ثورة الإمام الحسين(ع)
وخطابها الفقهي
الكاتب: باقر الرستم
قراءتي هذه لمنتدى السهلة الأدبي، وذلك استجابة لدعوة تفضل بها الأخ الصديق العزيز الأستاذ الشيخ صالح الغانم، أبو المثنى، وكان طرح علي أن أتناول ما قمتُ بطرحه في حسينية القائم ، والذي كان بعنوان: (( جهاد الإمام الحسين (ع)، قراءة في واقع الأمة وآلية العلاج)).
إلا أن نفسي لم تكن لتطاوعني لأعيد ما قلته قبل أيامٍ، وإمكانية الوصول إلى ذلك سهل، في حين أن إعادته يشعرني بالشلل والتوقف عن التفكير.. فرأيتُ أن أتناول مسألة مهمة لم تأخذ حقها في تلك المحاضرة بعنوان:
(( ثورة الإمام الحسين (ع) في الخطاب الفقهي))، وذلك لأنني إلى الآن، وبحدود اطلاعي لم أجد بحثاً فقهياً مدوناً، أو موسوعة فقهية من المتقدمين ولا من المتأخرين، سوى دراسات قليلة، وبعدد أصابع اليد، وقد جاءت نتيجة ضغط الحضور الشيعي في الأحداث العالمية والإقليمية، ومن خلال الخطاب الديني، وأيضاً لمواجهة تحديات الإثارة الفقهية التي يثيرها الرافضون للقراءة الفقهية للمشهد السياسي المعاصر، فيما أولئك يستحضرون واقعة كربلاء ومشروعها وخطابها، وأيضاً لازدياد حالة تغييب القيم والأهداف الحسينية، وانغماس تيارٍ كبيرٍ في ممارساتٍ أقرب ما تكون للخرافة والجهل، ومحاولتهم لجعل الثورة الحسينية في غياهب الغيب والطلسمة.
الأمل أن تُرفد تلك الدراسات بدراسات وموسوعات في دروس خارج الفقهاء الكبار والمراجع العظام، ليتلقى طلبتهم هذه المسألة كمسلَّمة فقهية كسائر أبواب الفقه المألوفة في الحوزة، ويقومون بنقلها إلى الناس، ويضغطون بها على الخطباء، لا أن تتوقف في حدود بعض الفضلاء الذين على شكرنا لجهودهم العزيزة؛ إلا أنها كتابات فردية تشبه تأليف القصيدة والرواية والقصة.
نعم.. الأمل أن تحظى هذه الثورة بدراسات من هذا النوع الذي لا زال شاغراً في الدراسات الفقهية المعمقة، وترويج ثقافته لكي تعيشه الامة كما عاشت فقه القطيعة مع الطواغيت والظالمين، لتعالج إشكاليات توالت علينا نتيجة تجاهل هذه المسألة، ولنتجاوز الحالة غير الصحية هذه للتفاؤل بهذه البحوث؛ لتصنع الواقع الذي ننشده، ولكن لا بد من الإشارة إلى هذا الواقع المنشود.
وقد عنونت قراءتي هذه بالعناوين التالية:
- الأمة وتبديل النعمة
- (( الفقيه )): ثقة المؤسس ينتصر للأصالة
- كيف يُنتج فقه الثورة؟
- ماذا يقرأ الفقيه في كربلاء؟
- قراءات فقهية منتجة:
- فقه الإمام الحسين في مكافحة الطغيان
- ثمرات هذا الفقه
- ثورة الإمام الحسين(ع).. هل هي خاصة به؟
مقدمة تمهيدية:
قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).. صدق الله العلي العظيم.
هي تلك سمتها القرآنية، والتي تجعلنا في واقع جدي لقراءة جادة.. لنتعرف على جاذبية الخيرية، وطردية الانقلاب.. أين هي الخيرية؟ وفيمن؟! وهل تتوافق هاتان الحالتان زمناً؟ أم تهيمن هذه بغياب تلك؟
هي أسئلة لو رافقنا الإجابة عليها، لذهبنا بعيداً عن محور حديثنا، ولكن سنتعاطى معها حيث مفهومها الخارجي، أو ما يُسمى في الأصول (( حجية ظواهر القرآن))، كونها في ظاهرها أيضاً ستفيد معنًى يتوافق قرآنياً مع المبادئ والقيم القرآنية، وليس كما هو الحال في بعض ظاهر الآيات التي تصطدم بظاهر آخر، كما في آية ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
وهنا.. في قراءة ظاهر الآية التي افتتحنا بها المشاركة، والتي تتناول مسألة الخيرية، وتشير إلى أن هناك خيرية اتسمت بها هذه الأمة، وخاصية تحكي تلك الخيرية، وهي خاصية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما في موارد متفرقة يتحدث القرآن الكريم عن خصوصيات أخرى تصب كلها في مصب واحدٍ، وهو تلك الخيرية، وبحال حكايتنا عن الظاهر، وهي خاصية الوسطية: (وجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، وكذلك لأن أهلها: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)، وفي أخرى: (جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ), وذلك ليتحقق الوعد الإلهي بذلك الوعد الحتمي: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً)، وبنتيجة: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، وبتمكين دينه في الأرض: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِيِنَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)، وذلك ( لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، و( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
ذلك كما قلنا ظاهر النص، ولكن عندما يكون الشاهد منقلباً، فلا محال أنه غير مقصودٍ بتلك الخيرية، ما يعني أنها لأناس خاصين، وقد سمى النبي إبراهيم (ع) بالأمة ( إن إبراهيم كان أمة).
إلا أنها مقارنة بالأمم الأخرى فهي حتماً خير تلك الأمم، وبذات خصائص تلك الخيرية أيضاً، بغض النظر عن درجة الخيرية، إلا أنها متقدمة على غيرها.. إذ بقدر ما فيها منقلبين، فإن فيها ( وما بدلوا تبديلاً).. وهؤلاء الذين لم يبدلوا سيحفظون الدين وأصالته وجوهره، وبهم يتحقق المفهوم الإلهي في كون الحجة الإلهية بالغة ( فلله الحجة البالغة).
في سياقات الأحداث، وما ستُنتجه غلبة تيار الانقلاب في الأمة فإن الأمة بسببه ستمر بمخاضات مؤلمةٍ، وذلك لتمكنه من منع تصدي أهل حاكمية ( إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله).
ذلك بعد وفاة النبي (ص)، وقد أشارت الآية لذلك صريحاً في قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
بلغت الحالة بمجيء يزيد مرحلة خطرة، حيث تعمقت فيها حالة الانقلاب تلك، وتطورت أدواتها؛ لتنتشر ولتملأ كل الواقع الإسلامي تقريباً: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ)، حيث ( مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).
لينتج ذلك الانحراف والانقلاب واقعاً نقيضاً ومناقضاً لمفهوم الواقع والحاكمية التي تريدهما الشريعة، ما يجعل ذلك الواقع غير متوائم مع طبيعتها، وبحالة مضادة مع أسسها.
وقد أعطى ذلك الانقلاب نتائج حادة، وصفها الله تعالى بقوله: ( ألم ترَ إلى الذين بدَّلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار).
هكذا كان واقع الأمة بعد أن بدَّلت بانقلابها نعمة الله، فكان نهج حكامها خارجاً عن كل القوانين والنواميس والأدبيات وقواعد الحكم لدين الأمة، وخارج فقهها، وأحكام دينها..
في البداية لا بد أن يكون هناك قراءٌ مترجمون للنص بدقة.. لنعرف من أبلغه إلينا كما هو، ومن (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)، و(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ).
مدرسة أهل الرأي لم تعطِ هذه الخاصية حتى للنبي (ص)، ودليلهم فيها قصة تأبير النخيل، بالرغم من أن الله تعالى قال ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
والاجتهاد لم يتوقف عند مسألة تأبير النخيل، وإنما تطور ليُرجَّح كل اجتهاد ميّز أصحاب المذاهب المخالفة عن مدرسة أهل البيت (ع) مقابل تبيان النبي (ص)، بالرغم من اعتراض الشيخ المحدث الألباني لذلك في أكثر من مورد.
فيما مدرسة أهل البيت (ع) عملت بوقفية تبيانه إلى المنصوص عليهم، ولهم كثير من النصوص التي تؤكد ذلك، ومنها مثلاً (( علي مع القرآن والقرآن مع علي))، وقوله (( معاشر الناس إِني أُدعى فأجيب، وإني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إِن تمسّكتم بهما لَنْ تضلُّوا، وأنهما لن يفترقا حتى يَردا عَلي الحَوض، فتعَلّموا منهم، ولا تعلّموهم، فاِنهم أعلم منكم، ولا تخَلو الأرض منهم، ولو خَلَتْ لانساخت بأهلها)).
وبالرغم من اختلاف فقهاء تلك المدارس مع أئمة أهل البيت (ع)، إلا أنهم لم يتهمهم أحد من أولئك الفقهاء أنهم جاءوا بما يخالف شرع الله أو دينه أو سنة نبيه، وإن رد بعضهم عليهم، فإنه لم يدع أنه يقول قول الله، وسنة رسوله، وأن ذلك الإمام قد خالف قول الله وشريعته وقول نبيه (ص).
ولذلك.. فإننا عندما نريد أن نعرف إن كان الواقع يسير بتلك القيم والمثل والشرائع التي جاءت في شريعة المشرع (الله سبحانه وتعالى)، فلا مفر من اللجوء إلى معرفة موقف أولئك الذين نُصَّ عليهم للقيام بتلك المسؤولية.
المرحلة الأكثر حساسية بعد وفاة النبي (ص) تكفَّل بها علي (ع)، وقد حظي بنصوص واضحة وصريحة من النبي (ص) في حقه، تؤكد دعوانا تلك: (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أحب أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي- وهي جنة الخلد- فليتول عليا وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة )).
معارضة الآل لاجتهاد الخلفاء:
موقف الإمام علي (ع)، وكذلك السيدة الزهراء والإمامين الحسنين (ع) من تلك المرحلة الممتدة من عهد أبي بكر إلى عهد عثمان، وما كانوا (أي الخلفاء) يخطئون أهل البيت(ع)، بل كانوا يسعون إلى إرضائهم، بدلاً من اتهامهم بمخالفة أحكام الله وشريعته، وأقوال نبيه (ص).
نعم.. ادعى الخليفة الأول أنه اتبع قول النبي (ص) في أن الأنبياء لا يورثون، ولكن السيدة الزهراء (ع) ردتْ عليه السيدة الزهراء بحُجج محكمةٍ من الآيات وأقوال النبي (ص)، وكانت ملحمة فقهية رائعة في خطبتها الشريفة، حتى أعاد لها حقها في كتابٍ من قبله، ولكن نائبه الأول الصحابي عمر بن الخطاب رفض ذلك بشدة، ووافقه الخليفة على ذلك.. إلا أنهما جاءا يعتذران للزهراء عندما حانت وفاتها، فأشهدتهما على أن رضاها من رضا الله وغضبها من غضبه، فأقرا ذلك، فأكدت أنها لا زالت على موقفها منهما.
فإذن، ما حدث لم يكن اجتهاداً مقابل اجتهادٍ، وإنما اجتهاد مقابل نص، وهناك سعي جاد إما لتبرير ذلك الاجتهاد، أو المجاهرة وعدم المبالاة بمخالفته.
الموقف من معاوية وعدوانيته:
وهكذا عهد معاوية من قبل الإمام أبي محمد الحسن المجتبى والإمام أبي عبدالله الحسين(ع)، حيث اتخذ الجميع في تلك الحالات جانب المعارضة السلمية، بعناوين مختلفة، منها ما قاله أمير المؤمنين (ع) (( لأُسالمنَّ ما سلمت أمور المؤمنين، ولم يكن فيها جورٌ إلا علي خاصة))، فيما قال الإمام الحسن (ع) (( إنما أردتُ أن أبقي عليكم))، ملفتاً أن معاوية كان مشروعه قتل شيعة علي، وتتبعهم كقوله ((برئت الذمّة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته)) وأمرهم بلعن الإمام علي "ع" على كلّ منبر وأن يبرؤوا منه ويقعوا فيه وفي أهل بيته، وقال أيضاً ((ثمّ كتب إلى عمّاله أن الحديث في عثمان قد جهر وفشا في كلّ مصر وكل وجه ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين .. ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب ، إلاّ وأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبّ إليّ وأقرُّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدُّ عليهم ))، فيما زاد على ذلك بفرمان أشد تنكيلاً يقول فيه ((انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه بحبّ عليّا وأهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه.. وشفّع ذلك بنسخة أخرى من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره .. فاشتدّ البلاء على شيعة عليّ "ع" وخاصة في العراق ولا سيما بالكوفة )).
الحالة اليزيدية، وخصوصيتها:
مرحلة يزيد هذه تختلف عن تلك الحالات السابقة، حيث ما كان يُقال سابقاً في المجالس الخاصة، وما يُخجل أن يسمعه الناس، وما كان يؤتى بأساليب التفافية كوضع الأحاديث فيه، وإظهاره كمطلب شرعي لم يتحرج الحاكم من المجاهرة بالكفر وبأشد الأمور إغضاباً للمسلمين، وأشدها جاهلية، وذلك لم يتفرد الإمام الحسين (ع) بتلك الرؤية فيها، بل حتى زياد بن أبيه الذي انتسب إلى أبي سفيان كان يحذر معاوية من تعيين يزيد، وهكذا كانت السيدة عائشة.. وكل كبار المسلمين (ع)، ولكن لم يكن لديهم أكثر من أن يزيد غير صالح للحكم، ولكن الإمام الحسين(ع) قدم موقف المشرع، والتكليف في إزاء تلك الحالة اليزيدية.
حالة تبديل النعمة هذه بلغت (( على الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد))، ما يفرض عليه أن يتحرك إلى أقصى درجة يفرضها الرفض، ولو أدى إلى الشهادة.
الحالة التي يتحدث عنها الإمام الحسين (ع) بحاجة إلى موقف لكي لا يدخل مشروع التبديل الخطير الذي جاء مع يزيد في صميم تلك الشريعة، ويُقرأ على أنه من طبيعتها.
وهذا يشابه ما نراه الآن في العالم، للصمت المخجل إزاء ما تقوم به الصورة الوجه اليزيدي الآخر، والمتمثل في داعش والقاعدة وطالبان وجبهة النصرة.. بل إن أكبر مؤسسة دينية مسموعة في العالم الآن أو يراد لها ذلك تتبنى الخطاب الأموي، والفكر الأموي، والفقه الأموي، القائم على إقصاء الآخر واستباحت حرمته واستئصاله..
(( الإمام المبيِّن )): شارحٌ بلغة الشهادة:
وقد تصدى الإمام الحسين (ع) باعتباره المبيِّن المنصوص عليه (( الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)) بنفسه لتقديم قراءته ومعالجته القائمة على أصول وقواعد تلك الأصالة، حيث خوِّل تبيين نصوص الوحي لذلك الواقع، ولكن ليس بلغة المعارضة السلمية كما هو في السابق، ولا الانكفاء إلى أن تنجلي الغمة، أو يرى الناس كفره ونفاقه لتجتمع الناس عليه.. فالمشهد الآن لن تنجلي حقيقته إلا بشهادة الحسين (ع)، ولا يُتاح لغيره سانحة خلق الأجواء المضادة بكل طاقتها، حيث هو بقية (أصحاب الكساء)، وريحانة رسول الله، ومن شهده من أهل بيته.
لذلك كانت كل خطبه ومواقفه تنحو إلى ذلك الاتجاه، وقد شرع بذلك بوصيته لأخيه محمد بن الحنفية والتي افتتحها بمشروع القيام، حيث قال (( ما خرجتُ أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، وإنما خرجتُ لأجل الإصلاح في أمة جدي..
خرجتُ لكي آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي أصبح حتى يحكم الله بين وبينه والله خير الحاكمين)).. مشترطاً قبوله بقبول الحق.
فإذن.. خروجه للأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر.. يعني قيامه.. يعني ثورته، والتي حملتْ عنوان (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، كأولوية، ومن ثم (( وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)) كناتج لتلك الأولوية.
في موارد أخرى ومتعددة تناول العديد من تفاصيل ذلك الواقع الذي فرض عليه الخروج، حيث قال: (( من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنة رسول الله صلى الله عليه وآله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله))، وذلك لأن أولئك القوم (( قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله))..
بل إن ذلك الجور ليس هو أقصى حدود ما تُنتجه سلطة يزيد وهيمنته على الأمة، بل إن الخطورة بلغت المساس بأصل الإسلام ووجوده، كما في قوله (ع): (( فعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد)).
سبب ذلك أن: ((الحق لا يُعمل به، وأن المنكر لا يُتناهى عنه))، و(( البدعة قد أُحييتْ والسنة قد أُميتت)).
بل إن يزيد ذاته بما كان يقوله، وبما قام به يؤكد أن حاكميته دشنت مرحلة جديدة، وهي مرحلة الإعلان عن الرسمي عن تلك المشاريع التي تدثرت سابقاً بخطابٍ ديني، أو برواية.. حيث مرحلة معاوية مشروع تهيئة الأجواء والأرضية، وإيجاد القابلية والمقبولية لدى الأمة لاستيعاب المرحلة اليزيدية، وما تختزنه من مخاطر وكوارث، ابتدأها يزيد بقتل الإمام الحسين (ع)، وأفصح بعد أن بلغ بجرأتها ما كان يريده بإنشاده أبيات ابن الزبعرى بقوله:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا
لأهلوا واستهلوا فرحاً
قد قتلنا القِرمَ من ساداتهم
لستُ من خندف إن لم أنتقم
لعبتْ هاشم بالملك فلا
جزع الخزرج من وقع الأسلْ
ثم قالوا يا يزيد لا تُشلْ
وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ
من بني أحمد ما كان فعلْ
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ
نعم.. ثار الإمام الحسين (ع) وتحرك بحجم ذلك الخطر كما قلنا، وقد ظن العديد من وجهاء الأمة أنه (ع) يمكن الانحناء لذلك الواقع، وأنه يمكن تجاوز مخاطره، بالرغم من أن كل مقدماته لا تعطي ذلك الانطباع، ولا تخدم هذا التصور، والدافع حقيقة هو الخوف من قرار الخروج.
ولكن عندما شاهد عبدالله بن حنظلة تلك الفضاعات والاستهتار الذي بلغه يزيد عرف تحديداً بأن ثورة الإمام الحسين (ع) تلمس التكليف الشرعي مباشرة، حيث ((وقف.. أمام أهل المدينة وخاطبهم: «فو الله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة))، ثار ثورة المنفعل، وليس عودة العالم بزمانه، فتسبب في كارثة تاريخية عظمى على أهل المدينة، لتنتهي بكارثة استباحة المدينة لجيش يزيد، وقتله للصحابة والقراء وهتك أعراض نساء مدينة الوحي.. ثم ثلث يزيد في السنة الثالثة بداهيته الثالثة، عندما أقدم على هدم الكعبة.. هذا معنى (( فعلى الإسلام السلام إذ قد بُليتْ الأمة براعٍ مثل يزدي)).
نعم.. ثار الإمام الحسين (ع).. ألقى خطاباته.. ووجه رسائله، وتحدث عن التغيير، وقال (( وأنا أحق من يُغيِّر)).
فإذن تلك الثورة كانت بقيادة أفقه أهل زمانه الإمام أبي عبدالله الحسين(ع)، ولذلك لم يكن أحد يجادل الإمام الحسين (ع) في مشروعية قيامه، ولا في موقفه من يزيد، ولا في فسق يزيد، ولا في فجوره، ولا في ذات مشروعية القيام؛ وإنما تركز على خوفهم على الإمام الحسين (ع)، وخوفهم من فجور بني أمية في خصومهم، والتجربة المُرَّة مع أهل الكوفة.
كل ذلك قرأه أهل زمان الإمام الحسين (ع).. وهكذا الأئمة عليهم السلام، ولكن لأن واقع الأمة المبتلى بهيمنة الحاكمية الأموية والثقافة الأموية.. والمجتمع الأموي.. حيث الأقلية المستهدفة بأسوأ وأشد الأساليب وبشاعة ووضاعة وخسة كان فقه التقية الأكثر حضوراً وفاعلية، ولكن الإمام الحسين(ع) رسم حد التقية، وسقفها، ومرحلة أخرى تقتضي مواجهة وصداماً وتضحية وفداءً.
إلا أن غلبة ظروف التقية على الواقع الشيعي غيب الجهود لإنتاج فقهٍ يتناسب ومقاصد ثورة فقيه النص أبي عبدالله الحسين (ع).. فيما يكاد ما لدينا من فقه مفصل عن التقية يزيد عن الحاجة.
وهكذا أيضاً فقه الإحياء.. إحياء أيام الحسين عليه السلام، فقد تم تغطيته بفقه يتناسب وحضوره في الكيان الشيعي.
ولكن ذلك الإحياء لم يُغطَّ بتفاصيله، وإنما بحدود شرعيته فحسب، لنراه الآن قد تجاوز خصوصية الإحياء وغاياته، لتُنتج أساليب تتعارض مع قيم الثورة، حيث وصل بنا الحال ما نراه اليوم، لو عددناه لشعرنا بالخجل، ولظننا لو قرأنا ذلك في غيرنا أن جماعة الإحياء هؤلاء إحدى فرق جيش عمر بن سعد التي قاتلت الحسين (ع).
كيف يُنتج فقه الثورة؟
أول ما نواجهه في فقه الثورة هو توثيق الوقائع والخطابات، حيث السند والخطاب، والثورة.. المواقف.. الدوافع والحسابات.. و.. و..
حيث يُعنى الفقهاء كثيراً في العمل الاستنباطي بأسناد روايات الأحكام، ودرجة صحتها، ومكان حضورها، وفعلها وفاعليتها.
فهل يمكن في ظل ما يلف أغلب المقاتل التي تستحضر روايات الثورة من إرسال أن يتولد فقه يمكن أن يقرأه الفقهاء، ويتعاطون معه بجدية؟!.
لنقرأ كربلاء.. لنقرأ أحداثها.. وما يمكن أن نتوقف فيه، وما يمكن أن نسلِّم به، وما يمكن أن يصلح فقهاً، وما يمكن أن يكون بحدود البكاء والذكرى والمناحة.
في البداية لا بد من الإشارة إلى وجود روايات عديدة عن أهل البيت (ع) في مقتل أبي عبدالله الحسين (ع)، وقد اهتم بها تحديداً الشيخ الصدوق كونه كبير المحدثين في زمانه، ليكتب من خلالها كتاباً في مقتل الحسين (ع)، كما أشار إلى ذلك الأستاذ المساعد بمؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث بقم المقدسة محسن رنج بر، في دراسة قيمة بعنوان: (( دراسة حول المقاتل والمصنفات العاشورائية منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر))، وهذا لفظ ما قاله عن كتاب الشيخ الصدوق:
((مقتل الحسين عليه السلام - الشيخ الصدوق (م 381 هـ) مع ملاحظة انتشار مذهب المحدّثين بين العلماء القميّين، فقد كان مقتل الشيخ الصدوق يعدّ كتاباً حديثيّاً مثل بقيّة كتبه الروائيّة، وقد نقل أغلب الروايات- إن لم نقل جميعها- مسندة إلى المعصومين عليهم السلام لا سيّما الإمام السجّاد عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام, ولو أخذنا بعين الاعتبار الاحتياط الذي كان موجوداً عند محدّثي حوزة قمّ في القرن الثالث والقرن الرابع- حيث كانوا يرفضون الأحاديث الضعيفة، بل وينتقدون المحدّثين الذين ينقلونها - فهذا يعني أنّ هذا المقتل، بالمقارنة مع المقاتل الأخرى، يحتوي على مقدار قليل من الأحاديث والروايات غير المعتبرة، وقد بقي هذا المقتل متداولاً حتّى القرن السادس، ونقل عنه ابن شهرآشوب)).
http://www.almaaref.org/books/******...ge/lesson1.htm
وهناك مؤلفات من قبل أصحاب الأئمة عليهم السلام، تناولت واقعة كربلاء كما في ذات المصدر أعلاه، حيث ذكر:
1- مقتل الحسين عليه السلام) جابر بن يزيد الجعفيّ. كان من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام وتوفّي في العام 3128..
2- تسمية من قُتل مع الحسين عليه السلام من ولده وإخوته وأهل بيته وشيعته) الفضيل بن الزبير الرسان الكوفيّ (من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام.
3- مقتل الحسين عليه السلام) القاسم بن الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ.
فإذن هناك روايات بحجم إنجاز كتابٍ عن واقعة كربلاء عن أئمة أهل البيت (ع)، فيما هناك مسلمات لا يمكن الفرار منها، ولا يمكن القول بخلافها في سيرة أبي عبدالله الحسين (ع) وجهاده وشهادته وما جرى بعد ذلك من أحداث، وهي ما يُسمى في الخطاب الفقهي بـ(( القدر المتيقن)).
فالإمام الحسين (ع) ثار على يزيد، وتحرك إلى قتاله، بنفسه وأهل بيته، ولا يتناسب مع تلك الأحداث والوقائع إلا ذلك الخطاب الذي ألقاه هو، ونُسب إليه في المقاتل الأولى، ولم يأتي في أغلبها بمعارضٍ إلا في بعض المصادر المتأخرة، والأمر أيضاً يشمل ما ألقاه الإمام زين العابدين عليه السلام والسيدة زينب ومن كان في موكب الأسر.
فإذن.. هناك روايات كثيفة عن أهل البيت (ع) تناولت ثورته ومظلوميته، ولم تكن بحدود إحياء ذكراه فحسب، وثواب ذلك، بالرغم من أن لذلك الإحياء منشأ شرعي، وهو الثورة ذاتها.
وبالتالي فإن المادة الفقهية موجودة، وقادرة على تزويد الفقيه بالمادة التي يحتاجها في عمله الاستنباطي في إنتاج فقه الثورة، أو فقه (( جهاد الظالمين)).
ومع افتراض مواجهتنا لمشاكل في الرواية وأسنادها، فإنه يمكننا من خلال قراءتنا لذلك الإرث الروائي الكبير أن نبحث في القرآن الكريم، وفي المأثور الروائي– الصحيح والمعتبر- عن أهل البيت(ع)، وسنجد لكل رواية لواقعة كربلائية أو لخطبة هناك ما يعزز قبولها، ويجعلنا نقطع بصحة وقوعها وصدورها في كربلاء، بعنوان السياقات التاريخية والقرائن المتعددة، وعدم وجود التعارض فيها، ليساعدنا في ذلك على فهم فقه عاشوراء الحسيني، وكذلك المباني الفقهية والعقائدية لتلك لكل وقائع عاشوراء.
ماذا يقرأ الفقيه في كربلاء؟
الملفات التي يمكن للفقيه أن يقرأها لا تخص فقط العناوين التي خصها في خطابه، وإنما يمكن أن تتناول العديد من أبواب الفقه، وحتى قواعد الاستنباط.
ولكن لأننا في مناسبة خاصة، فإن العناوين التي تخصها عديدة، ومنها: باب الجهاد، بكل وجوهه: الدفعي والابتدائي، والاستماتة وما يُعرف الآن بالعمل الاستشهادي، ووجوب الحج والاستطاعة إليه، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرائطه، والحفاظ على بيضة الإسلام، وجهاد المرأة ومدياته، وولاية الفقيه، وقضايا أخرى، يمكن قراءتها من خلال تفاصيل ووقائع ثابتة ومؤكدة في كربلاء.
وهكذا أيضاً في الأصول، التي يمكن أن يُشتق الكثير من المسائل من خلالها، كقاعدة التزاحم، وقاعدة تعارض الأمر والنهي، وقاعدة النفي الحرج والميسور، و...و...
ولو حظيتْ كربلاء بتلك الدراسات الموسعة والتأصيل الفقهي والأصولي بالحجم اللائق بها لكان لدينا وعياً فقهياً يفوق وعينا للتقية التي كُتب فيها وأفتي فيها كثيراً.
قراءات فقهية منتجة:
المتابعات التي قمت بها وجدتُ بعض القراءات الفقهية، أو لنسميها وفق الخطاب الحوزوي ((بحث فقهي)) معمق، ومعالجات وتأصيلات فقهية تعتمد على واقعة كربلاء، ونطلق عليها مثلاً فقه الإمام الحسين (ع) في كربلاء، ولكنها غير كافية لإنتاج ثقافة بحجم الثقافة التي أنتجتها العديد من المسائل الفقهية، ولو متأخراً، كفقه جواز الخروج في الغيبة الكبرى، وفقه التقية، وفقه المشاركة السياسية، وفقه المعارضة، و... و... .
وعندما نقرأ جهاد العلماء في إيران والعراق من ثورة العشرين إلى ثورة الإمام الخميني، وجهاد الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، والإمام الخامنئي وحزب الله فإننا نجد الحسين (ع) حاضراً بحراكه وثورته وخطابه، والوعي الذي قدم روحه من أجل إحياء أمة جده به.. نعم.. هكذا أنتجت ثورة كربلاء بعد أكثر من ألف وثلاثمائة عامٍ.. صنعوا فقه المواجهة.. والمقاومة بصريح عباراتهم.
إلا أننا لم نقرأ فقهاً مدوَّناً لذلك الحراك الذي غير وجه الدنيا، وأوجد معادلات جديدة في السياسة والعلاقات الدولية.
فقه الإمام الحسين في مكافحة الطغيان:
لدينا تصورٌ واضحٌ لذلك الواقع الذي قدم الإمام علي والإمامين الحسنين (ع) صورة التعاطي معه، في مده وجزره.
طريقة التعاطي مع معاوية في عهد أمير المؤمنين (ع) يختلف عن طريقة تعاطي الحسنين معه، حيث الإمام علي (ع) كان هو الحاكم، وخيار الأمة الذي جاءته بمحض إرادتها، في حين أن الإمامين الحسنين (ع) وقعا ضحية خذلان الناصر، وطريقة في الحكم، قد استُخدمتْ فيها كل أساليب المكر والخبث والتصفية الجسدية الممكنة.
ولكن السؤال هنا، ما الفرق الذي دفع الإمامين الحسنين (ع) للانكفاء عن مواجهة معاوية، في حين اختار الإمام الحسين (ع) المواجهة المباشرة ليزيد؟
بتصفح التاريخ لاحظتُ أن هناك ظاهرتين:
الأولى: أن معاوية خص في مواجهاته وأعمال القتل شيعة علي (ع)، ومن يشكل خطراً عليه أو على ولاية العهد لابنه يزيد.
الثانية: أن معاوية وإن لم نقل عنه أنه ممثلاً للمنهج البكري والعمري، ولكنه كان يقبله ويتعاطى معه باعتباره ذاتاً يشكل منهجاً نقيضاً لنهج علي (ع)، وبالتالي فهو يحظى بتأييد الاتجاه العمري، وأيضاً بمقبولية ما للطريقة العثمانية في ذلك التيار، كون الأولين لا يتعاطان الشأن السياسي بطريقة ملكية.
وهذا النهج، وإن تجاوز الكثير من الدوائر الخطرة إلا أنها لم تكن للإسلام مباشرة، وهذا ما يمكن معالجته بالتقية والمداراة.
وهذا ما أنجز رؤية فقهية أوجد منهجين متوازيين على مدى التاريخ الإسلامي.. منهج ظهر متمكناً في أغلب مراحل التاريخ إن لم تكن كلها إلا نزراً يسيراً، ومنهج ظل يبتعد عن الصدام مع معرفة الحكام والسلاطين به، إلا أنهم لا يتوجهون له ما دام منكفئاً عن المواجهة.
ولكن الحالة اليزيدية لا يوجد لدينا فقه لمعالجتها، باعتبارها تشكل الظروف ذات السقف الأعلى، وهو في النتيجة مساحة فارغة تبحث عن خطابٍ وفقه شرعيين.
ثمرات هذا الفقه:
عندما نتحدث عن ثمرات فقه الإحياء فإن أقرب صورة ماثلة لدينا هي محافظتها على ذات الموقف الحسيني من الكيان الأموي الدموي، وهذا ما أدى أن يتصرف الأمويون الطغاة بذات السلوك اليزيدي تجاه المتضامنين مع الحسين ومواقفه ورؤاه.. حيث شكلوا التزاماً عقائدياً أبدياً مع الحسين تجاه كل المظاهر اليزيدية المعاصرة لهم..
وبالتالي فإن خطاب وفقه (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) غير موجودٍ سوى في مدرسة أهل البيت (ع)، وذلك بفضل حضور الحالة الحسينية في وعيهم وعقيدتهم.
نعم يُذكر هذا في الخوارج الأوائل، ولا نعلم عنه في الأواخر، ولكنهم أيضاً حاربوا وجه العدالة المتمثلة في أمير المؤمنين (ع)، بالرغم من إقرارهم لعدالته وفقاهته، ولكن حاربوه لأنه لم يكن يذهب إلى ما ذهبوا إليه في مسألة حرب معاوية، مع أنهم هم من فرضوا عليه وقف القتال والمصالحة مع معاوية.
ولكن لو حظي فقه الإمام الحسين (ع) في تعاطيه مع الحالة اليزيدية فإنه كان بالإمكان ألا نجد المظاهر التي شطتْ بعيداً عن المشروع الحسيني ومساعيه الإصلاحية..
نعم.. ففي الوقت الذي يفتتح الإمام الحسين (ع) ثورته بمشروع الإصلاح نجد هذه المسألة غائبة تماماً في التعاطي مع قضية الإمام الحسين (ع)، إلى درجة تجد بعضهم يذهبون بعيداً عن الحسين (ع) إلى أبعد الحدود، فيما يتم تقديم الدعاة المصلحين كيزيديين تجاه الحسين (ع) وثورته.
عدم وجود ذلك الفقه أفضى إلى ملء مساحته المصيرية باجتهادات لا سقوف لها، لنجد ممارسات كالنطح والنباح.. وتعذيب الجسد بألوان الممارسات الطقوسية القاسية، وكأنها سلوكيات من يُعرفون بأهل السلوك والطرق الصوفية.
لا أريد أن أستخدم عبارات مستفزة لأحد، ولكن بالتأكيد أن هذه الممارسات تولدت نتيجة غياب ذلك الفقه.. لأننا عندما نظل نراوح مكاننا مئات السنين، حتى مع توفر ظروف التقدم للأمام فإننا قد أتحنا للاجتهادات المنفلتة لتوليد طقوس على أنقاض تلك الحقائق التي لم تعش فينا بطبيعتها، لتجديد الحياة في ذلك المنطق الذي لولا تلك الاجتهادات لكنا في ظروفٍ أفضل.
ثورة الإمام الحسين (ع).. هل هي خاصة به؟
هناك منطق يروج لهذه المسألة، ويعيشها، ويسوِّق لها، ولن أشتغل هنا في جدلٍ للرد والنقض والإبرام؛ فهو بالنتيجة رأي، وله مناصرون، ولكن ثماره غائبة تمامة عن التأثير في الواقع أو صناعته.. ولكن الذي أتمناه أن تولد قراءة نقيضة تنتج وعياً وفقهاً خلاقاً ومؤثراً وصانعاً بحجم تلك التضحيات الجسام الذي ضحى من أجلها أبي عبدالله الحسين (ع).
خطاب الإمام الحسين(ع) لم يكن موجهاً إلى خاصة، ولم يكن فيه خاصية المقام الذي خصه الله به.. بل كان موجهاً إلى الأمة.. وإلى كونه الأولى بمسؤولية التغيير، كون ذلك مسؤولية إلهية على عاتق العلماء.
يقول أمير المؤمنين(ع): (( ومَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ ألا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُوم)).
وقول الإمام الحسين(ع): (( اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) وقال ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وإنما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله يقول ( فلا تخشوا الناس واخشونِ)، وقال ( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أُديت وأُقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظلوم ومخالفة الظالم)).
ثم وجه خطابه إلى العلماء بشديد عتابه بقوله (( ثم أنتم أيتها العصابة.. عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك، وكرامة الأكابر.. أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقه تُقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم.. فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله.. أنتم تتمنون على الله جنته، ومجاورة رسله وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل لكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضلتم بها، ومن يُعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون، وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) محقورة)) تحف العقول 169-170.
فضلاً عما تقدم كل خطابه يتوجه إلى الناس، ودعوة إلى الناس، وقد فعَّل الإمام الراحل قدس سره هذا الخطاب فأنجز به، وحقق ذات الوعد الذي يتنجز من ذلك الخطاب والعمل.
وتلك الثورة وخطابها عندما يتحقق بأي درجة مهما استقللناها فإن ذلك يعني أن ثورة الإمام الحسين (ع) ليست خاصة بالمعصوم، وإلا لم يكن ليتحقق شيءٌ منها، حتى ذلك القليل، وهذا ما يرفع دعوى الخصوصية تلك، وإن كانت كخطوة يُقرأ من خلالها خطاب الشارع لا بد أن تتوقف عليه؛ وإلا لاعتبرناها عملاً اجتهادياً يمكن أن تُنقض برأي آخر.. في حين أن قيام الإمام الحسين (ع) بها، وكونه المشمول بقوله تعال ( لتُبين للناس ما نُزِّل إليهم)، في قوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) يؤكد ضرورة تقديم الإمام الحسين (ع) موقفه للأمة لتعرف تكليفها، وهذا ما أكدناه في بداية كلمتنا هذه.
دراسات فقهية مدونة:
هناك بعض الكتابات والدراسات، ولكنها كما مر ليست بحجم المأمول، وقليلة جداً، ولا يكاد يعلم بها إلا قلة، وبعد بذل الجهود للتعرف عليها، وأمامي حسب ما اطلعت عليه ثلاث دراسات، وهي:
1- المباني الفقهية لثورة الإمام الحسين بن علي (ع)، دراسة في الفقه السياسي المقارن، للشيخ عبدالإله نعمة الشبيب
2- الحركة الحسينية والتأصيل الفقهي لشرعية الثورة قراءات ومتابعات، الشيخ حيدر حب الله.
3- عاشوراء والفقيه… قراءة في تأثيرات النهضة الحسينية على الفقه السياسي الشيعي، الشيخ عدنان الحسان الرميثي.
4- نهضة عاشوراء، دراسة كلامية فقهية سياسية، لمجموعة من الباحثين، من 712 صفحة، وقد أخذت الدراسات الفقهية منه مساحة كبيرة، من صفحة 295، إلى صفحة 471، وبالعناوين التالية:
أ- الرؤية الفقهية والحقوقية لثورة الإمام الحسين (ع)، مصطفى مير أحمدي زاده، ترجمة رضا شمس الدين، من ص 297، إلى 354، أي 57 صفحة.
ب- التقييم الفقهي لنهضة عاشوراء، نور الدين شريعتمداري الجزائري، ترجمة أحمد فرحات، من ص 363 إلى 395، أي 32 صفحة.
ت- البحث الفقهي لشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ثورة الحسين (ع)، محمد رحماني زروندي، ترجمة محمد إسماعيل، من ص 401 إلى 431، أي 30 صفحة.
ث- دور ثورة الإمام الحسين(ع) في تعزيز فقه المواجهة مع الطاغوت، جواد فخار طوسي، ترجمة نوفل بنزكري، من ص 437 إلى 465، أي 28 صفحة.
ج- المباني الفقهية للعزاء، عباس كوثري، ترجمة زين العابدين شمس الدين، من ص 473 إلى 498، أي 25 صفحة.
ولا شك أن هناك دراسات وبحوثا لم تصل إلينا، أو لم تُترجم، ولكنها لم تصل إليها، وفي مجملها لا تصنع تحولاً حقيقياً وجذرياً في الدراسات الفقهية.
ولكن مهما كان الواقع يفرز لنا صورة غير مشجعة، إلا أننا أمام تحول كبير، لا يمكن أن نرجع إلى الوراء، مهما كانت المحاولات كثيرة وضخمة لمنع الوصول إلى ذلك.
مرحلتنا التي نعيشها تختلف عن مرحلة السيد محسن الأمين قدس سره، حيث تلك المرحلة حصرت الحراك في العراق ولبنان، وفي حدود مجتمع الحوزة، ولكن مرحلتنا هذه فقد تجاوزنا مرحلة التقليد المحضة، والتعاطي مع رجال الحوزة كملهمين، لا يمكن مناقشتهم، أو مساءلتهم.
مرحلتنا هذه لا يكاد حوزوي يتحدث عن هذه المسائل المثارة إلا ويجد من يناقشه.. ومن يجادله.. من كلا الفريقين.. الرافض لتلك الممارسات والمؤيد لها.. ولن تتوقف هذه المرحلة حتى تتكشف فيها طبيعة بناء هذا الفريق أو ذاك، وقدرته على إقناع مجتمعه والأجيال اللاحقة، وإن كان الانفعال الخارج على السيطرة، وعن أصول البحث والمناقشة، والاستعانة بالضعيف والموضوع والقياسات الباطلة، وارتفاع حالة الركون إلى الأحلام والرؤى في المؤيدين يفصح عن أزمة دليل لديها.
وعندما تحضر تلك الدراسات، وتتمكن من إنتاج واقعٍ حقيقي ومؤثر فإننا بإذن الله سنتجاوز مرحلة المخاض هذه التي نمر بها إلى ما يفقد صُنَّاع الأساطير لرفد رؤاهم في قراءة المشهد الحسيني وثماره.
أسأل الله أن يحظى هذا الأمر بالاهتمام اللائق، لنرى واقعاً مختلفاً، شهدنا علامات تغيره من خلال الثورة الإسلامية والمقاومة الإسلامية في لبنان.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
جلسة محرم 1438هـ