النهضة الحسينية عند المؤرخ: مسكويه
* عيسى مبارك الربيح
يعد مسكويه أبرز مؤرخ في القرن الرابع الهجري ، وله تجربة مائزة عن غيره من المؤرخين ، جعلت تاريخه الموسوم بـ(تجارب الأمم) يحظى بما لم تحظ به كتب المؤرخين ، وظل كتابه حبيسا لم ير النور ، ولم يأخذ حقه من التحقيق والنشر ؛ حتى قام المستشرق (كايتاني) بنشر الجزء 1 و5 و6 في عام (1909، 1913،1917م ) .
ثم قام المستشرق (ايمدروز) بنشر الجزء 5 سنة 1914م ، وقد نشر بالقاهرة .
كما قام (مار غليوث) بنشر ترجمة انكليزية ، وأصدرت في 7 مجلدات في اكسفورد عام 1920 – 1921م .
ومؤخراً أصدر الدكتور الإيراني أبو القاسم إمامي الجزأين بطهران عام 1987م .
إضافة إلى نسخة بمكتبة اسطنبول من نسخ أبو طاهر البلخي نسخها عام 550هـ .
أما عن التسمية فعنوان الكتاب (تجارب الأمم) وقد أضاف الدكتوران حسن منيمنة وعبد الله العروي عبارة (وتعاقب الهمم) تماشيا مع السجع المعهود لدى الأقدمين .
وقد طبع مؤخراً 2003م بتحقيق سيد كسروي حسن في 7 مجلدات ، وهي النسخة التي ننقل منها اقتباساتنا في هذا المقال .
# من هو مسكويه ؟
هو : أحمد بن محمد بن يعقوب أبو علي الخازن الرازي الملقب بـ(مسكويه) . ولد ما بين سنة 320-325هـ بالري في إيران ، وتوفي سنة 421هـ . وكان جلساؤه من كبار أهل العلم والأدب ، كالوزير ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمداني .
ومن الفلاسفة الفارابي وابن سينا .
ومن المؤرخين البيروني وأبي الوفاء البوزنجاني .
وقد برع مسكويه بالفلسفة وفلسفة الأخلاق ، إضافة إلى مؤلفات في الطب والرياضيات والمنطق .
كما لقب بالمعلم الثالث .
# مصادر تاريخه :
1ـ تاريخ الطبري ( 224- 310هـ ) .
2ـ نفائس مكتبات البويهيين .
3ـ معايشته للفترة التاريخية (شاهد عيان وناقل من مشائخ ورواة تلك الحقبة) . حيث قال مسكويه عن نفسه :
" أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة (340هـ) فهو مشاهدة وعيان ، أو خبر محصَّل (...) وحدثني كثير من المشائخ ... " (تجارب الأمم ج1ص53) .
لذا يعد مصدرا أساسيا لهذه الحقبة ، ومن مؤرخي دولة البويهيين بامتياز .
# منهج مسكويه التاريخي :
قال مسكويه في مقدمة كتابه (تجارب الأمم) :
" وإني لما تصفحت أخبار الأمم ، وسير الملوك ، وقرأت أخبار البلدان ، وكتب التواريخ ، وجدت فيها ما تُستفاد منه تجربةٌ في أمور لا تزال يتكرر مثلها ، ويُنتظر حدوث شبهها وشكلها ( ... ) ورأيت هذا الضرب والأحداث ، إذا عُرف له مثال مما تقدم ، وتجربة لمن سلف ، فاتُخذ إماماً يفتدى به ، حُذر مما ابتلى به قوم ، وتُمسٍّك بما سعد به قوم ، فإن أمور الدنيا متشابهة ، وأحوالها متناسبة ... " . ( تجارب الأمم ج1 ص59) .
حيث يركز المؤرخ على العبرة والتجربة المفيدة ، وفلسفة التاريخ من نشوء الدول وأسباب نموها أو زوالها .
فتاريخه ليس فقط مجرد ذكر الحوادث والحقب والشخصيات .
وقد درس الباحث حامد الخفاف منهج مسكويه في دراسة قصيرة مركزة ، وأخذ يعدد عناصر منهجه التاريخي ، قال :
" وتميز مسكويه بالانتقائية – من أحداث التاريخ- المبنية على الاستحسان " ( مجلة المنهاج ع16لعام1420هجري ص138) .
وهو بهذا يدرك جيداً أن عمل المؤرخ لا بد أن يبنى على الاختيار وفق منهج محدد ، لا على التقليد والمحاكاة لمن قبله ، أو الاستغراق في التكرار دون إضافة تذكر .
ومن المعروف أن طبيعة منهج الانتقاء يفرض على المؤرخ ، أن يبين للقارىء البواعث العامة والتي جعلته يترك أو ينتقي . بغية أن لا يقع المؤرخ في الذاتية ، أو إعطاء صورة ناقصة عن الحدث والحقب التاريخية ؛ والتي ربما أدت إلى التناقض والضبابية لدارسي التاريخ الذين يرتكزون في تحليلهم على مصدر المؤرخ التاريخي .
ومن خلال تسليط الضوء في هذا المقال ، سنجد أن مسكويه قد سقط – نوعاً ما - فيما الانتقائية المتحيزة والسلبية . والسبب ليس اتخاذه منهج الانتقاء والاقتصاد ؛ إنما لأنه لم يعط صورة متوازنة للتجربة التاريخية ، عبر إيراد النصوص المستوفاة للحدث ، والتي تعبر عن مقاصد الشخصيات وأهدافها .
فمن الضروري إعطاء مساحة من المقارنة والتحليل المبني على وفرة النصوص والوثائق والأحداث ، ليحكم القارىء بموضوعية وحيادية قدر الإمكان .
وقد اعتبر الباحث حامد الخفاف (مسكويه) في عداد المؤرخين الذين وفقوا في رسم صورة واضحة للأحداث والشخصيات والحقب عبر التزامه بمنهج الاقتصاد اللغوي – على حد تعبيره – حيث : " يعرض النص بالشكل الذي يؤدي إلى فهم الحدث (...) " وعبر تركيز مسكويه " على التجربة المستفادة بوصفها سبباً رئيساً لنقل النصوص التاريخية ، وهي عنده : العبرة المستوحاة من الحدث التاريخي ، ونفعها المستقبلي ، وتأثيرها على الأفراد والجماعات " ( مجلة المنهاج ص143) .
لكن هناك فرقا بين الاقتصاد اللغوي ، واختزال الأحداث . فالمهمة الفنية (الأسلوب التعبيري) غير مهمة رصد الوقائع . فالمؤرخ مرة يذكر الحدث مجملا ، ومرة مفصلا ، ومرة يختار أجزاء منه ، ومرة يشير إليه لماما ، ومرة لا يذكره البتة ، ومأنه - أي الحدث- لم يقع .
ولقد قدم الباحث الخفاف شواهد وأمثلة لكل عنصر منهجي في دراسته ، لكن يبدو أن مسكويه قد يتباين عنده تطبيق هذا المنهج (وهو الاقتصاد والانتقاء في رسم صورة واضحة للأحداث والشخصيات) ، مما يجعلنا نعتبر النتائج التي خرج بها الباحث الخفاف تكون في الأعم الأغلب عند تاريخ مسكويه .
وقد أشار الدكتور صائب عبد الحميد إلى ميزة في تاريخ مسكويه ، هي :
عنصر النقد التاريخي ، عبر تمحيص الروايات المختلفة ، واعتماد الشعر -أحيانا- .
لكن الدكتور يشير إلى أن هذه الميزة تكاد لا تنسحب فيما يتصل بتاريخ الإسلام؛ إذ يكتفي مسكويه برواية الطبري .
ويعطي الدكتور شاهدا على ذلك : " أنه اختزل السيرة النبوية كلها بحدثين فقط ، هما معركة الخندق ومعركة حنين ، فلم تتجاوز المساحة التي خصصها للسيرة النبوية أربع عشرة صفحة (... مع أن السيرة النبوية تعتبر) من أغنى السير بما يقتدى به ويستفاد تجربة ... " . (علم التاريخ ومناهج المؤرخين ص272) .
# صورة النهضة الحسينية عند مسكويه :
نهدف من عرض هذا الموضوع إلى دراسة المنهج الذي احتذى به مسكويه في تاريخه ، واكتشاف عناصر الخلل المنهجي عبر معالجتنا لهذا الموضوع .
شرع مسكويه في فصل (خلافة يزيد بن معاوية) بذكر الرسالة الأخيرة لمعاوية والتي يوطىء فيها لابنه يزيد أمور السلطة ، ويذكر فيها خوفه من أربعة نفر من قريش ، وهم :
1- الحسين بن علي
2- عبد الله بن عمر
3- عبد الله بن الزبير
4- عبد الرحمن بن أبي بكر .
وحيث أن هذه الوثيقة تعد مهمة لمن أراد أن يدرس طبيعة الشخصيات الكبرى والتي كانت في تلك الحقبة ، وتأثيرهم على الناس آنذاك .
لكن ما سنقع عليه من نصوص ووثائق يذكرها مسكويه لا تعبّر عن هذا الرؤية بالمعنى الشمولي والتي بدأ بها فصله ، فلقد ركز تاريخه على شخصية الحسين دون غيره من الشخصيات التي حذر معاوية ابنه منها .
وهذا بطبيعة الحال يفقد الدارس المقارنة بين ما تميزت به كل شخصية .
وإذا أتينا الى الفقرات التي تحدثت عن الحسين ، لم يأت -أي مسكويه- بنصوص أو أحداث تصب في إطار الغايات والبواعث الكبرى لقيام الحسين ضد يزيد ، إنما اكتفى بذكر حوادث وحوارات تعطي الدارس التاريخي صورة ناقصة عن الحركة والنهوض الذي قاده الحسين .
بعدها عرج على المشاورات التي كانت تقدمها أبرز الشخصيات للحسين بمنعه عن الذهاب للعراق .
وبالرغم من تشابه هذه الحوارات إلا إن مسكويه لم يأت بها كلها على تنوعها .
فنحن لو رجعنا لتاريخ الطبري ، فإننا سنقع على نصوص تذكر الباعث والمرتكزات الكبرى لنهضته .
وتجعلنا نقول وفق ذلك :
بأن ما اختاره مسكويه من هذه النصوص لا تعطي صورة واضحة لقيام الحسين ، بل على العكس تثبت أن الحسين لا يسمع لمشورة أحد ، ويهرب من مواجهة عدة إشكالات كانت تطرح عليه . وتعطي كذلك صورة بأن الحسين لم يتعظ ويعتبر من أبيه وأخيه وما فعله أهل العراق بهما .
ونستثنى من ذلك ما أورده مسكويه لنص قصير في جواب الحسين بعد إخبار محمد بن الأشعث بمقتل مسلم وهو في طريقه للكوفة ، قال :
" كل ما حم نازل ، وعند الله نحتسب أنفسنا ، وفساد أمتنا " .
حيث عبارة (وفساد أمتنا) تشير إلى أن هناك باعثاً كان يرتكز الحسين عليه وهو مسؤوليته الشرعية لإصلاح فساد الأمة الناتج من تحكم بني أمية .
وأيضا ما ذكره لنص للحسين وهو يخطب حينما أراد الكوفة وجيش الحر كان يصده عن مقصده :
" أيها الناس معذرة إلى الله ، وإليكم . إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت علي رسائلكم ، أن اقدم علينا ، فإنه ليس لنا إمام .
فإن كنتم على ذلك ، فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم ، وإن كنتم لمقدمي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم " . (تجارب لأمم ج2 ص38) .
حيث يعطي هذا النص الحجة التي أراد أن يذكّر بها أهل العراق ، والمسؤولية التي تنص على المشاركة بالنهوض لإسقاط الحكم الأموي ، وأنهم معنيون بهذا القيام .
والخلل المنهجي الآخر ، هو خلو تاريخ مسكويه من الخطب التي يرويها المؤرخون ، ومنهم الطبري ، - المصدر الذي يعتمده في تاريخه - فهو يتوفر على كم كبير من البواعث والغايات والتي يمكن للدارس أن يستند عليها في قراءته للحدث التاريخي .
وقد اكتفى مسكوية بذكر تعبير وصفي ملخص لإحدى خطب الإمام ، حيث قال :
" وأخذ الحسين يخطب القوم ويذكرهم الله ، ويدلهم على نفسه ومكانه عن النبوة والحكمة ، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة " . ( تجارب الأمم ج2ص40) .
فكل كلمة من هذا الملخص ، لو ذكر مسكويه ما تدل عليه بالنص والوثيقة ، حتما ستعطي الدارس التاريخي مستنداً كبيراً يعتمد عليه في تحليله .
ونحن نقر بأن مسكويه في جمعه لهذه الحقبة ، ليس لكونه مؤرخا ومصدرا رئيسا ، بل مرجعا وناقلا لما قبله ؛ ولكن ينبغي أن يكون الانتقاء والنقل منصفا ويعطي صورة شمولية إجمالية عما حدث .
وحتى عندما اختتم مسكويه فصله ، نجده اكتفى بذكر ثناء الحسين على أصحابه ليلة العاشر على تفديتهم وتضحيتهم له ، على نحو الإيجاز المخل ، حيث ذكر نصوص مسلم بن عوسجة وزهير بن القين .
ولو رجعنا للطبري فسنجد نصوصاً وافرة عن الواقعة والسبايا وخطبا ،ً كان بإمكان مسكويه إيرادها ليرسم صورة متكاملة عن النهضة والقيام .
كخطبته في البيضة ، واليوم العاشر -وهي الخطب المشهورة- والتي فيها يصرح الحسين عناصر بواعث قيامه وأهدافه ، وكذا خطب السبايا .
وعلى بالرغم من أن القارىء أخذ انطباعاً عن يزيد وأعوانه ، عبر النصوص والأحداث التي سردها مسكويه . وهي تفيد بأنه لا يوجد مبرر شرعي ، أو دافع عقلاني محتمل يدعو يزيد وأعوانه لملاحقة الحسين وقتله بهذه الصورة الشنيعة وسبي نسائه .
وهذا يفترضه الدارس في ضوء هذه النصوص والأحداث من حب للزعامة ، وتحكم برقاب الناس ، وتكريس لأمارة بني أمية للأمة ، وهو ما يستنتجه الدارس التاريخي من النص الذي أورده مسكويه في بداية فصله عن معاوية وهو يوصي يزيد :
" إني لا أتخوف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة (وذكر منهم الحسين ، كما مر بنا سابقا) ... " (تجارب لأمم ج2ص22) .
وهذا التخوف الذي كان يؤرق معاوية ، ينبىء عن معرفة عميقة عن الحسين وقدرته في زعزعة الملك الأموي .
ولعل سمو شخصية الحسين ، وعلو قدره ، وما يمتاز به من فكر ثوري حركي ، هو ما دعا مسكويه أن يقصر الحديث عنه كقوة معارضة كبرى ضد بني أمية ، ويهمل الحديث عن الثلاثة البقية .
وهكذا يظل الحسين ساميا بقيمه ومبادئه ، وأن حركته هي محط الأحرار ، والثائرين الذين لا تزعزعهم لغة التهديد والتخويف والقتل والفتك .
ولئن سقط مسكويه أثناء عرضه لهذه الحقبة في خلل ونقص ؛ ستظل كلمات الحسين ومواقفه أكثر دلالة ووضوحا لخطه الفكري والسياسي . وكتب المؤرخين كالطبري ومن جاء بعده كفيلة بإثبات هذا الخط الثوري والحركي ، مهما تجاوز المؤرخ عن نقل الواقع والحقيقة .
------------------
* مصادر المقال /
1- تجارب الأمم (الطبعة 2003م) : مسكويه .
2- مجلة المنهاج : عدد 16 ، عام 1420هجري ، ص138 و 143 .
3- علم التاريخ ومناهج المؤرخين : د . صائب عبد الحميد .