رُفَقَاءُ عَلَى طَرِيقِ القُرْب
رسالةٌ يسيرةٌ، ولكنها موسوعةُ مصطلحات !
رسالةٌ يسيرةٌ التزمت نظام (الإشارات والتنبيهات)، وتجاهلت مقولة (الرفيق قبل الطريق) !
رسالةٌ يسيرةٌ تبنتْ خطابًا عرفانيًّا سلوكيًّا يتجاوزُ الواقعَ الاجتماعيَّ إلى عالمِ المثال !
------------------------------------------------
- ب-

جابر عبدالله الخلف
مُقَابَسَات
O ... وأما بالنسبة إلى كتابِ الأخلاق فأنا أرى أن الحدَّ الأدنى من التعبير السليم إذا كان متوافرًا فيه، وإن الجانبَ العلميَّ للأخلاق إذا كان متضمّنًا فيه، فهو كافٍ؛ ليكون كتابا دراسيا، أو شبهَ دراسي، أو مرجعًا للطلبة أنفسهم، فإنّ طلابَ الحوزةِ أنفُسَهمْ بحاجةٍ إلى أخلاقٍ علميةٍ لا وعظيةٍ فقط .
من رسالة للسيد محمد باقر الصدر إلى السيد كاظم الحائري
O ... غايتي أنْ أتذوقَ لذةَ اكتشافِ صنعِ الخالقِ العظيمِ . غاليليو
O ... غايتي أنْ أجدَ اللهَ وأعرفَهُ .إسحاق نيوتن
------------------------------------------
لا أعرف بالضبط ما الذي كان يدور في ذهن الأستاذ علي الحجي حينما خطَّ أوّلَ حرفٍ من هذه الرسالة، كما أنني لا أعرفُ بالضبط ما الذي كان يدورُ في ذهنه حينما انتهى من كتابةِ الحرف الأخير منها، ولكنني أعرفُ بالضبط ما يرمي من وراء كتابتها، لقد قالها ذات مرة:" هناك علاقة حميمة بين داخل الإنسان وخارجه، إذ إن خارج الإنسان إنما يصنع من داخله، فإذا تغير داخله؛ تغير وضع المجتمع الذي يعيش فيه " !! فما يرمي إليه هو بناء الذات المتزكية من أجل بناء مجتمع أزكى، وهذه هي مقولة رسالته الأولى (لكي نلتقي في الآخرة)، وقالها أيضا مرة أخرى في (رسالة الرفقاء) إنه يرمي إلى:
1ـ رفع الإرادة الجمعية خاصة في أوساط الشباب ومجاميعهم، وتحريرها من الضعف، ومن الفراغ العقائدي، ومن النظرة السلبية عند بعضهم، ثم الرقي بهم في سلم الالتزام الجميل .
2ـ توسعة الأجواء الإيمانية، واستثمار الوقت، وإيجاد حالة واثقة عند الملتزمين يصمدون بها أمام من يريد أن يبعدهم بشكل ظاهر، أو مكر خفي عن المقصد الجليل .
3ـ إعداد أكبر شريحة ممكنة من الشباب خاصة إعدادا طيبا، والمساهمة في بنائهم بناء رساليا جميلا .
4ـ إن الدور المراد من الشباب هو السعي الجاد في تثبيت القصد، وتحقيق القرب في ذواتهم، ومن ثم بث هذه الإرادة في الآخرين .
5ـ جمع الآخرين إلى عالم المحبة والطاعة والجمال .. !!
وهذا ما يمكن تسميته (مقولات الأستاذ علي الحجي)، وقد أكد عليها الكاتب في رسائله الأربع: (لكي نلتقي في الآخرة)، و(رحلة في حرم الجمال)، و(ثقافتنا بين التجديد والتطفيف)، وفي (رفقاء على طريق القرب)، وما هذه المقولات الأخيرة في (رسالة الرفقاء) إلا تنويعٌ آخرُ على مقولات سابقةٍ متلاحقةٍ؛ هي بمثابة الركائز الثابتة في كتابات الأستاذ علي الحجي وقراءاته بشكل عام .
*
تجربة الأستاذ علي الحجي في فنّ التّرسُّل، وكتابة الرسائل الإخوانية والاجتماعية تجربةٌ ثريةٌ، وتحتاج إلى وقفةٍ نقديةٍ فاحصةٍ، خصوصا رسائله (الإخوانية)، فهي لونٌ من أدبِ النثر على نحوٍ ما !! فهل آثرَ الكاتبُ ـ هذه المرة ـ الانتقالَ من (الرسائل الإخوانية) إلى لون آخر يمكن أن نطلق عليه (الرسائل الاجتماعية) ؟! إن صح لنا أن نطلق هذه التسمية ؟!
*
لقد اعتمدَ الكاتبُ (وعيَ القاريء) في قراءة هذه (الرسالة اليسيرة)، وفي هذا احترام للقاريء، وللذات الكاتبة، وللوعي أيضا !! والوعيُ في اللغة: الجمعُ والحفظُ والفهمُ والضّبطُ، وله عند أهل الاصطلاح مفاهيمُ كثيرةٌ تدورُ في مجملها حولَ (الإدراك العقلي) في أرقى معانيه .
وقد أصاب الكاتبُ وجهَ الرّأي حين اعتمدَ (وعيَ القارئ) إصابةً بالغةً .. فالوعيُ والاستيعابُ والهضمُ والتّمثلُ والمراجعةُ والتقويمُ والتّواصلُ والتّجاوزُ هي (المنهجُ الصائبُ في قراءةِ المنجزات) بأنواعها المختلفة، وهذا عُرفٌ أكاديميٌّ، ومنهجٌ علميٌّ صائب .
*
إن اشتغالَ (كاتب ما) على (فكرةٍ ما)، واستمراره في التأكيد عليها مرارًا وتكرارًا، هذا يعني أنها تشغلُ بالَه، وتأخذُ حيزا واسعا من تفكيره، وما تأكيده على طرحها إلا نوعٌ من الإصرار على تثبيتها في وجدان قارئه أو سامعه؛ وهذا ما أسماه الكاتب بـ(تثبيت القصد) !! وهذا في حدوده الطبيعة مقبول ومشروع، ويعبر عن احترام الكاتب لأفكاره ورؤاه، ولكنه إذا استحال إلى (هاجسٍ ذاتيٍّ) فقدْ يقعُ مُلقيها ومُتَلقّيها في أسرِ (المقولات الثابتة)، والاحتباس الفكري .
ومن هذه المقولات مقولة (الفراغ العقائدي)، فهي من المقولات التي كثر التخاوف منها، واستحالت إلى نوع من (الفوبيا)، وقد أكثر المشتغلون على تزكية الشباب وتوعيتهم من التخاوف والتشاكي حدَّ (التوجس) !!
إنّ هذا (التخاوفَ) و(التشاكي) يحتاج إلى إعادة نظر في أسبابه ودواعيه، وعلى المشتغلين في هذا الثغر الاجتماعي المهم أن يستمروا في انشغالهم، فهم يؤدون رسالةً اجتماعيةً ساميةً، ولكن عليهم تغيير آليات الخطاب وأدواته، وتجديد سبله وطرائقه .. وفضيلة الأستاذ علي الحجي معنيٌ بهذا الأمر أكثر من غيره، بوصفه يشتغل في معالجة مثل هذه القضايا، ويتعاطى معها بشكل مباشر قراءة وكتابة !!
إنّ لكلِّ عصرٍ مشكلاتِه وأزماتِه، ولكلِّ مرحلةٍ عمريةٍ مشكلاتها وأزماتها، وليس هذا بالأمر الجديد، ولكن يصدم المتابع في زماننا من (الهواجس) التي يفترضها (المتخوفون) حيال الشباب فيما يتعلق بقضاياهم وهمومهم !!
*
ستكون ملاحظاتي على (رسالة الرفقاء) ملاحظاتٍ عامةً، وسأحاولُ أن تكون مختصرةً موجزة، كما أنني أرجو لها أن تكون نافعةً مفيدة:
أولا ـ لن نستطيع أن أتعامل مع مادة (رفقاء على طريق القرب) بوصفها بحثًا أو مقالةً أو كتابًا، وهذا ما يصعب الأمر على القارئ، وقد أعاننا الكاتبُ على الإمساكِ بخيطٍ أبيضَ يوصل إلى (رسالته) حين قال في تعريفها على الغلاف الخارجي: (رسالة يسيرة تُعنى بطلبِ القرب وتفعيله بين الرفاق وفي المجتمع)؛ إذنْ ينبغي على القارئ أن يتعامل مع النّصِّ على أنه (رسالةٌ) لها مرسل، ولها مستقبل .(1)
وقد حدّدتِ الرّسالةُ الإطار العام لمعنى (الرفاق)، وهم (المجاميع الشبابية)، ولكنها لم تحددِ الإطارَ الاجتماعي العام للمجتمع الذي تقصده الرسالة، هل تقصد إلى المجتمعِ بشكلٍ عامٍّ .. رجالِه ونسائِه، ذكورِه وإناثِه، فتيانِه وفتياتِه !! وبما أنَّ الكاتبَ إذا لم يحددْ هذا الإطارَ فهي ـ أي الرسالة ـ خطابٌ اجتماعيٌّ عامٌّ، لم يفرقْ كاتبُها بين كبيرِ السنِّ وصغيره، ولا بين ناضجِ الرأي وفاتره، ولا بين مراهقِ (السُّلُوكِ) وراشدِه .. وهنا مربطُ القَلَق .. !!
ثانيا ـ (رسالةُ الرفقاءِ) رسالةٌ يسيرةٌ، ولكنها موسوعةُ مصطلحاتٍ، ومنظومةُ مفاهيم (عرفانية، صوفية، فقهية، عقائدية، منطقية)، وكأنَّ الكاتبَ في معتركٍ مفاهيميٍّ لم تخرجْ منه (الرسالةُ) منتصرةً، ولم يخدمها ذلك في الوصولِ إلى أهدافها وغاياتها، وهذا ما يتعارضُ مع هدفِ المرسل، ورغبةِ المُستقبل، فإنَّ هذه العُدةَ المفاهيميةَ أدخلتِ الرسالةَ في الإبهامِ اللفظي، والمعاظلةِ الكلاميةِ، وهذا أمرٌ لا يمكنُ فهمُه في (رسالةٍ) لها (بُعْدٌ اجتِمَاعِيٌّ مَقْصُودٌ) كما عبر كاتبها في ص21.
إنَّ الانغماسَ (المقصودَ أو غيرَ المقصودِ) في هذا المعتركِ المفاهيميِّ أوقعَ (الرسالةَ) لا (المُرسِلَ) في شبهةِ التّعالي المعرفي، كما أنه أوقعَ (القارئَ) في شبهة الفهم الخاطيء، أو الفهم السقيم (كما عبر المتنبي)، وليس من مُرادِ الكاتب ومقصودِه الوقوعُ في (الشبهات)، وهو مُذْ عرفناهُ أحدُ خصوم الشبهات الألداء، بوصفه أحدَ المتنسكين في (حرم الجمال)، ومحراب (رب الجمال) !
وهذه النقطة بالذات تحتاج إلى وقفةٍ أخرى مُتَمّمةٍ عند الحديث حول (لغة التأليف وأسلوب الكتابة) !!
ثالثا ـ عرّف الكاتبُ (رسالتَه) بأنها (بحثٌ في السلوك)، وهي بذلك تعالج مفهوم السلوك بمعناه العرفاني، وبما أنها كذلك فهي بحث عن السلوك ، وليست في السلوك، وبما أنها بحث عن السلوك فهي تدخل من أوسع أبواب العرفان، ألا وهو (السلوك العرفاني)، والكاتب لم يمهد بمقدمات تعريفية (...)، وإنما قذف بالقاريء في يَمِّ العرفانِ وبحرِه ومحيطِه، وعلى القاريء أن يكون مستعدا لهذه التجربة دون مقدمات تمهيدية (...)، ولعلَّ مُرادَ الكاتب أن يقومَ بما قامت به أمُّ موسى في قوله تعالى:﴿ أنِ اقذفيهِ في التابوتِ فاقذفيهِ في اليمِ فليُلْقِهِ اليمُّ بالساحلِ ..﴾، ولا شك أنَّ كاتبنا يقصد بنا ساحلَ المعنى !!!
واحترامًا للعرفان ورموزه وجلالته وإشراقاته أعترف بأنه ليس لدي خبرة، أو تجربة تسمح لي بالتحدث عنه، ولكن أزعمُ أنّ لي تجربةً في قراءة كتابات الأستاذ علي الحجي؛ ولذا كلامي عن رسالة (رفقاء على طريق القرب)، وليس عن العرفان ومفاهيمه ومعانيه .
رابعا ـ أكّد الكاتبُ في رسالته تحت عنوانين اثنين هما (دواعي الكتابة)، و(بيانٌ في المقصد) على سمو الهدف، وعلو القيمة من تأليف هذه الرسالة، وهو" الانتماء الحقيقي للسلسلة التوحيدية .." !! وأكد أيضا على سمو الوسيلة، وعلو غاياتها بقوله:" لنعلم جميعا أن السير في هذا الطريق إنما هو جزءٌ من (التمهيد) ينمو من خلال الأفراد وتأثيرهم في العلاقات، وهو جانبٌ حي وواسع يمكن إحياؤه قدر المستطاع؛ ليمتدَّ من خلال النفوس المتحابة، والقلوب المترابطة، والأرواح المتآلفة، ومن خلال ربط شريحة بعد شريحة من الشباب الواعد خاصة؛ ليحملوا هذه السمة، ويؤكدوا ذلك الانتماء للسلسلة المباركة، ثم ليظهر في سلوكهم الخارجي مما يرفعُ الحالةَ الاجتماعيةَ على أساسٍ قويٍّ ومتين" !!
لا شَكَّ أنّ ما تفضل به الكاتبُ في (رسالته) هدفٌ سامٍ، وغايةٌ شريفة، ولكنّ البُعدَ القيميَّ فيها لا ينبغي أن يكون حاجبًا دون نقدها وتقييمها، خصوصا من خلال الشباب الواعد !!
أولى ملاحظاتي (على هذا المقطع) هي: افتراض الكاتب أن العلاقات نظام يتم إحداثه بالانتخاب، وأنه يمكننا أن نخلق مجاميع شبابية واعدة، ويمكن أن يتم اختيارهم على معيارية معينة كالمعيارية العرفانية مثلا، ويمكن لهؤلاء الشباب الواعدين أن يؤثروا على المجاميع الشبابية غير الواعدة، وافتراض الكاتب أيضا أنه يمكن إخضاع نظام العلاقات والتجمعات الشبابية (للتوظيف الرسالي) دوما !!
إن العلاقات الاجتماعية، وخصوصا (الصداقات) لا تتمُّ ـ أحيانا كثيرةً ـ بطريقة اختيارية، وإنما تتم بطريقة تلقائية تخلقها الأهداف المشتركة البسيطة، لا الغايات الكبيرة والمباديء المتناهية في رساليتها، وتتطور العلاقة وفق الظروف المحيطة بها، وضمن الإطار المشترك الذي يكونه الأصدقاء حول مجموعتهم، وهذا لا يعني أن هذه المجموعة واعدة، وتلك غير واعدة، وهذه رسالية، وتلك غير رسالية .. إن في ذلك من المحاذير الكثيرة التي لا يمكن تجاهلها، وأهمها خطورة الفرز الاجتماعي، والانغلاق، وخضوع الشاب تحت وطأة (البرمجة الثقافية) خارج إطار تكوينه المرحلي، الخاضع للذاتية والفردية وحب الاستقلال والتوجه لبناء حياته ومستقبله بالطريقة التي يراها مناسبة مع أصدقائه !!
إن التأثر والتأثير بين المجاميع الشبابية الواعدة وغير الواعدة ينبغي أن يكون تلقائيا متدفقا دون قيود أو سدود أو حدود بعيدا عن (المتواليات الهندسية)، فما يمكن حسمه في الرياضيات بالمتواليات الهندسية، ربما لا يكون نافعا، أو مُجْديًا في العلاقات الاجتماعية، والصداقات .
خصوصا أن الكاتب قد بيّن في (بيان المقصد) بأن هذه الرسالةَ تجربةٌ ذاتيةٌ شخصيةٌ بقوله:" لا يخفى أن هذه الكتابة لها سمة شخصية، ولعلها احتوت بعض التجربة إلا أن ذلك لا يمنع أن يستفيدَ منها من لم يعشْ مقتضاها .." !!
ولي أن أتساءل: كيف يمكن أن يُقنع الكاتب ُشابًّا واعدًا، أو غيرَ واعدٍ متقدا بالحماسة، مشغولا بالمستقبل ورؤاه وأحلامه أن يتجرعَ تجربةً (لم يعشْ مقتضاها)، بمعنى أنها لم تخالط فكره وأحاسيسه ومشاعره !! لا شك أنّ هذا الشاب سيتجرعها ولا يكاد يُسيغها ! (2)
خامسا ـ أشار الكاتب في بيانِ مقاصديّة الرسالة إلى البُعدِ الاجتماعي من كتابتها بقوله:" فإن تربية جيل من الشباب خاصة على طلب الالتزام الواعي المرتكز على المعرفة والمحبة وطلب القرب إنما هو مقدمة لتحريك الجانبِ الدّفعي والرّفعي في غيرهم بما له أثره في المجتمع وما أحوجنا في هذا الزمن الذي امتلأ فتنة وإغراء إلى منارات بين الشباب من الشباب أنفسهم يخططون بكل ثقة في تلك المجاميع من خلال علاقاتهم ومحبتهم وسلوكهم"
لا يخفى تركيز الكاتب على شريحة الشباب، وهذا مقصدٌ مشروعٌ (هَامٌّ وَمُهِمٌّ)، ولكن لم يركزِ الكاتبُ على أهمية التوازن في تشكيل الوعي من خلال الرسالة، فمن المهمِّ جدًا تربيةُ جيل الشباب من خلال الالتزام الواعي على (ثقافة الحقوق والواجبات)، و(ثقافة الإنجاز والإتقان)، و(عبقرية الاهتمام)، و(المسؤولية)، و(العدالة)، و(الحرية)، و(المساواة)، و(سيادة حكم القانون)، و(بناء الأخلاق المدنية)، كما بدأ يتعلمها شبابُ العالم العربي من (مغربه) إلى (مشرقه)، وهي من أخلاق هذا العصر التي ينبغي أن يؤسسَ عليها في تشكيل الوعي ! وَمَا أَحْوَجَنَا .. وَمَا أَبْعَدَنَا !! (3)
سادسا ـ أشار الكاتبُ إشارةً عابرةً خاطفةً ص25 إلى أن المصادر التي استقى منها الأدعيةَ والرواياتِ هي (أسطوانة مكتبة أهل البيت، الإصدار الأول 1426هـ)، وختم إشارتَه العابرةَ الخاطفةَ بقوله:" ولذا جرى التنويه " !! وفي هذا خلل منهجي في التعامل مع المصادر، خصوصا مع نصوصِ أدعيةٍ ورواياتٍ وزياراتٍ من المهم جدا العناية بمصادرها وتوثيقها توثيقا علميا، ولا يكتفي الكاتب بنقلها من الأسطوانات الممغنطة في رسالة مكتوبة (...)، وفي عبارة " لذا جرى التنويه " تبسيط مخلٌّ، وتنويهٌ جارٍ مجرى المشافهات اليومية !!!
سابعا ـ يمكن أن يلاحظ القاريء بأن منابع (رسالة الرفقاء) مختلفة ومتفرقة .. وأسميتها (منابع الرسالة)، ولم أقل (مراجع الرسالة ومصادرها)، لأنه تعذر عليَّ معرفة مصادرها، فلم يذكر الكاتبُ في آخر الرسالة مراجعه ومصادره، وإنما وزعها بين متن الرسالة وهامشها، وهذا اللون من التعامل مع المصادر لا شك أنه مربك ومحير، ولن أتوقف عند أهمية التعامل مع المصادر من الناحية المنهجية الفنية المتبعة، ولكن يهمني التوقف عند اعتماد الكاتب كثيرا في النقل من كتاب بحار الأنوار باعتباره يشكل منبعا مهما من منابع الرسالة .
من المهم جدا تقييم منابع الرسالة ومصادرها تقييما علميا من قبل الكاتب، لسبب بسيط ومهم، وهو ظهور الرسالة بمظهر (الرسالة العملية) في فقه السلوك والعرفان (إن صح التعبير)، بمعنى أنها ستكون مصدرا عمليا للممارسة اليومية، فعليه لا بد من الجهد العلمي الدقيق في توثيق النقل من المصادر، ومما يلاحظ فإن الكاتب لم يبذل جهدا في ذلك .
وهنا يمكن أن نذكر بعض الملاحظات حول هذه النقطة:
1ـ لم يذكر الكاتب مصدر بعض الأحاديث والأخبار، وإنما أرسلها إرسالا بين سطور الرسالة، وكأنها جملٌ تأكيدية .
2ـ أكثر الأحاديث المنقولة في الرسالة من كتاب بحار الأنوار (فقط)، ثم من مستدرك الوسائل .
3ـ النقل من بعض الكتب التي يكثر الأخذ والرد حولها، وهي تحتاج إلى غربلةٍ نقديةٍ، وهناك من له اشتغال على ذلك من المحققين، من النافع جدا للرسالة الإطلاع على جهودهم .
4ـ النقل لبعض الأدعية والزيارات والمناجاة (المنسوبة)، التي لم تثبت نسبتها، كالمناجاة الشعبانية المنسوبة لأمير المؤمنين، فإنه يوجد أخذٌ وردٌّ حول نسبتها أو مضامينها .
5ـ إيراد بعض الكتب دون ذكر مؤلفيها .
يمكن أن نضرب مثالا واحدا حول النقل من بحار الأنوار وكثرته، في ص20 يقول الكاتب:" قال إمامنا الحجة (ع): إذا أردتم التوجه بنا إلى الله تعالى وإلينا؛ فتقولوا كما قال الله تعالى: (سلام على آل يس) !
هنا عدة ملاحظات:
أ ـ لم ينقل الكاتب الآية الكريمة حسب الرسم القرآني، فهي كما في المصحف 130/الصافات ﴿ سلامٌ على إِل يَاسينَ ﴾، وليس (آل يس) بالحروف المقطعة كما في الرسالة .
ب ـ وردت قراءات أخرى في كتب التفسير على معنى مراد الخبر الذي ذكره الكاتب، ولها توجيهات كثيرة عند المفسرين واللغويين، ولكن المعنى الراجح على ما يبدو هو قراءة (إل ياسين) بمعنى (إلياس) حسب سياق الآيات . (4)
ج ـ علق الشيخ آصف محسني في كتابه مشرعة البحار 1/423 تحت عنوان (أبواب الآيات النازلة فيهم عليهم السلام): الباب 8، إنَّ آلَ يس آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه رواية معتبرة سندًا .
د ـ ذكر الشيخ محمد جواد مغنية، في التفسير الكاشف، 6/354:" قال جماعة من المفسرين إن أبا إلياس اسمه (يس)، فعليه يكون المراد بإل ياسين إلياس بالذات؛ لأن الابن من آل الأب، ومهما يكن فإن المقصود هنا بإل ياسين هو إلياس بقرينة السياق، فقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة نوحا، وقال سلام على نوح، ثم ذكر إبراهيم، وأتبعه يقول سلام على إبراهيم، ثم موسى وهارون، وقال سلام على موسى وهارون، ثم ذكر إلياس وإنه من المرسلين، وقال سلام على إل ياسين، فتعين أنه هو المقصود من آل يس "
ثامنا ـ أكثر الكاتب في نقل الروايات والأخبار من كتاب بحار الأنوار، ونقل أيضا بعض النقول من مستدرك الوسائل، وقد نقد العلماء المحققون هذه الكتب الحديثية نقدا علميا، من الأهمية مراجعته قبل النقل منها، ولم أدرِ لماذا اختار الكاتب الاعتماد على كتب الحديث التي يكثر الأخذ والرد حولها، وسواها أكثر أصالة منها !! لقد بذل الشيخ آصف محسني جهدا علميا في تحقيق بحار الأنوار، فيكفي أن يطلع الكاتب على كتاب مشرعة البحار، للشيخ آصف محسني، وسيقرأ تحقيقا علميا لمروياته حسب السند . (5)
تاسعا ـ لغة التأليف وأسلوب الكتابة:
من المهم جدا في التأليف، خصوصا في (الرسائل) ذاتِ البعد الاجتماعي وضوح (القصد)، و(المراد)، و(المطلوب)، من خلال وضوح عبارات النص وتراكيبه، وترابطها ترابطا لغويا سلسا سائغا للقراء، ومن الأهمية وعي الكاتب بالمفردات وأثرها ودلالاتها، والتوظيف المحكم لها، وينبغي على الكاتب إعادة النظر، وإجالة الفكر، وتقليب الرأي في استعمال اللغة المناسبة، والأسلوب البين؛ احترازًا من وقوع النص في الإبهام والتعمية والاستكراه اللفظي، وضرورة ممارسة الرقابة الذاتية على المكتوب، وهناك فرق كبير من أسلوب المشافهة، وأسلوب الكتابة، وعلى الكاتب أن يختار اللغة والأسلوب كما يشاء، ولكن عليه أن يخضع لشرط الكتابة .
إن استعمال الكاتب العبارة الآتية مثلا، وهي قوله:" الأثر المنحدر في قوس النزول " لم أجدها عبارة سائغةً مبنىً ومعنىً !! وهناك أمثلة أخرى، وتراكيب كثيرة، وجمل مبعثرة لم تخضع لشرط الكتابة، بل أخضعها الكاتب لشرطه هو .. !! (6)
يقول أحمد الشايب في كتابه (الأسلوب):" الكلامُ الذي يتجهُ إلى العاطفةِ يجبُ ألا يقفَ عندَ إفهامِ الحقائقِ، بلْ لا بدَّ من إيقاظِ الشعورِ، وبعثِ الخيال " وهذا الكتابُ نافع مفيد في موضوع تجويد الأسلوب، ولغة التأليف، وكاتبه خبير قدير في ذلك .
إنَّ قوةَ الانفعالِ وتدفقَه ـ أحيانا كثيرة ـ لا تكفي في الكتابة، لا بد إذن من قوة الأسلوب، وجودة اللغة، ووضوح العبارة، والتجانس الطبيعي بين اللفظ والمعنى، وتناغم التركيب مع أساليب العربية .
لقد أتممت قراءة الرسالة، ولكنني لم أتمكن من إتمام القراءة الناقدة، وتدوين ملاحظاتي حولها، وقد توقفت عند ص25 .
كنتُ قد هممتُ بتسجيل ملاحظاتي حول (الرسالة) صفحةً صفحةً .. ولكن حال دون ذلك أسباب وعوائق !! وأحد هذه الأسباب هو رغبتي في أن تكون القراءة بقصد التساقي المعرفي، وليس من أجل تدوين كل وجهات النظر المختلفة، فالهدف أن تبقى كل التوجهات الكتابية قائمة على سُوقِها تُعجبُ القُرّاء بعيدا عن التوهين النقدي، أو فرض وجهات النظر الذي قد يخلق جوا من الاختلاف السلبي، والدخول في نفق الخلاف والإقصاء .
إن هذه الرسالة (قبل النقد وبعده) هي رافد من روافد التنوع والاختيار، وليس نقدها اليوم إلا نوعا من التعمق في قراءتها، والتمعن في معانيها؛ وليبقى كاتبها كما كان بيننا يشبه رمانة الميزان، يقوّمُنا بسوط حبه، ورحيق عرفانه .. !! وسنبقى نُخطِيء ونُصيب فإن أصبنا شجعنا، وإن أخطأنا قومّنا، فما زلنا معا نبحث في دروب مختلفة عن (الجمال) و(الكمال) المطلقين، وإن اختلفت خطانا فسنلتقي يومًا ما في (الآخرة) .. !!
شكرًا لحضورِكَ البَهيِّ بينَ (ناقدِيكَ) لا بينَ (مُريديِك) .. والسّلام !

جابر عبدالله الخلف
29 جمادى الآخرة 1432هـ
---------------
الهوامش والإضاءات
(1) الرسائل من فنون القول، وهي لون من ألوان النثر كالخطابة والقصص والرواية، لها خصائصها وأساليبها، وهي من الفنون الأدبية العربية التي كانت معروفة منذ عصر ما قبل الإسلام، ولها أنواع عديدة، منها: الوصايا، والرسائل الإخوانية، والرسائل الديوانية، والرسائل الأدبية، والرسائل الرسمية الإدارية، وقد عرف الأدب العربي هذا اللون نظما ونثرا، وهي رسائل تهتم بمحاسن الأفعال والأقوال، وقد كثر التأليف في هذا الفن، ومن أشهرها: رسائل الجاحظ (46 رسالة)، وهي رسائل أدبية وثقافية وعلمية وأخلاقية وسياسية وتربوية وإسلامية .. ، ورسائل إخوان الصفا، وغيرهما كثير . انظر كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا)، القلقشندي .
(2) يرى أبوحامد الغزالي ـ حسب الموسوعة الحرة ـ أن الأخلاقَ الفاضلةَ لا تُولدُ مع الإنسان، وإنما يكتسبها عن طريق التربيةِ والتعليم من البيئةِ التي يعيشُ فيها، والتربية الأخلاقية السليمة في نظر الغزالي تبدأ بتعويد الطفلِ على فضائلِ الأخلاق، وممارستها مع الحرص على تجنيبه مخالطة قرناء السوء؛ حتى لا يكتسبَ منهم الرذائل، وفي (سن النضج العقلي) تُشرحُ له الفضائل شرحًا علميًا يبين سبب عدها فضائل، وكذلك الرذائل وسبب عدها رذائل؛ حتى يصبح سلوكه مبينًا على علمٍ ومعرفةٍ واعية .
(3) يوجد تضخم معرفي غير مبرر في المعارف الاعتقادية، والتعبديات المختلفة على حساب المعارف الحياتية، والمعاملات اليومية التي تسهم في رقي حياة الإنسان وسعادته وهي (الطيبات الدنيوية العمرانية) التي أحلّها الله سبحانه وتعالى لعباده، كما يوجد انحسار ثقافي عام عن تعلمها وتعليمها، والاكتفاء بتضخيم المعارف العبادية والاعتقادية . قال تعالى:﴿ وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنس نصيبَك من الدنيا وأحسنْ كما أحسنَ اللهُ إليكَ ولا تبغِ الفسادَ في الأرض إنَّ اللهَ لا يحبُّ المفسدين﴾ 77/القصص .
(4) ملخص أقوال بعض اللغويين والمفسرين بأن (إل ياسين) تعني (إلياس): 1ـ الفَرّاء في معاني القرآن 2/ 391 ذكر " بأن هذا الاسم من العبرانية، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا العربُ، وإن شئتَ ذهبت بإلياسين إلى أن تجعله جمعًا فتجعل أصحابه داخلين في اسمه "، ثم ذكر الوجه الأول بأنَّ (إل ياسين) تعني (إلياس)، وذكر الوجه الآخر عن تفسير الكلبي على أنّ آل ياسين آل محمد (ص)، ثم قال:" والأوّلُ أشبهُ بالصّوابِ "، وضرب مثالا آخر بقوله تعالى:" طور سيناء " و" طور سينين " . 2ـ المبرّد في الكامل في اللغة والأدب 1/ص84 يقول:" وقرأ بعض القُرّاء ﴿سلامٌ على إِل ياسين﴾ فَجَمَعهُمْ على لفظ إلياسَ، ومن ذا قول العرب المسامعة والمهالبة والمناذرة؛ فَجَمعهُم على اسم الأب . 3ـ البغدادي في خزانة الأدب، يقول:" أراد النسب إلى إلياس، وكما جمع هذا النحو على حد التثنية، كذلك جمع التكسير في نحو المهالبة والمناذرة . 4ـ أبو العباس ثعلب في مجالسه 1/ص9:" قال أبو العباس سلام على إل ياسين مثل إدريسين يعني أهل ياسين . 5ـ يقول سيد قطب في ظلال القرآن ج23/ص2998:" روعيت الفاصلة وإيقاعها الموسيقي في إرجاع اسم إلياس بصيغة إلياسين على طريقة القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير . 6ـ هناك من يرى بأنّ لفظيْ (يس) و(طه) في القرآن ليسا من أسماء النبي (ص)، وإنما هما من الحروف المقطعة .
(5) حسب حيدر حب الله في كتابه القيم (نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي)، العلماء يقسمون كتب الحديث درجات: الدرجة الأولى (الكتب الأربعة)، والدرجة الثانية (وسائل الشيعة)، والدرجة الثالثة (مستدرك وسائل الشيعة)، و(بحار الأنوار) . في كتابه أنوار الهداية يقول السيد الخميني 1/244ـ 245:" هذا حال كتب رواياته غالبا كالمستدرك، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجد، وهو رحمه شخص صالح متتبع، إلا أن اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب، وما لا يقبله العقل السليم، والرأي المستقيم أكثر من الكلام النافع" . ويرى الشيخ آصف محسني أن كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي أفضل من بحار الأنوار، وأن كتاب جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي أفضل من الوسائل، وعليه فبحار الأنوار أدنى الموسوعات الحديثية الشيعية قيمةً . انظر كتاب (نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي)، حيدر حب الله، ص579 .
(6) للشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1998م) كتابٌ بعنوان (إلى الطليعة المؤمنة)، وهو عبارة عن (رسائل) متبادلة بينه وبين (جيل الشباب)، وهي (48 رسالة) تربوية خلاّقة ذات منحى علمي، وأسلوب أدبي، وهي خَليقةٌ بالقراءةِ، فهي نافعةٌ مفيدةٌ في منهجها العلمي، وأسلوبها الأدبي، وتوجهها التربوي، وله أيضا كتبٌ أخرى، منها: (الإسلامُ ينابيعُه مناهجُه غاياتُه) .