الحلقة السادسة
إثبات وجود الله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعداءهم
البرهان الثالث: برهان التغيّر والحركة:-
•قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ{75} فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ{76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ{77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{79}} سورة الأنعام.
•" برهان الحركة هو عبارة عن الاستدلال على الله عز و جل بحركة الأجسام ، الأجسام لا تخلو من حركة ، إما دائمة كحركة الأفلاك و النجوم و الكواكب و إما منقطعة ، مثل حركات أجسامنا الأرضية ، لكن لا يخلو جسم من حركة ، ولو من جهة حركة الأرض ، فإن للأجسام كلها حركة مع الأرض و إذاً لاشك في وجود حركة" ( سلسلة دروس في التوحيد ـ الدرس الرابع،موقع دار السيدة رقية للقرآن الكريم الإلكتروني).
•" فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحرّكاً ، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيين في تغيّر ، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سكون ، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك وبديهي أنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر ، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة.
إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحرّكة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها ، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها ، وأفلاكها ومجرّاتها .. لابدّ لها ممّن يحرّكها ويديم حركتها ، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنّها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام .
ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلاّ بدافع ومحرِّك ، وهذا أمر بديهي يدركه كلّ ذي لبّ وشعور ، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتحوّلات الدائمة من محرّك حكيم قدير .
فمن ترى يمكن أن يكون مصدر هذه القوّة وفاعل هذه الحركة ؟
هل المخلوقات التي نراها يعرضها الضعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة ؟!
وهل يناسب أن يكون المحرّك غير الله القوي الخبير ؟
ولقد سُئِلَتْ امرأة بدويّة كانت تغزل الصوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود الله تعالى ، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت : دليلي هو هذا التوقف ..
قالوا : وكيف ذلك ؟
فأجابت : إذا كان مغزل صغير لا يتحرّك إلاّ بوجود محرِّك ، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدوّار الكبير بلا محرّك له ؟" (العقائد الحقّة - السيد علي الحسيني الصدر ).
•الآيات التي افتتحنا بها هذا البرهان من الشواهد المهمة والواضحة التي يستدل بها علماؤنا الأبرارعلى برهان الحركة ، لذا دعونا نلقي نظرة فاحصة على محتواها من خلال الإستفادة من توضيح تفسير علمائنا لها.
" تبيّن الآيات السابقة استدلال إِبراهيم من أُفول الكواكب والشمس على عدم ألوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كلّه، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إِبراهيم: هذا ربّي! ولكنّه إِذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ).
ومرّة أُخرى رفع عينيه إِلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإِشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربّي: ولكنّ مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأُفق.
هنا قال إِبراهيم: إِذا لم يرشدني ربّي إِلى الطريق الموصل إِليه فسأكون في عداد التائهين (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إِبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربّي فإِنّه أكبر وأقوى ضوءاً، ولكنّه إِذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إِبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).
الآن بعد أن عرفتُ أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إِلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات، فاني أتجه إِلى الذي خلق السموات والأرض، وفي إِيماني هذا لن أشرك به أحداً، فاني موحد ولست مشركاً: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)" (تفسير الأمثل ج4 – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي).
وهنا يذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ضمن تفسيره للآيات الآنفة الذكر الطرق الثلاثة التالية التي استطاع من خلالها إبراهيم الخليل عليه السلام إثبات وحدانية الله عز وجل، فيقول – أي الشيخ ناصر - :-
"1 ـ إِنّ الله المربي، كما يستفاد من كلمة «رب» لابدّ أن يكون دائماً قريباً من مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة، وعليه لا يجوز لكائن يغرب ويختفي ساعات طويلة، بنوره وبركته وتنقطع صلته كلياً عن الكائنات الأُخرى، أن يكون ربّاً وإِلهاً.
2 ـ إِنّ كائناً يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية، لا يمكن أن يحكم على هذه القوانين ويملكها؟ إنّه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر على أدنى إِنحراف عنها ...
3 ـ إِنّ الكائن المتحرك لا يمكن إِلاّ يكون كائناً حادثاً، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليل على الحدوث، لأنّ الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث، وأن ما يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركة، لا يمكن أن يكون كائناً أزلياً وأبدياً (تأمل بدقّة)" (تفسير الأمثل ج4 – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي).
•أخيراً ،دعوني أنقل لكم هذين المثالين الجميلين اللذين ومن خلالهما نستطيع أن نجزم بوجود الحركة في كل جزء من أجزاء هذا الكون الفسيح:-
"1- حركة عالم الطبيعة بحسب علم الهيئة :
الـمحسوس في بدو النظر سكون الأرض , ولكنه قد ثبت في القرون الأخيرة وتبين بالعين والعيان حركة الأرض حركة موضعية على محورها الممتد بين قطبيها في كل يوم وليلة , وحركة انتقالية حـول الشمس في كل سنة , وما هو المحسوس في بدو النظر من دوران الشمس حول الأرض خطأ في الحس .
ثم ثبت في علم الهيئة حركة الشمس مع ما تدور حولها من السيارات بأجمعها , وأنها تسير بسرعة ( 250 ) كـيلومترا في الثانية , وبهذه السرعة تسير مسافة امتدادية لا دور فيها إلا مرة واحدة كل مائتي مليون سنة .
واكتشف بعضهم حركة الشمس إلى جانب نجمة ( نوجائى ) بسرعة20 كيلومترا في الثانية .
وقـد نطق القرآن بحركة الشمس حركة امتدادية , فقال تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (يس38)، فان الجريان إنما يطلق على الحركة الإمتدادية , ولو كان المراد الـحركة الدورية المحسوسة للشمس في كل يوم وليلة حول الأرض لقال : والشمس تدور , فهذه الآيـة مـن معجزات القرآن الكريم , حيث أنها غير منطبقة على ما كان عليه أهل الهيئة في الأزمنة المتقدمة من دوران الشمس حول الأرض , ولا على ما اتفق عليه علماء الهيئة طيلة القرون المتأخرة من سكون الشمس ودوران الأرض حولها , بل منطبقة على ما انكشف بعد ثلاثة عشر قرنا من زمن نزولها بالآلات الفنية الدقيقة .
2-حركة ذرات عالم الطبيعة : بحسب علم الفيزياء.
المعلوم في علم الفيزياء أن مفردات أجزاء العناصر الساذجة للأجسام التي تسمى ( مولكول – أي الجزيء- ) تعدادها في الأجسام المتعارفة في الميليمتر الواحد( ثلاثة ملايين ).
وقـد تـشكل كل مولكول من أجزاء تسمى ( آتم – أي الذرة- ) , وهو في اللغة اللاتينية بمعنى : جزء لا يتجزأ , ولـكـن علم الفيزياء قد نجح في تجزئته , ومعرفة الأجزاء المتكونه منها , وأن كل آتم قد تركب من أجـزاء كثيرة , هي على ثلاثة أصناف , صنف منها يسمى : الكترون , وهو في الصغر بحيث أن وزن واحـد مـن آتـم الـهايدروجين مع أنه أصغر أنواع آتم يساوي وزن ((2000)) الكترون ,وهذه الأجزاء الكثيرة للآتم تدور بسرعة شديدة حول مركزها على الدوام .
ومن هنا ثبت أن اجزاء عالم الطبيعة لا تزال في حال الحركة على الدوام" (براهين أصول المعارف الإلهية والعقائـد الحقة للإمامية - أبو طالب التجليل ) .
إلى هنا وصلتُ معكم إلى ختام الحديث حول برهان التغير والحركة.
وفقكم الله