الحلقة الثامنة
إثبات وجود الله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعداءهم
البرهان الرابع: برهان الوجوب والإمكان ( الغنى والفقر) :-
رابعاً: الدور وبطلانه:-
" الدور عبارة عن كون الشيء مُوجِداً لشيء ثانِ، و في الوقت نفسه يكون الشَّيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأَول. و هذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأَول علة للثاني، تقدُّمُه عليه و تأخُّرُ الثاني عنه: و مقتضى كون الثاني علة للأول تقدُّمُ الثاني عليه. فينتج كونُ الشيء الواحد، في حالة واحدة، و بالنسبة إلى شيء واحد، متقدِّماً و غير مُتَقَدِّم، و متأخراً و غير متأخر. و هذا هو الجمع بين النقيضين، و بطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية. فينتج أنَّ الدّورَ و ما يستلزمه محال.
و لتوضيح الحال نمثل بمثال: إِذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة و اشترط كلُّ واحد منهما لإِمضائها، إمضاءَ الآخر، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر و عند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة، لما ذكرنا من المحذور.
و هاك مثالا آخر: لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع، غيرَ أَنَّ كلاًّ يشترط في إقدامه على حمله إِقدام الآخر. فلن يُحمل المتاع إلى مكانه أَبداً" ( الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل ج1 – الشيخ جعفر السبحاني ).
خامساً: الإشكال وجوابه:-
الإشكال: أنتم تقولون : أن لكل شي خالقا ومبدعا , إذا فمن خلق اللّه عزوجل ؟.
والـعـجـيـب هو أن بعض فلاسفة الغرب طرحوا هذه الأسئلة أيضا , مما يدل على مقدار تصورهم السطحي في المباحث الفلسفية وتفكيرهم البدائي .
يـقـول الـفيلسوف الانجليزي الشهير ( برتراندراسل ) في كتابه ( لِمَ لَمْ أكن مسيحيا؟ ) : ( كنت أعـتـقـد باللّه في شبابي , وكنت أعتقد ببرهان علة العلل كأفضل دليل عليه , وهو أن كل مانراه في الوجود ذو علة معينة , ولو تتبعنا سلسلة العلل لانتهت بالعلة الأولى , وهي مانسميه باللّه .
لـكـنـنـي تراجعت عن هذه العقيدة بالمرة فيما بعد , لأنني فكرت بأنه لوكان لكل شي علة وخالق , لوجب أن يكون للّه علة وخالق أيضاً ).
الجواب: عندما نقول : أن لكل شي خـالـقـاً ومـوجـداً ,نـقـصـد ( كـل شي حادث وممكن الوجود ) , لذا فهذه القاعدة الكلية صادقة فـقـط بخصوص الأشياء التي لم تكن من قبل وحدثت فيما بعد , لا بخصوص واجب الوجود الذي كان موجودا منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد , فوجودٌ أزلي لا يحتاج إلى خالق , لكي نسأل عن خالقه قائم بذاته ولم يكن معدوما من قبل أبدا , لكي يحتاج إلى علة وجودية .
وبتعبير آخر : إن وجوده من ذاته لا من خارج ذاته , وهو لم يكن مخلوقا ,هذا من جهة , ومن جهة أخـرى كـان مـن الأفضل لـ ( برتراندراسل ) ومؤيديه أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال : لو كان للّه خـالـق فسيرد نفس هذا الإشكال مع الخالق المفترض , وهو : من خلق ذلك الخالق ؟! ولو تكررت هـذه الـمسألة وافترضنا أن لكل خالق خالقا لأدى ذلك إلى التسلسل , وبطلانه من الواضحات , ولو تـوصلنا إلى وجود يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج إلى موجد وخالق آخر ( أي واجب الوجود ) , فذلك هو اللّه رب العالمين .
ويـمـكن توضيح هذه المسالة ببيان آخر وهو : أننا لو لم نكن من المؤمنين على سبيل الفرض وكنا نـؤيـد عقيدة الماديين , لواجهنا نفس هذا السؤال ,فبتصديقنا قانون العلية ( السببية ) في الطبيعة , وأن كل شي فـي الـعالم معلول لآخر , سيردهذا السؤال الذي واجهه المؤمنون باللّه تعالى وهو : لو كانت جميع الاشياء معلولة للمادة فما هي العلة التي أوجدت المادة إذاً ؟.
وسـيـضـطرون أيضا للقول : بأن المادة أزلية , وكانت موجودة منذ الأزل ,وستبقى إلى الأبد , ولا تحتاج إلى علة وجودية , وبتعبير آخر هي ( واجب الوجود ).
وعلى هذا الأساس نلاحظ أن جميع فلاسفة العالم سواءً الإلهيين منهم والماديين يؤمنون بوجود أزلي واحد , وجود لا يحتاج إلى خالق وموجد , بل كان موجودا منذ الأزل .
والـتفاوت الوحيد هو أن الماديين يعتقدون بأن العلة الأولى فاقدة للعلم والمعرفة والعقل والشعور , ويعتقدون بأنها جسم ولها زمان ومكان لكن المؤمنين يعتقدون بأن العلة الأولى ذات علم وإرادة وهدف , وهو اللّه تعالى وينزهونه عن الجسمية والزمان والمكان , بل يعتقدون بأنه فوق الزمان والمكان .
وجـميع الأدلة التي أوردناها سابقا في بحوث معرفه اللّه تعالى تؤيد هذه الحقيقة , وهي أن المُبديء الأول لهذا العالم ذو علم واطلاع غير محدود.
وعـلـيـه فـقد أخطا ( راسل ) في تصوره بأنه يستطيع التهرب من مخالب هذا السؤال بترك زمرة الـمـؤمـنـين والإلتحاق بالماديين , لأن هذا السؤال ملازم له دائما , حيث أن الماديين يعتقدون أيضا بقانون العلية ويقولون : بأن لكل حادثة علة معينة .
إذا , فـالطريق الوحيد في حل هذه المشكلة هو إدراك الفرق جيدا بين ( الحادث ) و ( الأزلي ) , وبـيـن ( ممكن الوجود ) و ( واجب الوجود ) , لكي نعلم أن الذي يحتاج إلى خالق هو الموجودات الحادثة والممكنة , أي أن كل مخلوق يحتاج إلى خالق , وماليس بمخلوق فلا يحتاج إلى خالق .
مصدر الإشكال وجوابه : نفحات القرآن ج4- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
سوف أكتفي بهذا القدر من براهين إثبات وجود الله عز وجل ، وسوف يكون الحديث في الأيام المقبلة حول التوحيد وأقسامه – إن شاء الله تعالى - .
وفقكم الله