الشيخ العَمَري شمسٌ لا تغيب
الشيخ محمد علي العمري
في جميع الحضارات الإنسانية قاطبة، وعلى فتراتٍ زمنية متباعدة، يظهر رجالٌ يغيرون مسار التاريخ في مجتمعاتهم، ويكونون سبباً لحدوث طفرات نهضوية داخلها، يتركون خلفهم آثاراً عظيمة كما تترك السحب المحملة بالإمطار آثارها على أراضي الصحراء القاحلة، عظماء، عباقرة، وفي نفس الوقت مغمورين، لم يأخذوا حقهم من التكريم كصُناعٍ حقيقيين للتأريخ، وهذا ليس بمُستغربٍ عليهم، فأفكارهم سبقت عصرهم بكثير، ولا تُعرف قيمتهم الحقيقية إلا بعد فقدانهم، ففي الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ. أحد هؤلاء العُظماء هو والدنا سماحة آية الله الشيخ محمد علي العَمَري دام ظله الوارف، وأمتعنا اللهُ بنسماته النورانية العليلة.
عندما أنظر إلى وجه والدنا الشيخ العَمَري، تنبثق في ذاكرتي تلك الرواية الآتية إلينا عن طريق أهل البيت عليهم السلام ، النظرُ في وجهِ العَالِم عبادة، حيث يتقمصني شعورٌ غريبٌ من الرَهبَة والولَه، فأطيل النظر إليه، وهو سارحٌ بخياله نحو آفاقٍ عرفانية بعيدة عن إدراكي، ولايكاد يُجيل ببصره فيمن حوله، حتى يرجع سريعاً إلى حيث تأمُلاته الإلهية، فأتساءل بيني وبين نفسي، وأنا أرى كيف ترك معول الزمن آثاره على صفحات وجهه السَمِح، ماالسر الذي وراء عظمة هذا الرجل ؟، فيأتيني الجوابُ كلمح البصر، ومجلجلاً من كل مكان، إنه الإخلاص في العمل
الشيخ العمري في مجلسه العامر بالمدينة المنورة
بدأ الشيخ العَمَري مشواره الفعلي في الحياة، قبل عقودٍ طويلة من الزمان، عندما أرسله والده «العلامة علي العمري»، وهو لايزال فتياً طري العود لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، مع قافلة كانت متجهة نحو العراق، حتى يتلقى علومه الحوزوية في النجف الأشرف. كان السفر إلى العراق في تلك الأيام عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر وتستغرق أسابيعاً طويلة، فالجمال هي وسيلة المواصلات المتوفرة آنذاك، أما طريق السفر فقد كان يحكمه اللصوص وقُطاع الطرق، لكن الشيخ العَمَري عندما يتحدث عن تلك التجربة الصعبة، فإنه لايتذكر سوى أمراً واحداً، ظل راسخاً في ذاكرته طِوال هذه العقود الطويلة، وهو بلوغه الحُلم أثناء هذه الرحلة، كِبار عُلماء العِرفان يعتبرون بلوغ الحُلم هِبة من الله إليهم، لأنه سمح لهم بتأدية تكاليفهم الشرعية، وهذا مصدر سعادة لهم، لذلك تظل تلك اللحظات محفوظة في ذاكرتهم طوال حياتهم، فهي - في نظرهم - اللحظة الحقيقية لميلاد الإنسان.
عندما وضع الفتى الأغر محمد علي قدميه على أرض النجف، كانت «النجف» آنذاك تعيش أحد أزهى عصورها على مر التاريخ، في ظل وجود كبار علماء الطائفة من أمثال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء «قد»، بيئة مغايرة تماماً للبيئة التي قَدِمَ منها، حيث العلم والثقافة والأدب والإنفتاح الفكري والسياسي هي أبرز سمات هذه المدينة المُقدسة، لكن هذا لم يسبب له صدمة حضارية، كما يحدث مع البعض عندما ينتقل من مجتمع بدائي إلى مجتمع مُتحضر، تمنعه من الإنخراط في نسيج هذا المجتمع الجديد، بل على العكس تماماً، فبفضل طموحه الكبير وعزيمته القوية وإستعدادته الذهنية العالية، إستطاع أن يخوض غمار هذا البحر المُترامي الأطراف، وأن ينهل من منابعه الصافية، وبذلك نال الحظوة عند أساتذته وأصبح محل ثقتهم وإهتمامهم، وخاصةً أنه من أبناء مدينة المُصطفى صلى الله عليه واله وسلم.
عشرون عاماً قضاها الشيخ العَمَري مابين حوزات العلم وميادين الحياة العامة في النجف الأشرف، صقلت مواهبه الفطرية، وتركت بصماتها على شخصيته الفذة، وأهلته لمهمة أصعب وأخطر وطرقها وعرة، ألا وهي قيادة مجتمع، وهذا بالضبط كان لسان حال آية الله العُظمى السيد محسن الحكيم «قد»، عندما نصح الشيخ العَمَري بضرورة الرجوع إلى موطنه الأصلي «المدينة المنورة»، لأن مجتمعه هناك بأمس الحاجة إليه.
المجتمع النخلي عندما رجع إليه الشيخ العَمَري من العراق، كان أفراده بوجهٍ عام يعيشون البساطة في كل شيء، أسلوب حياتهم، مواردهم الإقتصادية، ثقافتهم الدينية، تطلعاتهم المُستقبلية، إلا أنهم كانوا مُتكاتفين كالجسد الواحد، كلمتهم واحدة، وطريقهم واحد، ويكنون إحتراماً كبيراً لمشايخهم، وهذا سهل كثيراً من مهمة الشيخ العَمَري، فقد لاقت حملته التوعوية، التي بدأها منذ أن وطأت قدماه أرض طيبة الطيبة، تجاوباً كبيراً من قبل المجتمع، المُتعطش في ذلك الوقت إلى علوم أهل البيت عليهم السلام ، والتي كان أفراد المجتمع لايفقهون منها سوى النزر اليسير، لذلك كانت أهم الأولويات التي تضمنتها هذه الحملة، هي نشر الثقافة الدينية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ذات البين.
حتى في الأمور الإقتصادية لم يبخل على أبناء مجتمعه بخبرته الطويلة التي إكتسبها من خلال ممارسته للتجارة في أرض الرافدين، وحثهم على إستثمار أموالهم المُجمدة في شراء الأراضي والتوسع في أعمالهم التجارية، إلا أنهم في هذه النقطة إختلفوا معه في وجهات النظر، وأثبتت الأيام أنه «الشيخ العَمَري» كان يملك بُعد نظر خارق للعادة، وقدرة عجيبة على التكهن بالمُستقبل، فهاهي الأراضي التي رفض أبناء المجتمع إستثمار أموالهم فيها، تضاعفت أسعارها اليوم عشرات المرات، وهذا الأمر يضعنا أمام حقيقة جلية، وهي أن آراء الشيخ العَمَري كانت بعض الأحيان لاتجد لها صدى بين أفراد المجتمع، بل أنها أحياناً تصل لحد المعارضة الشديدة، وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمعات التي تمر بمرحلة إنتقالية.
المجتمع النخلي كأي مجتمع شيعي، تعرض لجميع صنوف الظلم والقهر، بل إنه يتفوق على الكثير من المجتمعات الشيعية في هذا الجانب، ولو وضعنا تصوراً عن هذا المجتمع قبل ستين عاماً، لوجدناه عبارة عن مجتمع صغير نسبياً، ومعزول في وسط المدينة، ومحاصر من جميع جهاته الأربعة، بالمجتمعات الأخرى المناوئة له، والمناصبة لأهله العداء، والتي تتحين الفرصة المناسبة للإنقضاض عليه وتدميره.
هذا هو حال المجتمع النخلي عندما عاد إليه الشيخ العَمَري. بعض الأحيان كانت تحدث بعض المناوشات بين مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، التي سُرعان مايتم السيطرة عليها من قِبل رجالات المجتمع كالشيخ العَمَري ومشايخ القبائل.
لكن في إحدى السنين، وبعد مجيء الشيخ العَمَري من النجف، مر المجتمع النخلي بحادثة مهمة ومفصلية في تاريخه الحديث، وهي الحادثة التي درج الآباء والأجداد على تسميتها بـ" أيام الهوشَة "، والتي بدأت بمناوشات كلامية وتماسك بالأيدي بين شباب من مجتمعنا وآخرون من المجتمعات الأُخرى، مشادة عادية تحدث كل يوم، لكن ذلك اليوم كان مُختلفاً تماماً عما قبله، لأن هذه الحادثة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وبسبب تداعياتها اجتاحت المجتمع موجة عارمة من الغضب على هذا الإعتداء السافر، وقرر أفراده تأديب هذه المجتمعات التي سقتهم كأس الذل والهوان سنيناً طويلة، وهذا بالضبط ماحدث، نزال بين الطرفين، أو بمعنى أصح حرب شوارع إستمرت أسابيع مابين كرٍ وفر، سقط خلالها الكثير من الجرحى، وكانت الغلبة فيها لمجتمعنا، إلا أن الطرف الآخر لم يرض بالهزيمة قط، وحاول بكل مايملك من دهاء وخسة، دق إسفين مابين مجتمعنا النخلي والدولة، وكادوا ينجحون في محاولتهم الدنيئة هذه لولا فضل الله ورحمته، عندما أشاعوا بين الناس أن «النخليين» خارجين على السلطة ويحاولون إحتلال المدينة، بطبيعة الحال قامت الدولة ببعض الإجراءات الإحتياطية، لامجال لذكرها في الوقت الحالي، في النهاية إتضح للدولة أنها مُجرد فبركة إعلامية لاأساس لها من الصحة. خرج أفراد المجتمع من هذه التجربة مرفوعي الرأس، بعد أن ردوا إعتبارهم، لكنها أيضاً زرعت في وجدان المجتمع الخوف من السُلطة، أما الشيخ العَمَري – الذي كاد يفقد حياته على إعتبار أنه قائد هذا التمرد - فقد خرج من هذه التجربة أكثر قوة وعزماً وإصراراً للمضي قُدماً في قيادة هذا المجتمع نحو بر الأمان.
منذ تلك الحادثة إلى الآن، مرت حوالي ستون عاماً، والرجل نفس الرجل، والعزيمة نفس العزيمة، بالرغم أن عمره شارف على القرن «أمد الله في عمره»، ولازال مُخلصاً لهذا المجتمع، يقدم لأبنائه العون والمساعدة، ويحترم الصغير قبل الكبير، ويضحي بالغالي والرخيص من أجل رفعة هذا المجتمع، وهذا ديدن الرجال الرساليين أمثاله.