كل وزن جاء متسقا متجانسا وإن كان خارج بحور الشعر العربي المعروفة ، لا يقدح في كونه شعرا ، واعتبار أن الشعر هو ما ورد على البحور الستة عشر أمر مخالف للمنطق وللدوائر الخليلية ذاتها ، وهناك على سبيل المثال وزن مهمل فيها لأنه مقلوب المديد ( فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن ) على أصل الدائرة ، وجاء أبو العتاهية فقال ، والشعر تذكره أغلب كتب العروض مضافا إلى غيره ، لكنه غير موجود في ديوان أبي العتاهية :
عُتْبُ ما لِلْخَيالِ **** خَبِّرينِي وَمالِي
فحاولوا تخريجه وقالوا : " الخفيف العتاهي " نسبة لأبي العتاهية ، على أن الوزن موجود قبل أبي العتاهية ، قال الشاعر :
كُلُّ عَيْشٍ تَعِلَّهْ *** لَيْسَ لِلدَّهْرِ خِلَّهْ
يَوْمُ بُؤْسى وَنُعْمى *** وَاجْتِماعٌ وَقِلَّهْ
حُبُّنا الْعَيْشَ وَالتَّكا *** ثُرَ جَهْلٌ وَضِلَّهْ
هذا الشعر من مجزوء الخفيف ، لكن بالنظر إلى البيت الثاني :
يَوْمُ بُؤْسى وَنُعْمى *** وَاجْتِماعٌ وَقِلَّهْ
فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ *** فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ
والبيت هنا ليس مصرعا ، ولا تأتي عروض هذا الشكل ( فَعولنْ ) ، لأن له عروضا واحدة هي ( مُسْتَفْعِلُنْ ) والأغلب على وجوب خبن ( مُسْتَفْعِلُنْ = مُتَفْعِلُنْ ) ، إذا هذا البيت يمكن ببساطة فصله واعتباره مقلوب المديد ، أو كما أسموه الخفيف العتاهي ، رغم أنه سابق على وجود أبي العتاهية .
نعود إلى تقطيع شعر أبي العتاهية عروضيا :
عُتْبُ ما لِلْخَيالِ **** خَبِّرينِي وَمالِي
فاعِلاتُنْ فَعولُنْ *** فاعِلاتُنْ فَعولُنْ
وبقراءة أخرى :
عُتْبُ ما لِلْخَيالِ **** خَبِّرينِي وَمالِي
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ *** فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
لكنهم رفضوا هذه القراءة واعتمدوا الأولى ، حتى لا يقال أقروا مقلوب المديد ، والقراءتان تنتجان نفس الصورة ، وما يلفت الانتباه حقا ، هو رفضهم لما جاء لدى المولدين ، والشعر موجود في كل كتب العروض:
صادَ قَلْبِي غَزالٌ أَحْوَرٌ ذو دَلالٍ *** كُلَّما زِدْتُ حُبًّا زادَ مِنِّي نُفورَا
فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ / فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ ****** فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ / فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ
ذكرنا الشعر كما ورد ، وهو مقلوب المديد على أصل الدائرة ، لكن لو أخذنا الصدر فهو بيت من الخفيف العتاهي كما أسموه :
صادَ قَلْبِي غَزالٌ *** أَحْوَرٌ ذو دَلالٍ
عُتْبُ ما لِلْخَيالِ *** خَبِّرينِي وَمالِي
فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ ** فاعِلاتُنْ / فَعولُنْ
فاعِلُنْ / فاعِلاتُنْ ** فاعِلُنْ / فاعِلاتُنْ
واستقر شعر أبي العتاهية ودخل كشكل جديد يضاف الى أشكال الخفيف عند من عدَّهُ من الخفيف والى وزن قديم عند من لم يعده من الخفيف .
وقال الزمخشري : " والنظم على وزن مخترع خارج على أوزان الخليل لا يقدح في كونه شعرا ولا يخرجه عن كونه شعرا عند بعضهم . وبعضهم أبى ذلك ، وزعم أنه لا يكون شعرا حتى يحامى فيه على وزن من أوزانهم .
والذي ينصر المذهب الأول هو أن حد الشعر " لفظ موزون مقفى يدل على معنى " . فهذه أربعة أشياء : اللفظ ، المعنى ، الوزن ، القافية . فاللفظ وحده هو الذي يقع فيه الاختلاف بين العرب والعجم . فإن العربي يأتي به عربيا ، والعجمي يأتي به عجميا . وأما الثلاثة الأخر فالأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة . ألا ترى أنا لو عملنا قصيدة على قافية لم يُقَفِّ بها أحد من شعراء العرب ، ساغ ذلك مساغا لا مجال فيه للانكار .
وكذلك لو اخترعنا معاني ، لم يسبقونا إليها ، لم يكن بنا بأس ، بل يعد ذلك من جملة المزايا ، وذلك لأن الأمم عن آخرها متساوية بالنسبة إلى المعاني والقوافي والافتنان فيها ، لا اختصاص لها بأمة دون غيرها . فكذلك الوزن ، لتساوي الناس في معرفته ، والاحاطة بأن الشيئين إذا توازنا ، وليس لأحدهما رجحان على الآخر ، فقد عادل هذا ذاك ككفتي الميزان .
ثم إن من تعاطى التصنيف في العروض / من أهل هذا المذهب ، فليس غرضه الذي يؤمه أن يحصر الأوزان التي إذا بني الشعر على غيرها لم يكن شعرا عربيا ، وأن ما يرجع إلى حديث الوزن مقصور على هذه البحور الستة عشر لا يتجاوزها . إنما الغرض حصر الأوزان التي قالت العرب عليها أشعارها . فليس تجاوز مقولاتها بمحظور في القياس على ما ذكرت " .
وهذا القول للزمخشري أصاب كبد الحقيقة ، وقد ورد في الأثر : " لم يصلنا من شعر العرب إلا أقله " ، وهذا في القياس يوجب وجود أوزان أكثر مما نعرف ، وقد وجدنا مثل هذا.
وقال حازم القرطاجني : " فإذا وضعت مقادير من المسموعات مؤلفة من الأجزاء المتقدمة الذكر على الأنحاء التي وضعت عليها العرب أبنية أوزانها وهي :
1 ـ الوضع الذي تتسق فيه المتماثلات ، نحو المتقارب .
2 ـ أو الذي تتداخل فيه المتضارعات ، نحو الطويل .
3 ـ أو الذي يتقدم فيه المتشافعان على المفرد ، نحو السريع .
4 ـ أو الذي يتوسط فيه المفرد بين المتشافعين نحو الخفيف .
5 ـ أو الذي تتسق فيه المتضارعات نسق انحدار وعلى ما يناسب من الوضعين وهو :
أ ـ تقديم المفرد على المتشافعين .
ب ـ ونسق المتضارعات نسق ارتقاء ، وربعت الخماسيات في نسق المتماثلات في الشطر الموزون ، وثلثت السباعيات فيه ، وثنيت الثمانيات والتساعيات في ذلك ، وربعت المتداخلات من الخماسيات والسباعيات ، وثلثت الواقعة بتشافع وافراد ، وَكذلك المتضارعات ، أي عدد كان ـ كان ذلك مسموعا متناسبا من شأن النفس أن تستطيبه ، ويداخلها التعجب من تأتي نسقه واطراد هيئاته وترتيباته المحفوظة "
فهل يأتينا أحد بوزن سابع عشر؟؟..
بتصرف.