وفي ظلام اليأس قلت يا ربّ
حادثٌ من عجائبِ القَدَر وهو آيةٌ في زمن الماديّات التي طغت في نفوس الناس لتقول للناس إنّ قدرة الله فوق كلّ الأسباب ، وأن لا إله إلا الله ، وأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
مرّت علينا لحظاتٌ من أصعب اللحظات في حياتنا كانت كل لحظةٍ بمثابة مليون سنةٍ حتّى أذن الله لنا بالنجاة من ذلك الكرب. سقط ابني في البئر الرئيسية لمحطة الصرف الصحّي فأحسست بأنَّ قلبي قد انخلع منّي وبدون تردّد نزلت وراءه على السلّم في الظلام الحالك وتركت ابني الآخر على حافة البئر ولاقيت الكثير من المخاطر وتجسّد اليأس أمامي فلا سبيل للنجاة وشعرت بالعجز ، فتضرّعت إلى الله تعالى وابني الآخر خارج البئر كما تعلّم أن يكون في الشدائد متضرعاً إلى الله تعالى حتى استجاب الله لنا وأنقذنا
جميعاً.
إرادة الله حوّلت سبب الموت إلى سببٍ للنجاة فالمضخّات التي هي السبب الرئيسي للموت تعمل لتنقذ أحمد من الغرق وتحاول أن تبتلعه فتقرّبه من السلّم ويقف السلّم حاجزاً ليمنعه من ابتلاع المضخات له إلى أن تتوقف المضخّات فيمسك الطفل بالسلّم.
أنا مهندس مصري أعمل بالسعودية وكنت متمتعاً بإجازتي السنوية في القاهرة ، وكان هناك عطلٌ في بالوعة صرف صحّي في مدرسةٍ خارج المجمّع السكنيّ الذي أقيم به ممّا أدّى إلى تسرّب الصرف الصحّي وتلوّث المكان ، وكنت خارجاً لصلاة المغرب ومعي ابني عبد الرحمن لأنّه في سنّ تعليم الصلاة سبع سنوات فدائما أصطحبه معي للمسجد لتعويده على ذلك ، وكان معي ابني الآخر أحمد الذي يبلغ من العمر أربع سنوات لكنّه يغار من أخيه وغالباً يحبّ أن يرافقنا للمسجد ، وبعد انتهاء الصلاة وفي طريقنا للبيت يوم السبت 27 ربيع أول 1420 هـ الموافق 10/يوليو/1999م الساعة 8:30 مساءاً بتوقيت القاهرة الصيفي مررت على محطة الصرف الصحّي في مجمّعنا السكنيّ لإبلاغهم عن عطل البالوعة ،
ونحن في المحطة إذا بابني الصغير أحمد يتعثّر في غطاءٍ مكسورٍ من قطع متفرقة من الخشب الهشّ ويسقط في البئر الرئيسية للمحطة التي تبلغ من الارتفاع حوالي عشرة أمتار والاتساع كذلك وارتفاع مستوى الصرف الصحّي بها حوالي ستة أمتار ، وبها مواسير حديدية ضخمة مستواها في مستوى ارتفاع الصرف الصحّي تقريبا إذا اصطدم بها لتكسّر ، كما أنه توجد مضخّات قويّة يمكن أن تبتلع أيّ جسم ويمكن أن يتكسّر في مراوحها وكان من الممكن أن لا أجد جثّته بعد أن تتكسّر وتضيع في شبكة الصرف الصحّي ،
كما أنّه في هذا الوسط توجد أسلاك كهربائية مكشوفة بعد الفتحة مباشرة ، واحتمال الموت بمقاييس البشر أو بالقوانين الماديّة يزيد عن ألف بالمائة. بعد سقوط ابني نظرت وراءه فوجدت ظلاماً وسمعت صوت المضخّات تَهْدُرُ ووجدت سلّماً حديدياً رأسياً ممسكاً بالحائط وموازياً له كما هو موضح بالرسم ،
فأعطاني الله أملاً في إنقاذ ابني من الغرق وتذكّرت خبرتي في السباحة ، فنزلت مسرعاً على السلّم ، ولكنّي وجدت نفسي في منتصف السلّم لا أرى شيئاً من شدّة الظلام الحالك ، كما أنّي مررت في طريقي على أسلاك كهربائية مكشوفةٍ دون أن أراها ودون أن ألمسها بفضل الله سبحانه وكان من الممكن أن تصعقني ، وحاولت استجماع كلّ ما أوتيت من قوّةٍ أملاً في إنقاذ ابني والتغلّب على هذه المأساة ، ورحت أنادي على فلذة كبدي (أحمد .. أحمد) فيرتدّ صدى صوتي إلى أذني دون مجيب لأنّه يغرق وأنا لا أراه لأنقذه ،
وأوقف الموظف تشغيل المضخّات ، وبعد توقف المضخّات إذا بهدوءٍ رهيبٍ يخيّم على المكان بعد ضجّة الآلات ؛ فتخيلت الموت بعد صَخَبِ الحياة ، وأحسست بأني لن أرى أحمد بعد ذلك ، ولم تنفعني خبرتي في السباحة أو الأسباب المادية ، وانقطعت بيَ السبُل ، وتجسد اليأس في ظلمات البئر أمام نفسي ، وكانت هذه أصعب لحظة مرت عليّ في حياتي كلّها ، ولا أدري ما هو حال ابني "عبد الرحمن" الطفل الذي يرى سقوط أخيه وبعدها ينزل أبوه وهو ينتظر مصيرهما ، وكيف سيتصرف هل ينزل كما نزل أبوه وهو دائماً يحبّ أن يقتدي بأبيه ولا يدرك حجم المخاطر لأنه طفل أم ينتظر جثتيهما ، لاشك أن الله كان معه فثبّته ، ولاشك أن "عبدالرحمن" كان في أصعبَ حالٍ ، عموماً هناك أشياءٌ كثيرةٌ يعجز اللسان أو القلم عن وصفها والكرب الذي حلّ بنا لا يمكن وصفه.
وفي الله رجائي:
وصَارَعَنِي يأسٌ وحزنٌ شديد كاد أن يفتك بي ، وكدت أن أفقد وعيي ، غير أن الله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده فتح لي بفضله باب الرجاء فيه ، وأحسست بالله تعالى وعشت ثوانيَ في ضَرَاعَةٍ وإِخْبَاتٍ و خُشُوعٍ لله تعالى في أشرف لحظات العبودية وأنقاها وأصدقها ، وحاولت التغلب على اليأس الفتاك بالدعاء ، إنّني لم أتأكد من موته فأحمد الله وأقول: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ اأْجُرْنِي فِي مُصِيبَتي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا" ، وأصبر كما علّمنا القرآن وعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي الصبر قوة للمؤمن فلا ينهار عند الشدائد.
مرّت على ذاكرتي ذكرياتٌ كثيرةٌ وسريعةٌ جدّاً ، تذكّرت قصّة أصحاب الغار وحتّى هذه اللحظة لم ينقطع رجائي في الله سبحانه وتعالى ، وعلمت أنّ الله سبحانه وتعالى وعد في القرآن أنّه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، فإذا ما انقطعت الأسباب وضاقت السبل وكان الاضطرار ولجأ الإنسان لله سبحانه أجابه بفضله وكرمه ، ولكن على الإنسان أن يحفظ هذه النعمة ولا يعبد بعدها إلا الله ، أسأل الله سبحانه العون على ذكره وشكره وحسن عبادته .
ظننت بالله خيراً أنّه لا يمكن أن يخلف وعده بالإجابة وخاصةً عند عجزي واضطراري وعلمت أن الله سبحانه هو الذي خلق الأسباب والقوانين وهو سبحانه وتعالى الذي عطّل النار عن حرق سيدنا إبراهيم (صلى الله عليه وسلّم) وعطّل طاقة الوضع للماء بعد انشقاق البحر عن إغراق سيدنا موسى (صلى الله عليه وسلّم) ومن معه من المسلمين وأمر نفس الماء أن يغرق فرعون ومن معه من الكافرين ، وهو سبحانه فرَّج الصخرة عن الغار لينجيَ المؤمنين ، وهو سبحانه وتعالى بابه مفتوح لكل العباد لا يردّ سائلاً ، وعندي رجاءٌ في الله.
فاستجمعت كلّ قواي وتوجّهت إلى الله ربّي بعد أن انقطعت بي كلّ الآمال ولم تنفعني خبرتي في السباحة بل ولم تنفعني كلّ الأسباب الماديّة ، إنّ الله سبحانه وتعالى الْمَلِكُ لا حدود لِمُلْكِهِ بيده ملكوت السماوات والأرض إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، "فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين" ،
فبعد إحساسي بالعجز رُحت أقول: "ياربّ" ، ولاأقول غيرها ، ولكنّي كنت أقول في نفسي كثيراً بلسان الحال لا بلسان المقال في أصعب لحظةٍ مرّت عليّ في حياتي كلّها ، وكأنّي كنت أقول: "يا خيرَ حافظٍ ويا أرحمَ الراحمين إنّك تسمع كلامي وترى مكاني ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري أسألك مسألة الذليل وأبتهل إليك ابتهال المسكين قد خَضَعَتْ لك رقبتي وذَلَّتْ لك جبهتي أسألك مسألة المضطرين لن أغادر مكاني يا إلهي إلا وفي يدي فلذة كبدي أحمد ولي فيك رجاء فكن عند حسن ظنّي يا عظيم الإحسان" هذا ما دار في ذاكرتي في الوقت الذي لم أقل فيه إلا أعظم الكلمات: "ياربّ" ثلاث مرّاتٍ والدموع تسيل من عيني في إِخْبَاتٍ وخضوعٍ لله سبحانه وتعالى ، وفي الحال سمعت صوت حبيب قلبي أحمد يصرخ بفزع تحت رجلي ممسكاً بالسلّم وبيني وبينه حوالي ثلاث درجاتٍ ، هدّأت من روعه ونزلت وحملته ،
فإذا به يقول لي: "يا بابا هات الصندل (كلمة إنجليزية بمعنى الخف أو حذاء مفتوح وبه أربطة) الذي وقع من رجلي" ، ضممته إلى صدري وأنا أكاد أن أطير به من فرحتي بنعمة الله سبحانه وتعالى ، وينتظرنا الموظف ويراقبنا من الفتحة ولما رآني صاعداً به حذّرني من الأسلاك الكهربائية المكشوفة وكانت هذه أوّل مرةٍ أرى فيها هذه الأسلاك الخطيرة التي كان من الممكن أن تصعقني لو لمستها أو تصعق ابني الذي مرّ عليها في طريقه للغرق ،
ولا أستطيع أن أصف لكم البؤس الذي كان مرسوماً على وجه أخيه عبد الرحمن والفرحةَ والبشاشةَ والابتسامةَ على وجهه حينما رآنا ، وفي هذا الموقف قلنا جميعاً: "الحمد للهِ" ، وفي البيت انهالت دموع زوجتي وابنتي "مريم" وشكرنا الله سبحانه، وأرجعنا أسباب النجاة إلى الله وعلينا أن نشكره ونعبده ، وبعد تطهّرنا من الصرف الصحّي ووضوءنا سَجَدَت العائلةُ كلُّها لله سجدة شكر ، وبعدها -ونحن في صلاة العشاء في المسجد أنا وعبد الرحمن- ذَكَّرَني عبد الرحمن بأن أصلي ركعتي شكر لله سبحانه وتعالى وصلاّهما معي ؛ وقد قال تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" فزادنا الله سبحانه بشكرنا ولدين هما "إبراهيم" ميلاده في الخميس 21 رجب 1421هـ الموافق 19 أكتوبر 2000م ، و"إسلام" ميلاده في الإثنين 04 ذوالحجة 1424هـ الموافق 26 يناير 2004م[/align:897795d007].
__________________ (منـــــــقول)
{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }