ويتّخذ من شكّه هذا وسيلة إلى البحث والدراسة العلمية؛ حتّى يصلَ إلى المعرفة الصادقة، فالشكُّ المذهبي غاية في نفسه، والشكُّ المنهجيّ وسيلة إلى العلم. وهذا الكلام هو خلاصة ما يعنيه رينيه ديكارت بالشكّ. لمزيد الاطلاع انظر: محمد جواد مغنية، مذاهب فلسفية، ص213.
29- تناول الدكتور عادل العيثان مفهومَ الشكِّ وما في حكمه، كما شرح منهجَ الشكِّ الأصوليّ الذي يُعنى بآلية تشخيص الشكوك وتقنينها بما يلائم واقع البحث والدليل العلمي، ومع أنّ الشك في حقيقته ليس علما، ولكن لا ينافي ذلك استثمار الشكوك والظنون للوصول إلى الحقائق، والأغلب من الفلاسفة رأوا في الشك وسيلة أساسية لتمحيص الآراء والأفكار للوصول إلى أحكام علمية مضبوطة، وهذا المسلك في التعامل مع الشكوك يُسمى بالشك المنهجي. انظر: عادل العيثان، "منهج الشك الأصولي وكيفية تطبيقه في البحث النحوي"، ص2، ص3، ص4.
30- رينيه ديكارت، البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي، ص111.
31- رينيه ديكارت، البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي، ص5.
32- أشار السيد كمال الحيدري إلى قيمة التساؤل، وأنه يعد مفتاح المعرفة، وقال: ليس لنا أن نتعامل معه على أنه شيء يثير المخاوف، سواء حمل في طياته سمة النقد أو التشكيك أو الإشكال، ولفت السيد الحيدري النظر إلى أن هناك من يستعمل لفظ "الشبهة"؛ لإثارة المخاوف من السؤال وسائله. لمزيد الاطلاع انظر: الثابت والمتغير في المعرفة الدينية، السيد كمال الحيدري، بقلم د. علي العلي، ص17.
جلسة محرم 1438هـ.