من "الاعتقادات" إلى "تصحيح الاعتقادات" !!
قراءة نقدية في كتاب "هوامش تدقيقية"، للشيخ عبدالجليل البن سعد
نظرة في "العنوان" و"المقدمة" و"المدخل" !!
أولا: مدخل تمهيدي
ثانيا: لمحات عامة، وهي تتعلقُ بمحاسن الكتاب وإيجابياته
ثالثا: ملاحظات نقدية: إشكالية المنهج !!
رابعا: خاتمة تأليفية
أولا: مقدمة:
أهم ما في أيّ كتابٍ ليس أفكاره وحسب، وإنما مقولاته؛ أي ما تتركه المقولات في وعي القارئ من إثراء إيجابي، وأثر معنوي، أو ما تتركه في وعيه من تزييف وهدر !!
ولا شك في أن التّساؤلَ هو أهمُّ إثراءٍ وأثر إيجابيٍّ يتركه أيُّ كتابٍ، كما أن استلابَ الذاتِ وارتدادَها أمام مقولات الكتاب هي أخطرُ تزييفٍ للوعي، وأفدحُ هدرٍ لها وله !!
تتنزل هذه الورقة النقدية في سياق المثاقفة بين الآراء، وكلُّ ورقةٍ أو مشاركة لها وجهة هي تُوَلّيها، وسأحاول أن تكون الوجهة هي اغتنامَ فرصة الحوار بين الثقافي والحوزوي؛ لتجاوز مقولة التصنيف التي لا طائل منها !!
الشيخ حسين الراضي باحث ذو توجه تحقيقي في قراءة التراث بآليات نقدية تراثية، وهذا واضح في مجموعة من مؤلفاته، ولا يعني هذا أن ما يقوله مبرأ من الأخطاء، خال من العيوب؛ ولكن في الوقت نفسه لا يعني أنه يقود حملة على التراث الحديثي والتاريخي والعقائدي كما يلمِّح المؤلف !!
ولذا نرحب جميعا بخطوة الشيخ عبدالجليل البن سعد النقدية التي جاءت مشاركةً منه في إتمام الجهد، وتحقيق فعل القراءة الناقدة !!
في عصرٍ تكثرُ فيه التَّساؤلاتُ والمراجعاتُ .. يكون القارئ ـ لأي كتاب ـ بين خيارين: إما أن يكون قارئا مستلبا يقبلُ المقولات، أو قارئا متسائلا يُناقش فيما يقرأ .. !!
هذه الليلة بمشاركة كريمة من فضيلة الشيخ عبدالجليل البن سعد (حفظه الله) الذي أراد لنا أن نكونَ قرّاءً متسائلينَ لا مستلبين، وأراد أن تكون القراءة في كتاب من كتبه، فهو متفضلٌ مرتين: مرة حين أراد أن نكون قراء متسائلين، وانضم معنا مشاركا في إقامة فضيلة القراءة، ومرة أخرى حين وافق أن نقيم هذه الفضيلة، ونحيي شعيرة الحوار حول كتابه الموسوم بـ"هوامش تدقيقية" على بحثٍ لفضيلة الشيخ حسين الراضي (حفظه الله) .. فالشكرُ قبلُ له، والشكر بعدُ للشيخ الراضي اللذينِ أصبحا عَلامَتين مشاركتينِ في صناعة السؤال في الأحساء، وتحقيق إرادته في الوعي: اجتماعيا ومعرفيا !!
نرحب بفضيلة الشيخ عبدالجليل البن سعد، ونشكر له تفضله بالحضور بيننا مشاركا في هذا الحوار بوصفه ذاتا قارئة متسائلة ناقدة !!
وسؤال الوعي في الأمم "الحيّة" هو سؤال متواتر مستفيض، لا يجرحُ تواترَه الجوابُ "المرسل"، ولا يُوقفُ مَدَّهُ القولُ "المعتل" !!
وحين أقول: "في الأحساء"؛ فليس معنى هذا تأطيرَ الحوار المعرفي الواعي في حدودها بالمعنى المناطقي الجغرافي الضيق، ولكنها "بهجة الأسئلة" التي أخذت تترى من هذه الواحة المِخْصَاب، فهي واحةٌ ولودٌ ودود: أَدبًا وفكرًا وفقهًا وأصولا وحديثًا ورجالا ونساء.. فالمجد لمن شارك في إحياء هذه "الواحة أدبيا وفكريا"، فمن أحيا أرضًا مَواتًا فهي له كما في شريعة الفقه، فكيف بمن أحيا "واحةً مخصابا" ؟!
لقد مرَّ التاريخُ الحضاريُّ بهذه "الواحة"، فقال عنها بأنها كانت واحة أدبية، ودوحة علمية، ومركزا ثقافيا .. و"ذاك التاريخ"، و"هذا الحاضر" يؤهلانها أن تكون ينبوع سؤال، ومرجع جواب؛ وليست مجردَ "هَامشٍ" على "مَتْنينِ"، أو "مَدِينتين" (1) .
وفي ما يطرحه ـ مؤخرا ـ الشيخ الراضي من تحقيقاتٍ ودراسات علمية حول الموروث الديني (الكامن في الجينات الاعتقادية) إن صوابا أو خطأ .. لهو مما يبعثُ الحياة في هامدِ تلك الأسئلة المتوارية وراء المقولات: ومقول المقولات، وهذا جهدٌ يُذكرُ ويُشكرُ، ويُعَدُّ وينقدُ !!
وتكتمل حلقة هذا الحراك المعرفي بمشاركة من الشيخ عبدالجليل البن سعد، فهو ممن بادر ـ مشكورا ـ إلى إعادة النظر النقدي في تلك التحقيقات العلمية بـ"هوامشه التدقيقية" على بعض متون الشيخ الراضي، وهو بحثه "حديث الكساء بين التواتر والوضع"؛ بغيةَ استماعِ القولِ، واتباعِ أحسنه، وهذه مشاركة من الشيخ عبدالجليل البن سعد تذكر وتشكر، وتعدُّ وتنقدُ .. حذو النقد بالنقد، وحذوَ الحوار بالحوار.
وما سنقوم به نحن جميعا ـ هذه الليلة ـ من قراءات أو ملاحظات نقدية على كتاب "الهوامش التدقيقية" يذكر ويشكر، ويعدُّ وينقد .. وهكذا سندخلُ في غمام الآراء، وغيوم التساؤلات .. نَتَراءى أنواء السّحاب نستمطرها "نافورة من نخيل"، وهل النخيل إلا حوار دؤوب بين الفلاحِ وحقلِه، والحقلِ ومحراثهِ، والمحراثِ وعرقهِ ؟!
التزاما بالوقت المحدد، وتنفيذا لاتفاقنا المسبق، لن يسعَ الوقتُ لتناولِ الكتابِ كلّه (من الغلاف للغلاف)، ولكن سأقتصر مشاركتي على قراءةٍ في "عنوان الكتاب"، و"مقدمته"، و"مدخله"؛ رعايةً لوقت الجميع، ولكي نتوفر على أكبر عدد من المشاركات والمداخلات.
في البداية حبذا الإشارة إلى مبررات اختيار كتاب "الهوامش التدقيقية" للمناقشة والحوار، وهي كالآتي مختصرة:
1ـ يأتي الكتاب في سياق نقدي لبعض أبحاث الشيخ الراضي الذي اختاره المنتدى الشخصية المحتفى بها في حياتها، بعد الانتهاء من الاحتفاء بشخصية الدكتور عبدالهادي الفضلي (في حياته) على مدى خمس دورات ثقافية، وخير احتفاء ـ كما نراه ـ هو مناقشة الأفكار في حياة أصحابها لا إقامة مهرجانات التأبين عليهم (2) !!
2ـ صدور الكتاب في طبعته الأولى في 1435ه/2014ه، فهو كتابٌ مُحَاينٌ من حيث تاريخ صدوره، وهو يناقش أفكارا محاينة في الفضاء الاجتماعي والديني في الأحساء.
ثانيا: لمحات عامة، وهي تتعلقُ بمحاسن الكتاب وإيجابياته:
1ـ مبادرة الشيخ عبدالجليل البن سعد إلى (تأليفِ) كتابٍ في نقدِ (بحثٍ) للشيخ الرّاضي هو أمرٌ حقيق بالتقدير والإشادة، وهي خطوةٌ بليغةٌ وبالغةٌ: بليغةُ المبنى، وبالغة المغزى؛ فبدلا من "خطاب القيل والقال" على رؤوس الأشهاد فوق المنابر في الحواضر والبوادي (غمزا ولمزا)، أصبح بين أيدينا "بحثٌ" منشورٌ، و "كتابٌ" مطبوع، وهذه فضيلة محمودة، وغاية معدودة لجناب الشيخ عبدالجليل البن سعد، وهذا يجعل للكتاب قيمتين: قيمة المبادرة، وقيمة النقد، إلا أن الكتاب لم يخلُ من سلبيات الخطاب الشفوي المنبري الإنشائي الذي يراعي المواضعات الاجتماعية والدينية !!
2ـ أثار المؤلف في مقدمة الكتاب مشكلة المنهج وإشكالياته، وقد بدا ذلك واضحا منذ العنوان الفرعي للكتاب، فهو"مقارنة علمية بين منهجيْ البحث العلمي الأصيل، وتيارات النقد المعاصر"، وألمح المؤلف إلى أن علم الحديث هو من أشرف العلوم الإسلامية، وأن أصفى فهم له وأنقاه هو عند من يجمع المعقول والمنقول، وهو ما أسماه المؤلف بـ"منهج النفس الملائي"، أو "منهج البحث العلمي الأصيل"، كما ألمح إلى انطلاق مناهج معاصرة، وقد أصبحت تيارات، وأطلق عليها المؤلف "تيارات النقد المعاصر".
ولا شك في أنّ ملف "المنهج"، وعلاقته بالحراك النقدي خطوة قيّمة، وقد كان "سؤال المنهج" هو سؤال النهضة العربية منذ مطلع القرن العشرين، وهو سؤال فتح باب النقاش في التراث بأكمله، وقد دارت رحى معارك أدبية وفكرية بين مختلف التيارات الأدبية والفكرية حول المنهج وإشكالاته، وما زال سؤال المنهج مستمرا حتى يومنا هذا ؟!
3ـ إشارة المؤلف في المقدمة إلى اطلاعه على أبحاث عديدة للشيخ الراضي، ومتابعة قراءتها، مثل: زيارة عاشوراء، وحديث الأفلاك، والمؤامرة الكبرى، ثم اختار أبرزها وضوحا في الأدوات والآليات، وهو بحث "حديث الكساء بين التواتر والوضع"؛ ليكون مدار تعقبه بهوامشه التدقيقية.
4ـ سَعْي المؤلفِ إلى إحياءِ أمورٍ صار مرغوبا عنها، وهي:
- "النّفس الملائي" في تناول الحديث سندا وفقها.
- الحوار النموذجي الذي يهتم بالجانب العلمي، لا لغة التفتيش في النوايا والانتماءات.
- الموضوعية التي يجب أن تتمثل بالاعتراف بالحق.
5ـ محاولة المؤلف تهذيب متن كتابه، وإعادة النظر في أسلوب صياغته، وتحويله من خطاب المناظرة إلى لغة الحوار، وهذه النقطة بالذات تحتاج إلى إعادة المحاولة من المؤلف؛ حتى تكتمل المحاولة، وينجح الحوار !!
6ـ لفتَ المؤلفُ نظرَ القارئ إلى أن البحث الذي "تطارح" حوله ليس مطبوعا في كتاب، ونوّه إلى أن ترقيم الصفحات يتبع الطباعة من الموقع الإلكتروني مباشرة.
7ـ أقدر للمؤلف قبوله للحوار النقدي، كما أقدرُ حضوره بنفسه للمشاركة في هذا الحوار، وهذا يدل على رحابة صدره، وهذا بعدٌ إنساني خلاّق في شخصه الكريم، فله منا الشكر والاحترام.
ثالثا: ملاحظات نقدية:
في أيِّ حراكٍ معرفيِّ أو ثقافي سواء كان أدبيًّا أو فكريًّا.. حوزويًّا أو أكاديميًّا يتبلورُ تياران: تيار إعادة النظر والتدقيق والمراجعة والتحقيق، وتيار المحافظة والالتزام والحراسة والتصدي والتَّحصين، وقد ألمح المؤلف في المقدمة إلى أننا في "عصر الجدل والجدليات"، وهذه لمحة منه إلى حضور تيار المساءلة والنقد للموروث الديني، وإن كان هذا التيار لم ينجح حتى الآن في تشكيل وعي المجتمع، ولكنه ناجح في إثارة الأسئلة، وليس عصرنا فقط هو "عصر الجدل والجدليات"، وإنما في كل عصر أسئلته القصوى، وجدله المعرفي !
ونخلص من هذا التمهيد إلى مناقشة بعض النقاط المهمة التي تشكل عناصر أساسية في هيكل الكتاب، ومن أهمها: "العنوان"، و"المقدمة"، و"المدخل"، وسأحاول أن ألتزمَ شرطَ المؤلف، وهو التزام الجدية لا الحدية، فإن أسأتُ فمن خطأ القول، ولا يدفع خطأ القول إلا صحيح القصد، ونبلُ الغاية، وسماحة الرجل الشهم الكريم، وسيكون محور ملاحظاتي حول المنهج، وما يتناسل حوله من أفكار:
نظرة في العنوان:
أ ـ عنوان الكتاب هو "هوامش تدقيقية على بحث حديث الكساء بين التواتر والوضع"، وله عنوان فرعي، هو "مقارنة علمية بين منهجيْ البحث العلمي الأصيل، وتيارات النقد المعاصر في علم الحديث".
يُتوقعُ من هذا العنوان أن ينفتحَ على محاولة "تدقيقية" ذاتِ خلفيّةٍ تأصيليّةٍ متينة لمفهوم المؤلف لمصطلح التدقيق والتحقيق، ولكن المقدمةَ خلت من هذا التوضيح الدقيق لمراد المؤلف من التدقيق والتحقيق !!
أَهذهِ الهوامش التدقيقية على "حديث الكساء المتواتر" الذي لا ينكره الشيخ الراضي، أم هي على مآخذ الشيخ الراضي على "حديث الكساء الموضوع" المتداول بين أيدي الناس وألسنتهم، يتلونه على المنابر، وفي الفضائيات؛ لأن هذا هو جوهر بحث الشيخ الرّاضي ؟!
وقد أكد المؤلفُ في عنوان الكتاب الفرعي على أن هوامشه التدقيقية هي "مقارنة علمية"، ولكن المؤلف لم يفِ الكتابَ حقّه من حيثُ التزامه بالمقارنة العلمية بين منهج البحث العلمي الذي وصفه بـ(الأصيل)، و"تيارات النقد المعاصر"، فقد خلتِ المقدمة والمدخل من ضرورة التأصيل لمقصود المؤلف من هذا العنوان الفرعي المدجّج بمنظومة مفاهيمية تُركت دون بيانٍ، "والبيان لا يؤخر عن الحاجة"، فأين هي المقارنة العلمية، وأين هو البيان الضروري الواضح لما يعنيه المؤلف من فروقٍ علمية بين منهجيْ البحث العلمي الذي وصفه بـ(الأصيل)، وتيارات النقد المعاصر التي "يحاول بعض أبنائها أن يُلَبّسَ؛ فيعطي شربة سائغة لمن يتربص بنا المزالق"، كما هو تعبير المؤلف ص247، أهذه مقارنة علميةٌ، أم هو التّحيز اللغوي والمنهجي منذ عنوان الكتاب ؟!
ولي أن أتساءل: عن أي منهج علمي "أصيل" يتحدث المؤلف ؟ وعن أي تيارات نقدية معاصرة في علم الحديث ؟ ولا يخفى على المؤلف أن "المناهج" و"التيارات" لا تُحصى كثرةً، ويمكن مراجعة (على سبيل المثال) أطروحة حيدر حب الله "نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي: التكون والصيرورة"؛ ليكتشف تعددها واختلافها، وتعدد أدواتها، واختلاف آلياتها .. وعليه فقد وقع العنوان الفرعي للكتاب في مأزق الإيهام والإبهام من حيث أراد الإيضاح، وإذا كان العنوان مبهمًا غيرَ دالٍّ تاهَ القارئُ في بيداءِ الوهم، ومهمهِ الإبهام، فالعنوان الفرعي هو "عنوان بلا عنوان"، وأي كتاب يخلو عنوانه من بيان مصطلحاته ومفاهيمه حسب ما أرادها مؤلفه لا حسب ما أرادته الألفاظ تلو الألفاظ وقع في إشكالية منهجية تتبعها إشكاليات في الأفكار، ولتجاوز هذه الإشكالية لا بد من تحديد الموضوع، وتحديد جهازه (المفاهيمي) و(الاصطلاحي)، وتحديد المنهج النقدي الذي سينظر من خلاله المؤلف في بحث الشيخ الراضي !!
نظرة في المقدمة:
ب ـ ألمح المؤلف إلماحًا إلى أن ما يعنيه بالمنهج العلمي "الأصيل" هو ما أسماه بـ"النفس الملائي" تارةً، وبـ"المنهج الملائي" تارة أخرى، واصفا إياه بـ"الأصيل"، واكتفى المؤلف لتوضيح ما سعى إلى إحيائه من الأمور التي صار مرغوبا عنها بأنْ قالَ: "وسابقًا كانَ العلماءُ يرونَ أنَّ أصفَى الفهمِ، وأنقَى التّأويلِ للحديثِ عندَ مَنْ يجمعُ المعقولَ والمنقولَ، ويُوصفُ مَنْ يتناولُ الترّاثَ الحديثيَّ ـ بهذا النّفسِ المركّبِ ـ بـ"الملائِي". ص7. أهذا بيانٌ علميٌّ لمنهج علميٍّ يصفه مؤلفه بالأصيل وكفى، فما خصائص هذا المنهج، وما سماته، وما هي إيجابياته، وسلبياته مثلما فعل المؤلف مع تيارات النقد المعاصر على الأقل ؟!
كان حريًّا بالمؤلف طالما يريد أن يقيمَ "مقارنةً علميةً" بين منهجين أن يُعرّفَ بهما تعريفًا علميا أولا، ثمَّ يقوم بإجراء تقويمٍ نقدي (شارحا الإيجابيات والسلبيات لكل منهما) ثانيا، ثمّ يقومُ بإصدار تقييم موضوعي ثالثا، لا أن يكون أحدهما "أصيلا" منذ عنوان الكتاب، والآخر "ملبّسا" في عرض الكتاب وطوله.
فلقد أصدر المؤلف حكمه (غيابيا) منذ أسطر المقدمة الأولى على تيار النقد المعاصر (الذي لا نعرف معالمه كما أرادها المؤلف)، فهذا التيار في تقييم المؤلف الخاص يعيش مشكلة لا تقدما، ومشكلته، هي:
1ـ النظرة التجزيئية.
2ـ إرسال النظر على مساحة الحديث من زاوية واحدة، وهي "السياق الواقعي والظرفي"، على خلاف ما يتمتع به "المنهج الملائي" الموصوف بالأصالة منذ العنوان. ص7.
هذا النقد من قبل المؤلف نلمسه موجها إلى تيارات النقد المعاصر فقط، أما المنهج الملائي الذي يجمع أصحابُه بين (المعقول والمنقول) ـ حسب تقيم المؤلف ـ فهو منهج أصيل لا يأتيه النقد من بين يديه ولا من خلفه، وهذا تحيزٌ منهجيٌّ (آخر) يعكّر صفو المقارنة العلمية التي يطمح أن يحققها المؤلف في هوامشه التدقيقية.
ولا يخفي المؤلفُ احتفاءه بـ"المنهج الملائي" الذي يراه أصفى منهجٍ وأنقاه في فهم الحديث؛ لأنه "يجمع بين المعقولات والمنقولات"، ولم يكتفِ بذلك، بل سعى إلى إحيائه، وتطبيقه في دراسة علم الحديث سندا وفقها، (وهذا حقّه)، ولكنه يتناسى أن "وظيفة المعقولات" ـ أيًّا كان نوعها ـ هي "تصحيحُ المفاهيم"، ونقدُ السّائدِ (الذي يُظَنُّ أنه من المسلمات)؛"ذلكَ أنَّ الرّأيَ إنّما نصححُه عندَ أنفسنا؛ بأنْ نفكرَ ونروّيَ ونقيمَ في أنفسنا أموراً ومعقولاتٍ شأنها أنْ تصححَ ذلكَ الرّأي." حسب تعبير الفارابي، في كتاب إحصاء العلوم، ص167.
ج ـ ورد في المقدمة أن من مآخذ المؤلفِ على تيار النقد المعاصر أنه "يضع مجموعة من الأحاديث تحت النظر النقدي، ويَعملُ فيها بنظرية السياق الاجتماعي". ص7.
لم يتضح لي ماذا يعني المؤلف بـ"نظرية السياق الاجتماعي" التي وصفها تارة أخرى بـ"السياق الواقعي والظرفي". ص7، وهذا راجع إلى أن المؤلف كثيرا ما يرسلُ (في مقدمته) الكلام في مفاهيمَ ونظرياتٍ ولا يوضّح قصده منها بالضبط؛ لأنّ تحديدَ المفاهيمِ والعناوين وتحريرَها أمر حتمي في أصول البحث العلمي (الحوزوي والأكاديمي)، وهذه مشكلة منهجية تبدأ من العنوان والمقدمة، ولا تتوقف عند حدٍّ .. وأراها تفتكُ بهيكل الكتاب وحلقاته !! فلم يوضح المؤلف ماذا يعنيه بـ"نظرية السياق الاجتماعي"، ولا مَنْ هم أصحاب "التيارِ التجزيئيِّ" الذين يضعونَ الأحاديثَ تحتَ النّظرِ النّقديِّ من منظورِ نظريةِ السياقِ الاجتماعيِّ (3) ؟!
ويضيف المؤلف: "والحديثُ عند التيار التجزيئي "ويعني به تيار النقد المعاصر" مقصورُ الدَّلالة على سياقه، ومردودٌ في نفسه ما دام خارقا للأنس والطبع العام، وإن لم يرجع إلى ضرورة عقلية، أو شرعية"، ص8.
لا يخلو هذا الكلام من وقوعه في "التّعميم"، فحين يصف المؤلف "تيارا" مترامي التّوجهات، متنوع المنطلقات !! فعن أي تيار، أو نظرية، أو أعلام، أو أشخاص .. يتحدث المؤلف ؟ وأيُّ "حَدِيثٍ" يقصدُ ؟!
إضافة إلى أن نظرية السياق هي نظرية شاسعة، وفي داخلها تيارات متعددة، وتوجهات مختلفة لا يمكن اختزال الكلام عنها في بضعة سطور في المقدمة؛ تلميحا لا تصريحا (4).
ولنا أن نتساءل: هل فعلا كانت دراسة الشيخ الراضي في بحثه لحديث الكساء هي من منظور نظرية السياق الاجتماعي؛ ليظل المؤلف يُلِحُّ على نقد هذه النظرية ونتائجها في المقدمة التي لا تتجاوز بضع صفحات ؟!
د ـ يقول المؤلف: "هناكَ درجاتٌ بين القبولِ وبين الرّدِّ عندَ الصنفِ الأوّلِ الأصيلِ (النّفس الملائيِّ) من قبيلِ الحَمْلِ على أيِّ وجهٍ صحيحٍ، والتّوقفِ عن صدِّهِ، وإرجاعهِ إلى أهلهِ؛ حتى تقومَ عليه علامةٌ واضحةٌ تشهدُ بوضعهِ وكذبهِ، بينمَا لا يتحدّثُ التّيارُ الثّاني (تيارات النقد المعاصر) عن شيء من ذلكَ"، ص8.
من الطبيعي جدا أن تختلف نتائج أي دراسة تبعًا لاختلاف المنهج المتبع في تكوينها؛ ولذا ليس من الموضوعية أن يُقارن المؤلف بين المنهج الملائي ـ حسب تعبيره ـ وتيار النقد المعاصر من حيث النتائج؛ لأنها ـ حتمًا ـ ستكون مختلفة؛ لاختلاف المنهج، فهذه مقارنةٌ غير علمية إلا إذا أراد لها المؤلف أن تكون علمية وحسب!! إضافة إلى أن هذا تحيز واضح تجاه منهجٍ ضدَ منهجٍ آخر، فلا نتائج صحيحة إلا النتائج التي يراها المنهج الفلاني، مع أن الكتاب مقارنة علمية، وهذا خلل منهجي لم يحسم المؤلفُ موقفه منه !!
كان حقيق بالمؤلف أن ينقد منهج الشيخ الراضي بأدواتِه وآلياتِه نفسهِا المتبعةِ في بحث "حديث الكساء بين التواتر والوضع"، خصوصا أن تلك الأليات والأدوات كانت جلية واضحة كما ذكر المؤلف في المقدمة، لا أن ينقد بحثه نقدا شموليا بآليات منهج هو يراهُ ولم يحدد لنا معالمه أصلا (5) !!
ه ـ يتابع المؤلف نقده لـ"تيار" النقد المعاصر، ويركز نقده في الفقرة الثامنة من المقدمة على اتجاه مولعٍ بالكشف عن الآثار "الموضوعة"، و"المكذوبة"، وأصبح دوره محاصرة تلك الأحاديث وتحليلها بـ"أدواته التي تطاوعه"، ويأخذ على أصحاب ذلك التيار أحكامهم الجازمة في توجيه النقد لتلك الأحاديث، وأنها من فعل الغلاة تارة، والزنادقة تارة ثانية، وأهل الخلاف تارة ثالثة. ص8
ولم يألُ المؤلف جهدا في توجيه النقد لأعلام هذا الاتجاه الذين يعيشون تصورا فحواه أن نسبة الوضع والوضاعين هي نسبة عالية جدا في التراث الحديثي، كما يأخذ عليهم قولهم بأن الأوائل من حملة الحديث قد تساهلوا مع الوضع والوضاعين.
لا أدري لماذا يُلَمّحُ المؤلفُ ولا يُصَرّحُ، فهو يتهم تيارا كبيرا بالولوع في نقد التراث الحديثي، ولا يذكر أعلاما، ولا كتبا، فلا ندري هل أن الشيخ الراضي نفسه من الاتجاه المولع بنقد التراث، وممن يقول بارتفاع نسبة الوضع والوضاعين في الأحاديث هكذا جزافا كما تملي عليهم تصوراتهم !! فالحديث الموضوع لدى هذا الاتجاه المولع بالتصورات لا يحتاج إلا إلى مشكلة في السند؛ لكي يقوموا بالاستبعادات المحضة له، وكل ذلك راجع عندهم إلى "الضعف التحصيلي في العلوم الأخرى كاللغة والعقيدة والفلسفة"؛ فيحكمون على الممكن بأنه محالٌ، وعلى الصحيح بأنه غلطٌ، وعلى الجائز بأنه ممتنعٌ.. (هكذا) !!
هذه أحكام تهوينية، وتعميمات إنشائية لا علاقة لها بالمقارنة العلمية، ولا بالموضوعية التي هي قيمة من قيم البحث العلمي "الأصيل" !!
ولا أعلم لماذا يحتاج أي (محقق) إلى كل علوم الكون حين يريدُ تحقيقَ حديثٍ، أو خبر تاريخي، أو قصة مختلقة، أو حكاية اعتقادية مؤسطرة، بينما لا يحتاج أي (خطيب) أو (رادود) إلى دحرجتها في أسماع الجمهور وأذهانهم إلا إلى جهارة الصوت، وترديد الصلوات !!
و ـ يقول المؤلف: "إن أبرز وأقدم من أدار هذا المشروع هو ابن الجوزي في كتابه الموضوعات"، ثم تبعه (المتشددون) من أبناء السنة حيال تراثهم، (ولم يفلحوا)، بل تعالت الأصوات المنكرة عليهم، وليس لابن الجوزي من الجهد إلا أنه أكدى نفسه، وأضاع وقته في كتاب الموضوعات، فقد استدرك عليه العلماء من بعده حتى أصبح كتابه بلا قيمة، وأنه لا يؤخذ بالكثير من طعونه عند المحصلين من (أبناء السنة). ص14، ويضيف المؤلف قائلا: "وإنْ كانَ هناكَ مَنْ يتمثّلُ دورَه وأقوالَه إلى وقتنا الحاضرِ ممن هم على شَاكِلَتِهِ"، ص15.
لقد تناهبني العجب العجاب من هذا القول العجيب، فبالإضافة إلى أن المؤلف شنّ هجوما نقديا في المقدمة على تيار النقد المعاصر (وهو ليس موضوع عنوان كتابه)، شنّ الهجوم نفسه ـ تالياً ـ على كتاب الموضوعات لابن الجوزي (ت 597ه)، (وهو أيضا ليس موضوع الكتاب)، وهنا يمكن تسجيل عدة ملاحظات:
1ـ لم يكن ابن الجوزي أقدم من ألف في "الموضوعات"، فقد سبقه عدة من العلماء، ومنهم على سبيل المثال:
- كتاب الموضوعات، من تأليف النقاش أبي سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي الأصبهاني الحنبلي (ت 414ه).
- تذكرة الموضوعات، من تأليف أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني، (ت 507ه)، وله كتاب آخر بعنوان الذخيرة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
- الموضوعات من الأحاديث المرفوعة، من تأليف الحافظ أبي عبدالله الحسين بن إبراهيم الجورقاني الهمذاني (ت 543ه)، وقد اعتمد عليه ابن الجوزي في كتاب الموضوعات كثيرا، كما اعتمد عليه في كتابه الآخر العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (6) .
2ـ يصف المؤلف الذين ساروا على نهج ابن الجوزي في تحقيق تراثهم الحديثي بـ"المتشددين"، وهذا الوصف فيه شيء من التبخيس والتهوين، ولا أدري لماذا تجنب المؤلف أن يصفهم مثلا بـ"المحققين"، أو "المدققين"، أو "المراجعين"، ولا أعلم لماذا اختصر تقيم جهود ابن الجوزي، ومن سار على طريقته في نقد الموضوعات من العلماء السنة بأنهم "لم يفلحوا"، وقامت عليهم الأصوات المنكرة، ونتساءل: هل أن تعالي الأصوات المنكرة تدفعُ باطلا، أو تقيمُ صوابا، أو توقف تيارا تحقيقيا، وهل تعالي الأصوات المنكرة (وما أكثرها في زماننا) هي شهادة الحق التي لا قبلها ولا بعدها ؟؟!!
وألمح المؤلف أن العلماء قد استدركوا على ابن الجوزي (ردودا ونقودا)، ومن وجهة نظري أن هذه الاستدراكات تدل على التأثير في عصره، وما تلاه، وأن كتابه اكتسب قيمتين لا قيمة واحدة: كونه كتابا نقديا يأتي في سلسلة كتب نقدية في نقد تراث عتيد، وكونه كتابا أثار عاصفة في عصره، وتتبعته الاستدراكات كما ذكر المؤلف، وهاتان من محاسن ابن الجوزي، ومن محاسن كتابه !!
3ـ استعمل المؤلف عبارة "ممن هم على شاكلته"، وهو يقصد بهم من ساروا على نهج ابن الجوزي في نقد الموضوعات في التراث السني، وهذه العبارة إضافة إلى كونها عبارة إنشائية تبخيسية تهوينية هي عبارة غير علمية:
فقد أحصى الأستاذ المتتبع: أبوحيدر أحمد الفايز (بمراجعة سريعة) في قوائم الكتب والمؤلفات في التراث السني، واكتشف بأنه تم تأليف أكثر من أربعين رسالة وكتابا وموسوعة في نقد الموضوعات في التراث السني ليس آخرها جهود المحقق الألباني، عدا رسائل الماجستير والدكتوراه، وفي كل هذه الكتب والموسوعات نقد ومآخذ وثناء على ابن الجوزي على ما ألّف في باب نقد الموضوعات، فأين هي الأصوات المنكرة عليه، وأين هو ابن الجوزي الآن، لقد اخترق القرن الواحد والعشرين، وبقيت أصواتهم المنكرة في حدود القرن السادس (7).
ز ـ بعد ثلاث صفحات من المقدمة التي انتقد المؤلف فيها بشدة تيار النقد المعاصر، وتيار نقد الموضوعات، يرى أن ليس ما ذكره في المقدمة تمهيدا لتصنيف الشيخ الراضي في هذا التيار أو ذلك الاتجاه "على وجه مانعة الجمع، سيما أنه لم ينجزْ دراسةً عامةً [تعبر] عن رأيه في الحديث والمحدثين، كما صنع (البعض) (8) ممن قادوا نفس الحملة على التراث الحديثي، وكل ما قام بمعالجته هي مفردات قليلة كزيارة عاشوراء، وحديث الكساء، وأخيرا حديث الأفلاك". ص10.
لم أفهم لماذا المؤلف أدخل القارئ في موجة نقد التيار المعاصر، وتيار نقد الموضوعات طالما هو لم يهدف إلى تصنيف الشيخ الراضي إلى هؤلاء أو هؤلاء ؟! وإني أحمدُ له أن نأى بنفسه عن الفرز والتصنيف، ولكنني أتساءل: ما ضرورة هذه الصفحات الثلاث إذن ؟! وما قيمة جعلها في مقدمة كتاب في نقد بحث من تحقيق الشيخ الراضي ؟!
ولكن لم يلبث المؤلف في الهامش رقم 3 من ص14أن قال: "اليوم هناك مجموعة أسميناها تيار النقد المعاصر صارت تتحمس لتقصي الأخبار الضعيفة، ومما توالت عليه كلماتهم حديث الكساء، وهذا الكتاب بحث مفصل في أدوات هذا التيار حيث اجتمع منها قدر غير يسير في طريقة الشيخ الراضي".
إذن نفهم أن طريقة الشيخ الراضي هي من طرائق تيار النقد المعاصر الذين يشنون حملة على التراث الحديثي، ويحملون راية نقد التراث، ويوظفون جملاً خبرية صارمة ذات نبرة قطعية تكون مسممة للأفكار والعقيدة، وفيها إقصاء للرأي الآخر؛ لأنها كلمات تتضمن موقف الشجب والاستنكار المطلق.
كل قارئ منصف لن يقبلَ حملات تسميم العقيدة والأفكار، ولا أساليب إقصاء الرأي الآخر لو ثبتَ ذلك فعلا، ولن يثبتَ ذلك إلا بالأمثلة والبراهين لا بالأساليب الإنشائية، والتعميم المطلق، ولكنّ حملات تصحيح الاعتقادات، ونقد الأفكار يوجه لها مثل ذلك الاتهام الكلاسيكي المعاد المكرور.
ذكر المؤلف إلى أن الشيخ الراضي لم ينجزْ دراسةً عامةً [تعبر] عن رأيه في الحديث والمحدثين...إلخ.
بمراجعة سريعة لسيرة الشيخ الراضي العلمية يتبين أنه ألف كتابين في هذا المجال:
1ـ تاريخ علم الرجال.
2ـ دروس في القواعد الرجالية (ثلاثة مجلدات) تحت الطبع.
إضافة إلى أن رأي أي محقق يمكن معرفة رأيه ومنهجه من خلال كتبه وتحقيقاته، ودراساته التطبيقية، ومعالجاته النقدية، مثل: زيارة عاشوراء، وحديث الكساء، وأخيرا حديث الأفلاك، إضافة إلى كتاب المؤامرة الكبرى، وقد التفتَ المؤلفُ إلى ذلك فقال: "ولكن ربما أستفيد من دراسته المؤامرة الكبرى أنه معتقد على مستوى الحديث الإمامي بوجود أثر عميق للغلاة، وأن علماء الإمامية (...) لم يتعاملوا معهم بالشدة المطلوبة التي تكفي لتنقية التراث من شوائبهم"، وهذه التفاتة قيمة من المؤلف إلى أن للشيخ الراضي رأيا ومنهجا في الحديث والمحدثين، ولكنه مبثوث في كتبه التطبيقية، مثل: المؤامرة الكبرى، وأن أدواته وآلياته هي أكثر بروزا، وأجلى ظهورا، هي في "حديث الكساء بين التواتر والوضع" حسب وصف المؤلف نفسه ص10؛ ولهذا اختار هذا البحث التطبيقي لكي يتعقبه بهوامشه التدقيقية.
نظرة في المدخل:
ح ـ افتتح المؤلف المدخل بقوله: "وأبدأ (أظنها وأوّلُ) شيء أذكّرُ به هنا أنني لا أهدف لإثبات حديث الكساء بطريق صحيح، كما لا أتسرع في محاكمة النوايا".
جوهر بحث الشيخ الراضي هو التحقيق في إثبات حديث الكساء المتواتر، والقول بوضع حديث الكساء المشهور المتداول على الألسن، بينما المؤلف في هوامشه التدقيقية على بحث الشيخ الراضي لا يهدف إلى إثبات حديث الكساء بطريق صحيح، ولم نعرف عن أيهما يتحدث ؟!
وأخذ المؤلف في التنبيه على أن علماءنا في القديم والحديث لم يخف عليهم وقوع الدس والتزوير والكذب في مصنفاتهم سواء في نصوص المعصومين، أو في نصوص العلماء، ولفتَ نظر القراء إلى أن ما يقوله الشيخ الراضي ليس اكتشافا جديدا، وأن القول بمسألة وجود الوضاعين والمكذبين .. لا يعدو أن يكون رأيا شخصيا من قبل من يحملون راية نقد التراث اليوم كالشيخ الراضي (عفا الله عنا وعنه) (9) .
إذا كان الدس والتزوير والوضع لم يخف على العلماء قديما وحديثا لماذا لا يتم نشر نتائج تلك التحقيقات على المنابر؛ كي يطلع عليها الجمهور، فإن كتمان أمر تلك التحقيقات هو من كتمان العلم الصحيح، والتحقيقات المهمة في أمور اعتقادية ضرورية وحاسمة ؟! فكل ما فعله الشيخ الراضي هو مناقشة حديث الكساء بين التواتر والوضع بمنهجية علمية تراثية من صميم العمل العلمي الحوزوي مستعرضا أقوال العلماء عرضا ونقدا، ثم خلص إلى قول رأيه، ثم أعلنه منشورا في موقعه، فأين المشكلة إذن ؟!
ولا أظن أنها قضية جوهرية أن يكون ذلك اكتشافا جديدا يسجل للشيخ الراضي، أو قديما يسجل لغيره فإن الأمر الجوهري هو نتيجة البحث وإعلانها منشورة للقراء والجمهور.
ط ـ انتقد المؤلف في المدخل كتاب الأخبار الدخيلة للشيخ محمد تقي التستري (ت 1415ه)، حيث رأى الكثير من العلماء والنقاد أنه راجلٌ أشبهُ منهُ بالفارس في هذا الكتاب، ورأى أن هذا هو حاله في معظم كتبه، وقد وقف المؤلف على الكتاب، ورأى فيه ما يضحك الثكلى، ويسقط الحبلى، فهو من الكتب التي أوقدت نار الولوع بهذه المنهجية، وحببت إلى الكثير من المنتمين إلى التيار المعاصر النظر في التراث بعين النقد، واستثنى المؤلف كتاب قاموس الرجال للتستري فقد وقع موقع القبول العام.
لقد حلّ على كتاب الأخبار الدخيلة للتستري ما حلّ بكتاب الموضوعات لابن الجوزي، ولن نعد هذا رأيا للمؤلف في الكتاب حتى يطرح دراسته التي قال بأنه لا يشك في أهمية طرحها حوله؛ لأن العبارات التي أطلقها المؤلف على كتاب الأخبار الدخيلة ومؤلفه، مثل: "هو راجل أشبه منه بالفارس"، و"رأيت ما يضحك الثكلى، ويسقط الحبلى"، ليست تقييما علميا، وإنما هي بالعبارات الإنشائية أشبه منها بالآراء العلمية !!
يبدو لي أن المؤلف يرى أن أي كتاب يحظى بالقبول العام فهو الكتاب (القَيّم)، أما إذا لم يحظَ بالقبول العام فهو كتاب مغضوب عليه ولا الضالين، مثل كتاب "الأخبار الدخيلة"، فهل هذا معيار علمي موضوعي ؟!
ي ـ في ختام المدخل يقول المؤلف أنه ليس من غاية هذه الهوامش والتذييلات والتعقيبات خَلْقَ جوٍّ من المواجهة العنيفة في وجه الشيخ الراضي (سامحه الله)، ولا في وجه مَنْ يسيرُ في اتجاه الحملة على التراث؛ ولكن ليعلمَ الآخرون أنه بعدَ أن تحدّث وأطالَ مُظهرا أنه يتكلمُ بالأسلوب العلميِّ أردتُ أن أبيّنَ أن كثيرا مما جاء به في بحث "حديث الكساء" ليس على الطريقةِ العلميةِ في شيء، و(هي وجهة نظر شخصية) آمل أن يتقبلها"، وهي ليست مبارزة قتالية لإثبات حديث الكساء؛ لأن هذا الحديث يصنف في أبواب الروايات التي لا تحتاج إلى الأسانيد الصحيحة والثابتة بالقطع واليقين خلافا للرأي الذي تشدد له هو في نهاية [بحثه]، ويختم المؤلف قائلا: "فالمحاكمة إذن هي للأسلوب والمنهج المتبع لديه". ص15، ص16.
لقد حاول المؤلف أن يبرر ـ عبر الأقوال مرارا وتكرارا ـ أنه لن يقع في أسرِ المواجهة، والمبارزة، ولكنّه على مستوى التعبير اللغوي لم تخلُ لغة الكتاب من الغمز واللمز والكنايات الرامزة، والتعابير الغامزة مما أوقع الكتاب في حالة مواجهة ومبارزة عبر صور شتى؛ فتارة بأسلوب التحشيد اللغوي، وتارة عبر إعلان الدفاع عن (التراث الحديثي) بلغةٍ خطابيةٍ في وجه زحف تيارات النقد المعاصر، ومن يحملون راياتهم الخفاقة في المشرقين، ولم يخفَ حرصه على التحصين المذهبي "للشباب المؤمن"؛ حتى ولو على حساب البحث المنهجي الموضوعي !!
أعلن المؤلف في مقدمة الكتاب ومدخله أنه سيلتزم بمحاكمة منهج الشيخ الراضي وأسلوبه في بحث حديث الكساء، أقولُ: لقد أعلن ذلك، وَلَيْتَهُ فَعَلَ !!
رابعا: خاتمة تأليفية:
أجدد للمؤلف الشكر على قبوله هذا اللقاء الحواري، وهذه فضيلة أخلاقية وإنسانية تحمدُ لهُ، وألخّص أفكار هذه الورقة النقدية في النقاط الآتية:
• لدى المؤلف (من خلال كتابه) حرص واهتمام بالتراث الحديثي، ولكن لديه نزعة تخوف وتحفظ وتحوط من نقده، كما لديه في الوقت عينه أشواقٌ فكرية، وتساؤلات دفينة، فهو كمن يصبح متسائلا، ويمسي متحفظا محتاطا، بل مترددا كما قال الشاعر: (هممتُ ولم أفعل وكدتُ وليتني)، فتشعر به أحيانا متسائلا يدفعه شوق السؤال المعرفي، ولكنه يفضّل أن يكون محتاطا في رياض اليقين على أن يكون جوّابا في براري السؤال المؤرق.
• احتفى المؤلف تحت عنوان "خاتمة المطاف" من كتابه بتيار النقد الاعتدالي، وبدا حفيًّا بالتدقيق والتحقيق في التراث الروحي الشيعي من قبل أعلام كبار في الطائفة الشيعية، ولكن لا أدري لماذا بدا موقفه ملتبسا من جهود الشيخ الراضي في تحقيق بعض جوانب هذا التراث الروحي .. !! فما معنى أن يرى المؤلف في جهود بعض الأعلام "اعتدالا"، ويرى في جهود الشيخ الراضي "اعتلالا" ؟؟!! هذا مجرد تساؤل.
• كنت آمل أن يكون النقد أكثر منهجية ودقة؛ كي نربح بحثا علميا، وكتابا علميا، ولكن لم يكن الأمر بالتمنيات !!
• أقترح على المؤلف (في الطبعة الثانية) أن يعقد حلقة من حلقات كتابه حول جهود الشيخ الراضي العلمية والتحقيقية معرّفا بها، عارضا لمضامينها، ذاكرا الشيخ الراضي بالثناء والنقد !! فهذا من ثوابت البحث العلمي الأصيل.
• لم يخل الكتاب من خلل منهجي جذري، وهذا واضح منذ المقدمة والمدخل، ولا مفر من معالجة هذا الخلل؛ كي يستقيم الكتاب على سوقه ناضجا مثمرا ناجحا !!
• هناك دوما في عالم الأفكار والكتابات والمؤلفات نقاش مستمر بين دعاة الأصالة، وأنصار المعاصرة، بين دعاة التقليد، وأنصار التجديد، ولكن كلما تجاوز أي مؤلف هذه الثنائيات الضدية كلما كان أقرب من أصالة البحث العلمي ومنابعه !! فالحقيقة بنت البحث وكفى!!
---------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) في ما كتبه الدكتور عبدالهادي الفضلي حول مادة "أحساء" في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، والشيخ محمد بن عبدالله آل عبدالقادر في تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد، والمؤرخ الشيخ عبدالرحمن بن عثمان الملا في تاريخ هجر، والشيخ جواد الرمضان في مطلع البدرين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين، والسيد هاشم الشخص في أعلام هجر من الماضين والمعاصرين .. شواهدُ على أصالة هذا الحراك الإنساني والعمراني بمعناه الحضاري !!
(2) أقام المنتدى في الجلسة الشهرية المؤرخة في شهر ذي الحجة 1434هـ محاضرة للشيخ عباس الموسى بعنوان "الشيخ حسين الراضي: فكرا ومنهجا"، وهذا هو الاحتفاء الثاني بالشيخ الراضي باستضافة الشيخ عبدالجليل البن سعد ناقدا له !!
(3) تناول حيدر حب الله في أطروحته "نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي: التكون والصيرورة" قضية "تاريخية السنة الشريفة"، من ص713 ـ ص747 ، أو ما أسماه بـ"القراءة التاريخية"، أو "الفهم التاريخي"، أو "نزعة القراءة التاريخية"، وقد قسم المفهوم إلى قسمين: التاريخية المعرفية، والتاريخية الواقعية، ويرى حب الله أن ثمة فروقا بين قاعدة تحول الأحكام بتحول الموضوعات كما في علم الأصول، وما يعنيه بمقولة "تاريخية السنة"، ويرى ضرورة دراسة النص الديني من منظور "نظرية القراءة التاريخية" قبل دراسته من منظور قاعدة تحول الأحكام بتحول موضوعاتها، ويرى ضرورة طرح السؤال: هل النص الديني يفرز حكما مرحليا مقيدا بظروف "زمكانية"، أم هو حكم إلهي أبدي، ومقولة تاريخية النص لا تعني إلغاءه.. واستعرض تاريخ هذه المقولة في التراث الشيعي إن في النصوص أو في آراء الأصوليين والفقهاء والمفكرين من عصر الشيخ الصدوق إلى محمد باقر الصدر وقوله بـ"وعي الواقع التاريخي"، إلى محمد مجتهد شبستري، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، وذكر نماذج شيعية تطبيقية لتاريخية السنة، وصلت إلى أربعة وثلاثين نموذجا.
وأشار حيدر حب الله في سياق حديثه عن نزعة القراءة التاريخية إلى الدرس الهرمينوطيقي في الفكر الشيعي، وأن جذور هذا التوجه تعود إلى منهج تفسير النصوص المقدسة في الغرب، ويقول:"هذا السياق الغربي للتأويل ترك أثره مؤخرا على الفكر الشيعي"، ص792، ويضيف:"إذن فالحس التاريخي على المستوى النظري كان حاضرا بقوة عند شبستري، ونحن نعتقد أن تيارا عتيدا بدأ يتشكل اليوم في الثقافة الشيعية ينحو نحو التاريخية هذه؛ تأثرا بحركة ترجمة ـ لعله لا نظير لها في الوسط الديني ـ للأفكار الهرمنيوطيقية الغربية"، ص731، ويعبر بشكل واضح بأنه يوجد "هناك خوف من إنفاذ هذه المقولة "تاريخية السنة" في فهم النصوص الحديثية في الداخل الشيعي"، ص734
(4) نظرية السياق متشعبة الأنواع: وممن له جهود بارزة في هذه النظرية "جون فيرث"، و"مالينوفسكي"، و"جوزيف فندريس"، و"رومان جاكبسون"، و"بلومفيلد"، و"هاليداي"، و"هايمز"، و"ليفيس"، وهناك نظريات تدرس السياق، مثل: نظرية السياق في النحو التحويلي، والسياق في نظرية أفعال الكلام، والسياق في علم لغة النص، وقد اهتم النقاد والبلاغيون والأصوليون بنظرية السياق في التراث العربي الإسلامي كما عند بشر بن المعتمر، وعبدالقاهر الجرجاني، والشافعي، والمعتزلة، والشيعة، والسنة، وللسياق مستويات مختلفة، منها: سياق الموقف، والسياق اللغوي (الوظيفة الصوتية، والمعجمية، الصرفية، والنحوية، والدلالية)، والسياق الثقافي، والسياق العاطفي، وغير ذلك.
(5) مثال ذلك كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، فقد استدرك على البخاري ومسلم في صحيحيهما بناء على (شرطيهما)؛ أي منهجيهما !!
(6) من إفادات الأستاذ المتتبع أبي حيدر أحمد الفاير.
(7) كتب الشيخ الراضي فصلا (الفصل الرابع) في كتابه "المؤامرة الكبرى" بعنوان: "المؤلفات في الأحاديث الموضوعة والضعيفة في التراث السني أحصى فيه أكثر من خمسين كتابا وموسوعة تدرس هذه الظاهرة الخطيرة، ونقد "ندرة" التأليف من علماء الشيعة في هذا الجانب العلمي المهم غضبان أسِفا !! وذكر حيدر حب الله إلى أن التأليف في نقد الموضوعات في التأليف السني أقدم وأبكر وأكثر وأسنى.
(8) لديّ حساسيةٌ من استعمال لفظة (البعض) في تأليف الكتب، وكنت أرجو أن يسلم منها كتاب "الهوامش التدقيقية"، ولكن يبدو أنها أصبحت خطابا لغويا، وليست مجرد لفظة لغوية متوغلة في الإبهام، فَمَنْ هم هؤلاءِ (البعض) الذين قادوا نفس الحملة على التراث الحديثي (فطالما تكررت هذه النبرة في الكتاب) ؟!
(9) تكرار الأدعية من المؤلف للشيخ الراضي بشكل ملفت !!
جلسة شوال 1435هـ
جابر الخلف