فضل البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
في أرض بعيدة عن الأوطان ، وبين أعداء جاءوا للقتل والسفك ليس فيهم رحمة أو بذرة إيمان ، وفي حرّ لهيب الشمس يزداد العطش ويمنع ما يروي ذلك الظمأ ، ثم تتقدم الأبطال بين يدي المعركة ليقتل منهم واحد تلو الآخر على مسمع ومرأى من الأطفال والنساء ، والحسين يقف شامخا محتسبا أمره لله .. حتى إذا قتل كل أصحابه يذهب ليودع العيال والنساء ويلقي النظرة الأخيرة ، ثم يتقدم للمعركة باذلا نفسه من أجل الله عز وجل ، ثم يقتل عليه السلام ويرفع رأسه على الرمح ثم ترض الخيول صدره .. وبعد أن اكتملت مصيبة الرجال ، تهجم الخيول على النساء الثكالى والنساء المفجوعة في خيامهم فيتطايرن من الخيام لا يهتدون إلى طريق .. وهكذا تستمر المصائب والبلايا على أشرف من على الأرض في ذلك الزمان ...
أي مصيبة أعظم وأشد من هذه المصيبة ، هي المصيبة التي قال عنه مولانا الرضا عليه السلام لأحد أصحابه[1] : يا ابن شبيب إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا مالهم في الأرض شبيهون ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فلم يؤذن لهم ، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم عليه السلام فيكونون من أنصاره وشعارهم يا لثارات الحسين عليه السلام .
وفي كتاب كامل الزيارات ، روايات متعددة ، تتضمن هذا المعنى وهو أن الحسين عليه السلام ورد عنه المعنى التالي : (أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى ) أو (أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر ) ، وبعضها ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله لابنه (يا عبرة كل مؤمن ) .
والروايات الواردة في فضل البكاء كثيرة تصل إلى حد الاستفاضة بل والتواتر الضمني – كما يسميه الفقهاء – ، ولذلك فالقبول بصحة هذه الروايات أمر وجداني موّرث للاطمئنان ، ونتحدث عن ذلك في نقاط :
أولا : ورد عدد من الروايات في حصول المغفرة لمن نزلت منه بمقدار جناح ذبابة ، وفي هذا الخصوص أكثر من رواية نذكر منهم اثنتان .
(1) في كامل الزيارات : عن حكيم بن داوود عن سلمة عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بكر بن محمد عن فضيل بن يسار عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ( من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )[2] .
ونفس هذه الرواية ، في المحاسن للبرقي[3] : عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بكر بن محمد عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام قال ( من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ) [4].
نلاحظ أن رواية كامل الزيارات ينقلها عن حكيم بن داوود عن سلمة ، وتشترك الروايتان في بقية السند ، ولذلك فوثاقة الجزء المشترك كاف في تصحيح الرواية . وعلى كل فرجال السند كلهم ثقات – إلا بكر بن محمد ففيه كلام - ومن أجلاء الطائفة وعظمائها ..
حكيم بن داوود
من مشايخ ابن قولويه ، ترحم عليه ، وقد وثق - رحمه الله- جميع مشايخه .
سلمة بن الخطاب
(نجش) ضعيفا في الحديث له عدة كتب . لكن المولى الوحيد – في مستدرك علم رجال الحديث – قال إن عبارة النجاشي لا تدل على القدح في نفس الراوي ، ثم قال : ناهيك عن جلالته بل ووثاقته ، رواية كثير من الأجلاء عنه سيما مشايخ القميين وأعاظمهم كابن الوليد ومحمد بن أحمد بن يحيى ... وأيضا هو كثير الرواية وصاحب كتب ...
يعقوب بن يزيد
(نجش) ثقة صدوقا . (طس) كثير الرواية ، ثقة .
ابن أبي عمير
(نجش) جليل القدر ، عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين .
(طس) كان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة ، وأنسكهم نسكا وأورعهم وأعبدهم .
بكر بن محمد
وهو إن كان الأزدي :ففيه (نجش) وجه في الطائفة من بيت جليل بالكوفة ... وكان ثقة ، وعمر عمرا طويلا .
(طس) عده في رجاله من أصحاب أبي عبدالله الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام . وذكر في الاختيار : ذكر محمد بن عيسى العبيدي أن بكر بن محمد الأزدي خير فاضل ..
وإن كان بن حبيب بن بقية :ففيه (نجش) كان سيد أهل العلم بالنحو والغريب واللغة بالبصرة ... من علماء الإمامية ، ثم نقل ترحم ابن عبدون عليه .
ثم إن العلامة في ( الخلاصة ) وابن داوود في ( رجاله ) ذكرا هذا الرجل في القسم الأولى من كتابيهما – أي ممن يعتمد عليه - .
ويمكن توثيقه من خلال كونه أحد مشايخ ابن أبي عمير الذين نقل الرجاليون كالشيخ الطوسي ، اعتماد من يروون عنه ، ما لم يحصل معارض لذلك .
الفضيل بن يسار
(كش) من أصحاب الإجماع . (نجش) بصري ، صميم ، ثقة . (طس) بصري ثقة .
(2) في ثواب الأعمال : عن محمد بن الحسن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد ابن إسحاق بن سعد عن بكر بن محمد الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( تجلسون وتتحدثون ؟ ) قال : قلت : جعلت فداك نعم ، قال : ( إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا ، إنه من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر )[5] .
ورجال هذه الرواية أيضا من الثقات والأجلاء .
محمد بن الحسن الوليد
(نجش) أبو جعفر شيخ القميين وفقيههم ومتقدمهم ووجهم ، ثقة ثقة عين مسكون إليه .
(طس) جليل القدر ، عارف بالرجال ، موثوق به .
محمد بن الحسن الصفار
(نجش) كان وجها في أصحابنا القميين ، ثقة ، عظيم القدر ، راجحا ، قليل السقوط في الرواية .
(طس) ذكره بدون تعديل أو تجريح .
أحمد بن إسحاق بن سعد
(نجش) أبو علي القمي ، وكان وافد القميين ، وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما السلام ، وكان خاصة أبي محمد عليه السلام .
(طس) أبو علي ، كبير القدر ، وكان من خواص أبي محمد عليه السلام ، ورأى صاحب الزمان عليه السلام ، وهو شيخ القميين ووافدهم .
بكر بن محمد الأزدي
(نجش) وجه في الطائفة من بيت جليل القدر بالكوفة ... وكان ثقة ، وعمر عمرا طويلا .
(طس) عده في رجاله من أصحاب أبي عبدالله الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام . وذكر في الاختيار : ذكر محمد بن عيسى العبيدي أن بكر بن محمد الأزدي خير فاضل ..
إذن على مبنى الوثاقة ، فإن رواية صحيحة تكفينا ، فكيف إذا كانت روايتان اثنتان ، ناهيك عن بقية الروايات الأخرى وإن اختلفت في أسانيدها بين الصحيح والحسن والضعيف ... أما على مبنى الوثوق فنذكر ..
ثانيا : ورد عديد من الروايات المعبرة بلفظ دمعة أو قطرة من عين ، وهذا المعنى يساوق معنى ( جناح ذباب ) ، ومن تلك الروايات .
ما ورد في كامل الزيارات لابن قولويه[6] ، والشيخ الصدوق في ثواب الأعمال[7] ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ( كان علي بن الحسين عليه السلام يقول : أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليه السلام دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا ... ) .
ومنها ما رواه الطوسي في أماليه ، عن الحسين بن علي عليهما السلام قال : ( ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة إلا بوأه الله بها في الجنة حقبا ) .
ثالثا : أن العلاقة بين العمل الصغير والأجر الكبير ، مفهوم إسلامي واقعي لا يمكن إنكار أو رفضه ويرتبط بكثير من المفاهيم العقائدية والفقهية في الطبيعة الإسلامية ..
مثلا في المجال العقائدي : لو أن شخصا عاش عمره كافرا ولا يعرف الله عز وجل ، إلا أنه قبل أن يموت بأيام عرف الإسلام وصدق به ثم مات ، فهل يصبح هذا من أهل الجنة ؟ أم من أهل النار ؟ .
وفي المجال التاريخي : وكما هو الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام يوم الخندق ( ضربة علي يوم الخندق تعادل أعمال الثقلين ) ، ومثله يوم العاشر كان عمر بن سعد يصلي والإمام الحسين عليه السلام يصلي ، فظاهر الفعل في الخارج واحد لكن المعنى والمضمون مختلف تماما .
وفي المجال التكويني : لو فقأ إنسان عين آخر فأعماها ، فإن هذا الفعل يتم في مدة قصيرة جدا ، لكن نتيجته تمتد إلى نهاية العمر .
وفي المجال التشريعي : وردات أحكام كثيرة وروايات عديدة في فضل بعض الأعمال ، منها قول أمير عليه السلام ( رب كلمة سلبت نعمة ) فرب كلمة واحدة لا تأخذ من عمر الزمان شيئا تتسبب في تعسير الرزق سنين ، وقوله صلى الله عليه وآله في خطبة شهر رمضان ( من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر ، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه ) .
إذن خلاصة ما تقدم أن ورود الأجر الوافر والكبير على العمل الصغير سببا في الطعن بالرواية أو رفضها ، أمر غير مقبول فهو فضلا عنه أنه لا مستند له ، فإن الروايات والأخبار والقوانين الكونية والعقلية ضده ..
وعلى ذلك فإن الدمعة على الإمام الحسين قد تصل بالإنسان إلى المغفرة والعفو من الذنوب وتكون سببا في دخوله الجنة ، وهذا ما تبين واضحا مما سبق .. انتهى الكلام في النقطة الأولى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كتاب الأمالي ، للشيخ الصدوق ، المجلس السابع والعشرون . ( قال عن سندها الشيخ هادي النجفي : الرواية معتبرة الإسناد ) .
[2] كامل الزيارات ، جعفر ابن قولويه ، الباب 32 ، حديث 9 .
[3] الشيخ أحمد البرقي ، توفي عام 274 هـ ، من أصحاب الإمام الجواد والإمام الهادي عليهما السلام ، وقد وثقه كل من النجاشي والطوسي .
[4] المحاسن ، أحمد البرقي ، ج1 ، الباب 86 ثواب من دمعت عيناه في آل محمد .
[5] ثواب الأعمال ، الشيخ الصدوق ، باب ثواب من ذكر عنده أهل بيت النبي عليهم السلام فخرج من عينه دمعة .
[6] حدثني الحسن بن عبدالله بن محمد بن عيسى عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ..
[7] حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ..
طاهر علي الخلف
محرم 1432هـ