من أعماق الصلاة
آية الله السيد علي الخامنئي دام ظله
[ 9 ]
الصلاة والمناجاة هي الرابطة الوثيقة بين الانسان وربّه، بين المخلوق وخالقه. الصلاة هي المهدئ والباعث على اطمئنان القلوب المضطربة والمتعبة، والمنزِّهة للباطن والمنيرة لروح الانسان.
إنّها الباعث والميثاق للتحرك والاستعداد، بنحو واقعي بعيد عن التلون والخداع، للتخلص ممّا هو سيّىء وردىء، والتزود بكل ما هو صالح وجميل، وهي برنامج للعثور على النفس ومن ثمّ صناعتها وتهذيبها.
وبكلمة موجزة: هي رابطة وإفاضة دائمة مع منبع ومظهر كل ما هو جميل، مع الله. لماذا عدَّت الصلاة أفضل وأهم من جميع الواجبات؟ واعتبرت أساس الدين وعموده؟
[ 10 ]
لماذا تردّ جميع الأعمال من دونها؟ ما هو السرّ الخارق الكامن فيها؟
بوسعنا ملاحظة الصلاة من أبعاد مختلفة:
أولاً: لا بدّ من الاشارة إلى الهدف من خلق الانسان، إلى الشيء الذي يعدّ من الخطوط الأساسية في الرؤية الكونية للاسلام، كون الانسان مخلوقاً والاعتقاد بأنّ هناك قدرة حكمية أوجدته، يستلزم أن يكون هناك هدف وقصد من خلقه وإيجاده.
يمكن أن نعدّ هذا الهدف قطع مسافة للوصول إلى محطة، قطع طريق بواسطة مخطط دقيق وبوسائل معينة للوصول - في النهاية - إلى تلك المحطة وذلك المنزل، وفي هذه الصورة لا بد لنا من تعرف الطريق المنتهي إلى تلك الغاية، وتحديد المسير وجعل الهدف دوماً نصب أعيننا، لنتمكن من بلوغ تلك النتيجة الموعود بها، إنّ الذي يضع قدمه على الطريق، عليه أن يتحرك بنحو مستقيم، ملتفتاً دائماً إلى الهدف، لا تشغله الطرق الملتوية والحركات التي تعيقه عن الاتجاه الصحيح، ولأجل حفظ الاتجاه الصحيح عليه أن لا يتمرد على أوامر القائد والمرشد (الرسول) الذي عيّن له.
وذلك الهدف هو رفعة الانسان وتكامله اللاّمتناهي،
[ 11 ]
والعودة إلى الله، وبروز الخصال الحسنة فيه، وتفجير طاقات الانسان وقابلياته الكامنة، وتوظيفها بأجمعها في طريق إصلاح نفسه والعالم والانسانية.
على الانسان -إذن- أن يعرف الله، وأن يسلك الطريق الذي حدّده الله لتساميه، دون أيّ تباطؤ أو تأمل.
إنّ ما يجعل معنى لحياة الانسان هو أن يفعل الأشياء التي تقربه من هدفه، وأن يتجنب كلّ ما يضره، أو يعيقه عن الهدف، هذه هي فلسفة الحياة، ودونها تغدو الحياة تافهة لا معنى لها.
وبعبارة أخرى: إنّ الحياة مدرسة ومختبر لا بدّ أن نطبق فيها جميع القوانين والنظريات التي أوجدها خالق العالم والحياة، ليمكن الوصول إلى نتيجة عالية ومرضية، هذه القوانين التي هي سنن الله في خلقه، يجب معرفتها وصياغة حياتنا وفقاً لها، ولا بدّ أيضاً من معرفة النفس واستكشاف ذخائرها واحتياجاتها ، تلك هي مسؤولية الانسان وواجبه العظيم الذي بمجرد أدائه يكون الانسان قادراً على التحرك الواعي الناجح، لولاه لا يمكن التحرك، أو يكون عن غير وعي، فلا يحالفه التوفيق.
والدين عبر تحديده للهدف والاتجاه والطريق والوسيلة يمنح الانسان أيضاً القدرة والزاد الضروري لقطع الطريق،
[ 12 ]
وإن أهم متاع يحمله سالكو هذا الطريق هو -ذكر الله- وإنّ روح الطلب والرجاء والاطمئنان -وهي أجنحة هذا التحليق- إنّما تتفرع وتتولد من ذكر الله.
إنّ ذكر الله يجعل الهدف وهو الاتصال به تعالى، أي منتهى الكمال والحسن، نصب العين دوماً، ويحول دون الضياع، ويجعل السائر حاساً وحذراً بالنسبة إلى الطريق والوسيلة، ويمنحه قوّة القلب والاطمئنان والنشاط، ويحفظه من الانزلاق والانخداع بالمظاهر الخلابة، أو الخوف من المنغصات.
إنّ المجتمع الاسلامي وكل مجموعة أو فرد مسلم، يمكنه أن يخطو في الطريق الذي حدده الاسلام ودعا إليه جميع الأنبياء، باستقامة ودون توقف أو تراجع إذا لم ينس الله. ومن هنا يسعى الدين جاهداً وبمختلف الطرق والوسائل لإحياءِ ذكر الله في قلوب المتدينين بشكل دائم.
ومن أهم الأعمال المفعمة بالدوافع لذكر الله، ويمكنها أن تجعل الانسان مستغرقا بذكره تعالى وأن تكون موقظة للانسان، وشاخصاً وعلامة ترشد السائر إلى الصراط المستقيم، وتحفظه من الضياع والانحراف، وأن تمنع من حدوث لحظة غفلة في حياة الانسان هي الصلاة.
في غمرة الانشغالات الفكرية التي تعتري الانسان،
[ 13 ]
نادراً ما يلتفت إلى نفسه،وهدفه في الحياة، أو يفكر بمضي الساعات والأيام،فما أكثر الأيام التي تترك مكانها للّيل، وللأيام الأخرى التي ستسرع من جديد، ما أكثر الأسابيع والأشهر التي تمضي دون أن يلتفت الانسان إلى بدايتها ونهايتها، أو يشعر بمضي الحياة ومعناها أو بطلانها.
الصلاة جرس منبّه، ومنذر في مختلف ساعات اللّيل والنهار، إنها تزود الانسان ببرنامج وتريد منه عهداً، وتعطي لليله ونهاره معنى وتشعره بقيمة الزمن إنّها تدعوه خلال الزمان الذي يكون فيه منشغلاً غير ملتفت إلى مضي الزمن وانقضاء العمر وترشده إلى انقضاء يوم وشروع آخر، وأنّ عليه أن يجدّ ويتحمل مسؤولية أكبر وأن يفعل ما هو أهم، لقد انقضى جزء من العمر بلا استثمار فيجب أن يكون أكثر سعيا وعطاءً، إذ انّ الهدف عظيم، فلنسع لنيله قبل فوات الأوان.
ومن جهة أخرى، فإنّ نسيان الهدف تحت ضغظ المشاغل الماديّة هو أمر واضح وطبيعي وإن إمكانية الوفاء بجميع التعهدات الواقعة في طريق الهدف، والملقاة على عاتق الانسان في كل يوم أمر شبه مستحيل، والسماع بمن حرفته هذه أشدّ محالاً.
علاوة على ذلك لا يتوفر أبداً الزمن الكافي لنيل جميع متطلبات وأفكار هذه الرسالة-الرسالة الاسلامية التي تصنع
[ 14 ]
حياة الانسان وسعادته -في اليوم واللَّيلة فهذه فرصة يستحيل أن تقع في متناول اليد.
الصلاة تتضمن خلاصة أصول هذه العقيدة، وما فيها من الأقوال والحركات المتناسقة والمنظمة هو علامة الاسلام.
بوسعنا تشبيه الصلاة بالسلام الوطني للدول، مع فارق في المعنى ونوع العطاء، لاجل أن ترسّخ الدولة أصولها ومتبنياتها الفكرية في ذهن الشعب، وبنائه على هذا النمط الفكري، تعمد إلى تكرار قراءة السلام الوطني الذي يمثل خلاصة الشكل المقبول لنمط الحياة وأهدافها لدى الدولة.
تكرار السلام الوطني سبب لتثبيت الناس على هذا النحو من الفكر، وتلقينهم أنهم أتباع هذا الوطن: والسائرون باتجاه تلك الأهداف، إذ أنّ نسيان أصول وأهداف الدولة، يعني تغيير المسار وعدم انتهاجه، هذا التكرار يجعلهم مستعدين للخدمة في هذه الجبهة، ويعلمهم المخططات والطرق، ويرشدهم إلى المسؤوليات والواجبات ويحي في أذهانهم أسس الدولة، ويعيّن لهم الوظيفة، ويزودهم -حينئذ- بالشجاعة والجرأة والاقدام، ويهيؤهم للعمل.
الصلاة خلاصة أصول العقيدة الاسلامية، والمضيئة
[ 15 ]
لطريق المسلمين، والمرشدة إلى المسؤوليات والتكاليف والطرق والنتائج.
الصلاة تدفع المسلمين في مطلع النهار، وفي أثنائه، وعند الليل، لأن يطلبوا بألسنتهم تفهم أسس العقيدة والطريق الصحيح والهدف والنتيجة وتضطرهم إلى العمل بقوة معنوية. هذه هي الصلاة، إنّها تأخذ بالانسان خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتِّى تصل به إلى قمة الايمان، والعمل الكامل، وتجعل منه عنصراً ذا قيمة ومسلماً سوياً. أجل، الصلاة هي معراج المؤمن.
إنّ أمام الانسان طريق طويل وشاق يؤدي به إلى الاستقامة والواقعية، ويوصله إلى ذلك الهدف الذي وجد من أجله، ولكن هذا الطريق ليس هو الوحيد الذي وضع أمام البشر، فهناك أيضاً الكثير من الطرق الملتوية والمنحرفة والخطرة التي وضعت في طريقه، وأحيانا تكون هذه الطرق خلاّبة جداً بحيث توقع المجتاز في حيرة وتردد في تمييز الطريق الصحيح.
فلا بد -لأجل التخلص من هذه الحيرة- من الحفاظ على الموجّه الصحيح نحو الهدف والمقصود النهائي، أي نحو الله، وأن نمتلك مخططاً للطريق والمسار، وما الصلاة إلاّ موجّه دائم نحو الله ومخطط إجمالي للطريق الأصلي،
[ 16 ]
-إذن- الصلاة هي المؤمِّن للارتباط الدائم والاتصال الدائب للمؤمن بالله، وقد أدرج ضمنها مجمل التفكير الاسلامي.
وبذلك تتضح علة توزيع الصلاة على هذه الأوقات الخمسة ومدى أهميته، إنّه كتوزيع وجبات الطعام على أوقات الليل والنهار المختلفة.
ومع غضّ النظر عن احتواء الصلاة على خلاصة اهداف الاسلام وغاياته، وأنّ تلاوة القرآن أيضاً من الاعمال الواجبة في الصلاة، فإنّها تعرّف المصلي ببعض مضامين القرآن وتعوّده التفكير في مفاهيم القرآن والارتباط به فكريا(إنّما أمر الـناس بالصلاة وأن يقرأوا القرآن فيها لئلا يكون الـقرآن مهجوراً مضيّعاً ، وليكون مـدروساً فلا يضمحل ولا يجـهل ، "حديث الفضـل بن شاذان عن الامـام علي بن موسى الرضا ( ع )".) والصلاة أساساً بمجموع حركتها تعدّ مظهراً ومثالاً مصغراً للاسلام.
الاسلام في صميم الأمّة يحث الجسم والفكر والروح الانسانية على العمل، ويستخدم هذه الثلاثة بأجمعها لاسعادها، والصلاة أيضاً تصنع هذا الشيء نفسه مع الفرد، إذ أنّه عند الصلاة يكون كلّ من جسمه وروحه وفكره في حال العمل والفعالية.
[ 17 ]
الجسم: بحركات اليدين والرجلين واللسان والانحناء والجلوس والسجود.
الفكر: بالتفكر في مضامين ألفاظ الصلاة التي تشير عموماً إلى الأهداف والوسائل واجتياز دورة من التأمل والرؤية الاسلامية بشكل مجمل.
الروح: بذكر الله والتحليق في جوّ من المعنويات الروحية، ومنع القلب من الركون إلى التفاهات والفراغ، وغرس بذرة الخشوع وخشية الله في الروح.
قالوا: إنّ الصلاة في كل دين هي خلاصة ذلك الدين، وصلاة الاسلام كذلك تماماً. الجمع بين الروح والجسم، بين المادة والمعنى، بين الدنيا والآخرة، سواء في اللّفظ إو في المحتوى أو في الحركات، من خصوصيات الصلاة الاسلامية.
كذلك المسلم في الصلاة عندما يقيمها بشكل كامل فإنّه يعمل جميع طاقاته في طريق تعاليه، يعني أنّه يستعمل في آن واحد جميع امكانياتها الجسمية والفكرية والروحية في هذا الأمر.
إنّ مقيم الصلاة كما يوظف جميع قواه بحثاً عن طريق الله، يميت جميع بواعث الشر والفساد والانحطاط في ذاته.
[ 18 ]
في عدّة آيات من القرآن عدّت إقامة الصلاة من علامات التدين، واستند في أكثر الآيات إلى إقامة الصلاة.
يظهر أنّ إقامة الصلاة شيء أكثر من امتثالها، أي أنّها ليست فقط أن يقوم الشخص بامتثال الصلاة وأدائها بل هناك أيضاً الاسترسال نحو الجهة والناحية التي تدعو إليها الصلاة، وبعث الآخرين نحوها، قالوا: إقامة الصلاة، أن يعيش المصلي ومن حوله أجواء المصلين أي الباحثين عن الله وعبادته ويحيا الجميع في خط الصلاة وجهتها.
فالمؤمن -إذن- والأمة المؤمنة بإقامتها للصلاة تحرق جذور الانحطاط والمعاصي والفساد في النفس والمحيط الاجتماعي، وتميت النزوع إلى ارتكاب المعاصي وبواعثه الداخلية والخارجيه ( العوامل النفسية والبيئيّة )، حقّاً إنّ الصلاة تحول بين الفرد والمجتمع وممارسة الأعمال الطالحة والرذيلة:{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(سورة العنكبوت، الآية:45).
في ساحة النزاع وصراع الحياة، هناك حيث استعدت جميع قوى الشر بجميع ما لديها من مكائد، لكي تعدم بواعث الصلاح والاحسان في كل مكان وفي كل شخص، فأنّ أول سد يقوم بصد الهجوم وتدميره هو قوّة العزم والقدرات
[ 19 ]
النفسية للبشر ، إذ بتحطيم هذا السدّ المنيع يغدو من اليسير احتلال قلعة شخصية الانسان ونهب كنوزها التي تحفظ فيها أصالة الانسان الذاتية ومدخراته من القيم والمعارف والعلوم.
وأولئك الذين يحملون هتافاً جديداً ومخططات بديعة للزمان وللتاريخ، هم أكثر من غيرهم عرضة لهجوم قوى الشر، وهم بحاجة أكثر من غيرهم إلى حفظ هذا الحصن الفولاذي، حصن العزم والارادة التي لا تقهر.
إنّ صلاة الاسلام بما فيها من تلقين وتكرار لذكر الله، تربط الانسان الضعيف والمحدود بالله المطلق المسيطر، وتجعله مستعيناً به، وعن طريق ربط الانسان بمدبر العالم، يصنع منه قدرة غير محدودة أو زائلة، ويجب عدها أفضل علاج لضعف الانسان، وانفع دواء للعزم والارادة.
إنّ الرسول الأكرم (ص) الذي كان يشعر بثقل المسؤولية في مجال التغيير الاسلامي العظيم أمام الجاهلية المستشرية ، أمر بالصلاة في منتصف الليل {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(سورة المزمل، الآيات: 1-5).
ندخل الآن في بيان محتوى الصلاة، ودون أن نخرج
[ 20 ]
عن محتوى الترجمة الواسعة، نسعى للإقتراب من هدف الصلاة من الناحية التربوية.
تبدأ الصلاة باسم الله، وذكر عظمته وسعة ذاته، وأنّها أسمى من كل ما يتصوره الانسان.
الله أكبر:
يبدأ المصلي مناجاته بهذه الجملة، ولأجل الدخول في عمل عظيم يوضع مدخل مفعم بالعظمة.
-الله أكبر- أكبر من أن يوصف، أكبر من أن يقاس بالأرباب المتخذة على مرّ العصور، أكبر من جميع القدرات والقوى التي يمكن أن يخشاها الانسان أو يطمع فيها، وأكبر من أن يتمكن شخص من نقض قوانينه.
إذا أدرك العبد هذه السنن، وانتخب في ضوئها طريق سعيه وجدّه، فأيّ قوة عجيبة يحتويها عند استذكار أنّ -الله أكبر-، وأيّ أمل مفعم يعيشه؟ إنّه يشعر بشكل كامل بأن جهوده كانت موفّقة، وأنّ عاقبة عمله خير، وينظر إلى مستقبله وطريقه بسعادة وأمل.
بعد تلفظ هذه الجملة يكون المصلي عملياً في حالة صلاة، وعليه ان يقرأ سورة الحمد وبعدها سورة كاملة من القرآن واقفاً.
[ 21 ]
سورة الحمد:
بسم الله الرحمن الرحيم:
هذه الجملة هي مفتاح جميع السور، مفتاح الصلاة، مفتاح جميع الأعمال وحركات الإنسان المسلم، إنّ بداية جميع الأعمال تتمّ باسم الله فقط.
كلّ ما للإنسان، وجميع مظاهر كونه على قيد الحياة باسم الله، يفتتح المسلم يومه باسم الله وباسمه يختم سعيه في النهار، وبذكره يذهب إلى فراشه، وبعونه يرفع رأسه منه ليبدأ أعماله اليوميّة من جديد، وفي نهاية المطاف يودع الحياة باسمه وذكره ويتجه إلى الدار الخالدة.
الحمد لله رب العالمين:
كلّ حمد وثناء يختص بالله، لأن جميع ما هو عظيم منه، والرحمة كلها تصدر عنه، هو مجمع كل الخصال الفاضلة، ومنه تنبع كل الحسنات والاحسانات، فيكون حمده إذن حمداً للاحسان، وموجهاً لجميع الجهود التي تبذل في طريق الاحسان.
على كل من يرى في نفسه خصلة من الخصال المحمودة أن يعدّها من فيض الله ورحمته وعطفه ولطفه، إذ أنّ الله هو الذي أودع فطرة الانسان بذور الاحسان، وجعل
[ 22 ]
من سجاياه تقبّل الاحسان والفضيلة، ومنحه القدرة على التصميم، وهو وسيلة أخرى في طريق الطيبة والاحسان.
إنّ هذه الرؤية تغلق بوجه الانسان أبواب العجب والغرور، وتحول دون تعطيل الخصال الحميدة، والقدرات الخيّرة فيه.
وفي جملة (ربّ العالمين) نستشعر وجود العالم والعوالم الأخرى وترابطها فيحس المصلي أنّ وراء هذا العالم ووراء رؤيته الضيقة، وخلف هذا الطوق الذي افترضه لحياته توجد عوالم وأفلاك ومجرّات أخرى، وأنّ ربّه ربّ جميع هذه الكائنات، إنّ هذا الشعور يميت فيه النظرة الضيّقة، القصيرة المدى، وبمنحه الجرأة وروح التنقيب والبحث، والاحساس بالغرور والغبطة لعبوديّته لله تعالى، وتبدو له عظمة عبادة الله وجلالها العجيب.
من جهة أخرى يرى جميع الكائنات، البشر والحيوانات والنباتات والجمادات والسماوات، وعوالم الوجود التي لا تحصى، كّلها مخلوقات لله، وأنّه هو مديرها ومدبّرها، ويفهم أنّ ربّه ليس فقط رب لعرقه أو شعبه أو للانسانية بأجمعها، بل هو أيضاً رب تلك النملة الضئيلة وتلك النبتة الضعيفة، ربّ السموات والمجرات والكواكب، وبادراكه لهذه الحقيقة يشعر بأنّه ليس وحيداً، ويعلم أنّه
[ 23 ]
متصل بجميع ذرّات العوالم، وجميع الكائنات الدقيقة والكبيرة، وبجميع الناس، وإنّ الناس إخوته والمسافرون معه، وإنّ هذه القافلة العظيمة متجهة بأجمعها نحو هدف واحد.
إن هذا الارتباط والاتصال يجعله يرى نفسه مكلّفاً وملتزماً بالنسبة لجميع الكائنات، مكلّفا بهداية جميع الناس ومعونتهم، وبمعرفة بقية الموجودات واستخدامها في الطريق الصحيح المناسب للهدف من خلقها.
الرحمن الرحيم:
رحمة الله العامة تتخذ شكل قوى خلاّقة وقوانين منقذة ومصادر للطاقة منشودة على رؤوس جميع الكائنات، وكل شخص يحظى بهذه الرحمة إلى أن يحين أجله، وأمّا رحمته الخاصة، رحمة هدايته ومعونته، رحمة جزائه وعطفه، فإنّها تشمل العباد الصالحين، هذه الرحمة في هذه النشأة تبقى خطاً واضحاً على امتداد هذه الموجودات الصالحة والشريفة حتى الموت وبعد المـوت إلى القيامة، وإلى حد المنزل النهائي لوجود الانسان، الله -إذن- مصدر رحمة عامة ومؤقته، ومصدر رحمة خاصة ودائمة.
ذكر صفة رحمة الله في ديباجة القرآن وفي بداية الصلاة وبداية كل سورة دليل على رأفة الله وعطفه، وهي أظهر صفة
[ 24 ]
في ساحة الخليقة والوجود، وعلى عكس قهره ونقمته التي تصيب المعاندين والمفسدين والمجرمين خاصة، تكون رحمته شاملة وعامّة (ورحمتي وسعت كل شيء - سورة الأعراف ، الآية : 156 - يا من سبقت رحمته غضبه ( دعاء مأثور ) .).
مالك يوم الدين:
يوم الجزاء يوم النهاية والمصير والعاقبة، الجميع يسعى من أجل العاقبة، الماديّ والعابد مشتركان في هذا الأمر، كلاهما يبحث عن طريق المصير والعاقبة، وإنمّا يختلفان في أنّ كلّ واحد منهما يفهم المصير بشكل مختلف، فعاقبة المادي هي ساعة أخرى ويوم آخر وسنة أو عدّة سنين أخرى، شيخوخة وكهولة وفناء، وأمّا العابد فنظرته واسعة ورؤيته أبعد من ذلك، وليست الدنيا في نظره مغلقة ومحدودة ومصورة، بل الدنيا واسعة والمستقبل غير محدود، وهذا مستلزم لأمل غير مجذوذ، وجهد لا يعرف الملل، إنّ الذي لا يرى الموت موجباً لانقطاع الرجاء، بل يرى نتيجة عمله وثوابه متوقفة على الموت، بوسعه أن يستمر حتّى آخر لحظة من حياته بنفس الحماس والتحرك الذي ابتدأ به العمل والسعي لنيل رضا الله.
استذكار أنّ الله هو المالك، وصاحب القرار والجزاء
[ 25 ]
يوم القيامة ، وهو الذي يوجه المصلي الوجه الصحيحة، ويجعل لأعماله سمة إلهية، فتصبح حياته بجميع مظاهرها لأجل الله وفي سبيله، ويبذل جميع جهوده وكلّ شيء عنده في طريق تكامل البشرية وتساميها، ذلك انّه الطريق الوحيد لمرضاة الله تعالى.
ومن جهة أخرى: يحرره من الاعتماد على الأفكار الواهية والآمال الكاذبة، ويقوّي فيه الرجاء الواقعي في العمل، إنّ النظم الخاطئة والمنحرفة في هذه الدنيا، قد تمكن العناصر الضعيفة المنتهزة للفرص أن تحسن أوضاعها عن طريق الخداع والرياء والكذب، وأن تجني ثمار كدّ الآخرين وكدحهم، ولكن في عالم الآخرة حيث يكون الله العالم العادل مالكاً زمام الأمور جميعها، وحيث لا يمكن الخداع والكذب والرياء فسوف لا يحصل أحد على شيء دون عمل.
إلى هنا ينتهي الحديث عن النصف الأول من سورة الحمد المتضمن لحمد خالق العالمين، وذكر أهم صفاته، أمّا النصف الثاني المشتمل على إظهار العبودية وطلب الهداية، فإنه يشير بوضوح إلى جزء من أهم الخطوط الأساسية لايدولوجية الاسلام.
[ 26 ]
إياك نعبد:
أي أنّ وجودنا بأجمعه وجميع قدراتنا الجسدية والروحية والفكرية هي بيد الله وهي خاضعة له ولأجله .
إنّ المصلي بتلفظه هذه الجملة يحطم قيود عبودية غير الله عن يديه ورجليه ورقبته، ويجيب داعي الله ويرفض مدّعي الألوهية الذين كانوا على مرّ التاريخ السبب في جعل شريحة كبرى من البشر مقيدين بأغلال العبودية والاستضعاف والأسر، ويقرب نفسه وجميع المؤمنين بالله أكثر إلى طاعة الله والانصياع لأوامره والخلاصة أنّه بقبوله العبودية لله يتحرر من جميع العبوديات الأخرى وبذلك يسلك نفسه في سلك الموحدين الحقيقيين.
إنّ الاعتراف بأنّ العبودية منحصرة بالله فقط هو واحد من أهم الأصول الفكرية والعملية في الاسلام، وجميع الأديان السماوية والذي يعبّر عنه (إنحصار الألوهية بالله)، أي أنّ الله فقط هو الذي ينبغي أن يكون معبوداً، وأن لا يعبد أحد سوى الله.
لقد كان هناك دوماً من لا يفهمون هذه الحقيقة بشكل صحيح، فكانوا يستنتجون منها أموراً خاطئة ومحدودة، ولذا وقعوا غافلين في عبوديّة غير الله، إنّهم ظنّو أنّ عبادة الله تكون فقط بتقديسة ومناجاته، وبما أنّ هؤلاء كانوا يصلّون لله
[ 27 ]
ويناجونه فقط، فكانواى على يقين كامل من أنهم لم يعبدوا سوى الله.
إنّ الوعي هو معنى العبودية الواسع في مصطلح القرآن والحديث، والذي يوضح هناك هذا التصور: إنّ العبادة في اصطلاح القرآن والحديث عبارة عن (الطاعة والتسليم والانقياد المطلق للأمر والقانون والنظام الذي يوجَّه للانسان في أيّ مقام أو قدرة، سواء كان هذا الانقياد وهذه الطاعة مع التقديس والمناجاة أم من دونهما.
وعلى هذا فكلّ الذين ينصاعون للنظم والقوانين والأوامر الصادرة من أية قدرة غير الله تعالى، هم عباد تلك الأنظمة والموجدون لها، ولو أنّه ترك بعضا من شريعة الله، وعمل ببعض آخر في حياته الفردية والجماعية فانّه مشرك يتخذ مع الله إلها آخر، واما من لا يعمل البته بقانون الله سبحانه، فانّه سيكون كافراً متجاهلاً الحقيقة الواضحة والساطعة لوجود الله، منكراً إياها اعتقاداً أو عملاً.
بالاطلاع على هذه الرؤية الإسلامية يمكن الوقوف بسهولة على أنّ الأديان السماوية التي كان أوّل شعار ترفعه كلمة -لا إله إلاّ الله(يرجع إلى سورة الأعراف ، الآيات 59 - 158 ، وسورة هود ، الآيات : 50 - 84 ، فقد نقل عن عدد من كبار الأنبياء أنّهم رفعوا هذا الشعار في طليعة دعوتهم .) -ماذا كانت تقول؟ وماذا كانت تريد؟
[ 28 ]
ومن كانت تواجه؟.
إنّ هذه الحقيقة (حقيقة معنى العبادة) في المصادر الاسلامية (القرآن والحديث) من التواتر بمكان لا يبقى معه أيّ شك أو ترديد لدى المتدبرين والعلماء، ولأجل المثال نكتفي بذكر آية من القرآن الكريم، وحديث عن الامام الصادق (ع).
قال تعالى :{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }(سورة التوبة ، الآية : 31 .).
وسئل الامام الصادق (ع) عن تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى}(سورة الزمر ، الآية : 18.) قال (ع): "أنتم هم ومن أطاع جبّاراً فقد عبده"(تفسير نور الثقلين : ج5 / ص 481.).
وإياك نستعين:
لا ننتظر من منافسيك ومدّعي الألوهية أيّ مساعدة أو
[ 29 ]
معونة، ذلك أنّ السبب الذي دعا هؤلاء لرفض ألوهية الله يجعلهم لا يساعدون عبادة السائرين على صراطه، إنّ طريق الله هو طريق أنبيائه، طريق الحق والعدل والتآخي والاتصال والتعايش بين جميع أفراد البشر، واعطاء الانسان قيمته، ورفض التعصب والظلم والتمايز، وأمّا أضداد الله ومدّعو الربوبية فقد وضعوا جميع مخططاتهم في حياتهم الدنيئة وما سرقوه من ثروات في تهديم القيم والمقدّرات الأصلية، فكيف يمكن أن يمدّوا يد العون والمساعدة لعباد الله؟ إنّ هؤلاء حرب لا هوادة فيها على عباد الله.
فإذن نطلب العون من الله فقط، من قوّة الذكاء والارادة التي أودعها فينا، من الأسباب والوسائل التي وضعت بأيدينا، من السنن والقوانين الطبيعة والتاريخية التي لو عرفت أمكن أن تكوّن الطريق المشرع بوجه العلم والعمل، ومن جميع المنح والقدرات التي تعدّ من جيوشه المقتدرة الموضوعة في خدمة البشر.
اهدنا الصراط المستقيم:
لو كان الانسان محتاجاً إلىشيء أهم وأولى من الهداية، فلا شك أنّ هذا هو ما ذكر في سورة الحمد، وهي ديباجة القرآن والقسم المهم في الصلاة بلسان الدعاء والطلب من الله، بالهداية الالهية يقع العقل والتجربة في الطريق
[ 30 ]
الصحيح والمفيد والمنجي، ودون ذلك يغدو هذا العقل والتجربة مصباحاً في يد قاطع الطريق أو شفرة بيد المجنون .
اهدنا الصراط المستقيم، هو ذلك المخطط الفطري، البرنامج الذي وضع على أساس من الاستنتاج الصحيح لاحتياجات الانسان الطبيعة وامكاناته وقدراته، الطريق الذي مهده أنبياء الله للناس، وكانوا هم أوائل الباحثين والسابقين إلى الحقيقة، الطريق الذي استقر الناس فيه يكون مثلهم كالماء الذي يجري مستقيما في مجراه ويتجه ذاتياً ودون استعانة بقوّة أو قدرة نحو هدفه النهائي، ألا وهو بحر التسامي الانساني المتلاطم، برنامج لو اتخذ قالباً للنظام الاجتماعي وطبّق في حياة البشر لجلب لهم بالتأكيد الرفاه والاستقرار والحرية والتعاون والتكافل والاخاء، ولوضع حداً لجميع المآسي البشرية المزمنة.
ولكن ما هو هذا البرنامج وهذا الطريق؟ الكلّ مدّع في هذا السوق المزدحم، ويرى كل فريق غيره على خطأ، فيجب أن تحدد الاشارة المناسبة لهذه الديباجة القصيرة للصراط المستقيم من وجهة نظر القرآن، لذا تستمر السورة بهذا النحو:
[ 31 ]
صراط الذين أنعمت عليهم :
من هم أولئك الذين شملتهم نعمة الله وحصلوا عليها؟ لا شك في أنّه ليس المراد من النعمة المال والجاه والعشرة المادية، إذ أنّ أبرز أمثلة الحاصلين عليها هم دائماً من ألدّ أعداء الله وخلقه، بل المراد بها نعمة أكبر من هذه الزخارف، إنّها نعمة اللطف والعناية وهداية الله، نعمة معرفة القيمة الواقعية للنفس واستعادة الذات.
وفي موضع آخر عرّف القرآن الكريم الحاصلين على هذه النعمة:{ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}(سورة النساء ، الآية : 69.).
فاذن يطلب المصلي في هذه الجملة من الله أن يهديه إلى صراط الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا خطّ واضح على طول التاريخ، وطريق لاخب وهدف معيّن وباحثون معروفون.
وفي مقابلة خطّ آخر، وهو واضح أيضاً، وله أتباع مشخصون، وبذكر ذلك الطريق وسالكيه يهيب المصلي بنفسه ويحذّرها أن تطأ ذلك الطريق أو أن تنحرف نحوه، وهذا ما يبيّنه في تتمة الدعاء السابق بهذا الشكل.
[ 32 ]
غير المغضوب عليهم:
من هم الذين غضب الله عليهم؟ هم الذين وضعوا أقدامهم في الطريق الآخر المخالف لطريق الله وجرّوا الكثير من الناس الآخرين الغافلين من فاقدي الارادة والضعفاء أو الواعين ولكنّهم أحبروهم بالقوّة على السير في هذا الطريق، أنّ الذين أمسكوا على طول التاريخ بزمام أمور الناس عن طريق القهر والجبروت والخداع والنفاق، وصنعوا منهم كائنات مجبرة وآلات تابعة (مستضعفة)، الذين أعدّو وفسحوا المجال للرذيلة والعلاقات الداعرة عن طريق استغفال الناس والتسلط عليهم.
بعبارة أخرى: إنّ الأشخاص الذين صاروا مورداً لغضب الله هم الذين سلكوا طريق الضلال، لا عن جهل وغفلة بل عناداً، وبسبب الأنانية وحبّ الذات.
في الواقع التاريخي كانت هذه المجموعة تتشكل من الطبقات الغنية والمقتدرة، التي كانت دائماً مستهدفة من قبل الفصائل الدينية، وكانت أهداف الدين ترسم خطّ بطلان فلسفة وجودهم، وكانت أول خطوة تخطوها تلك الفصائل هي خطوة الاعتراض عليهم.
وغير هاتين المجموعتين: مجموعة المهديين ومجموعة المغضوب عليهم، هناك أيضاً مجموعة ثالثة ينتهي
[ 33 ]
بها الطريق إلى نفس ما ينتهي إليه المغضوب عليهم(بيّن هذا الأمر في عدة آيات من القرآن بلحن مليء بالمعاني وبمناسبات شتّى من بينها : سورة الشعراء ، الآيات : 91- 102 ، سورة ص ، الآيات 58 - 61 ، سورة إبراهيم ، الآيات : 21 - 22 ، سورة غافر : 47 - 48.)، الجملة التالية تشير لهذه المجموعة من الناس .
ولا الضالين:
الذين سلكوا عن جهل وغفلة، متابعة لأسيادهم المضلين، طريقاً غير طريق الله والحقيقة، في حين أنّهم كانوا يظنون أنّهم سائرون في الطريق الصحيح، مع أنّهم يخطون في طريق خطر، ويتجون إلى نهاية مرّة.
هذه المجموعة أيضاً يمكن مشاهدتها في التاريخ بوضوح، إنهم كل الذين كانوا يمتثلون أوامر أسيادهم في النظم الجاهلية، ويطيعونهم إطاعة عمياء، وكانوا من أجلهم يخطّئون الذين ينادون بالحق والعدل ويهتفون بدين الله، وحتى أنّهم يقفون بوجههم أحياناً، ثمّ لا يسمحون لأنفسهم ولو لحظة واحدة يجددون فيها النظر بهذا الطريق الذي سلكوه عن جهل.
ونحن نسمي هذا الأمر جهلاً لأنّه يحقق مصالح الطبقات المستكبرة، ويدمّر هؤلاء الضالين أنفسهم، وعلى
[ 34 ]
العكس فانّ دعوة الرسل تستأصل شأفة الفئة المغضوب عليها وتعمل طبعاً لأجل الطبقات المحرومة والمستضعفة، ومن ضمنها هؤلاء المغفلون.
إنّ المصلي باستذكاره الحالتين (حالة المغضوب عليهم) وحالة (الضالين) تنشأ لديه حالة الحساسية والدّقّة في تحديد الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، والموقف الذي يجب اتخاذه تجاه الصلاة المنقذة التي يدعو إليها الأنبياء، وعندها إذا رأى في سلوكه في الحياة علاقة تدلّ على الرشد والعثور على الطريق، يلهج ثانية شاكراً هذه النعمة الكبيرة قائلاً: الحمد لله رب العالمين( قيل باستحباب التلفظ بهذه الجملة عند الفراغ من سورة الفاتحة .) .
وبذلك ينهي جزءاً مهماً في الصلاة .
كانت هذه بداية القرآن التي تلاها (فاتحة الكتاب).
ديباجة القرآن -كديباجة كل كتاب- تعطي صورة عامة لمجموع معارف الكتاب، فكما أنّ الصلاة خلاصة وصورة مصغرة للاسلام، أشير فيها إلى الكثير من الجوانب والنقاط البارزة لايديولوجية الاسلام، فان سورة الفاتحة أيضا هي فهرسة للنقاط البارزة والخطوط العريضة للمعارف القرآنية والمشتملة على خلاصة التوجيهات المهمة فيه، ولذا:
[ 35 ]
فانّ العالمين والعالم شيء واحد متصل أنشأه ذلك الاله -رب العالمين- كل شيء وكل شخص واقع تحت رحمة الله وعطفه، وأمّا المؤمنون فلهم رحمة ولطف خاص منه: الرحمن الرحيم.
إنّ حياة الانسان مستمرة بعد هذا العالم، وانّ الحاكمية المطلقة هناك لله: مالك يوم الدين، على الانسان أن يتحرر من عبودية غير الله، وأن يحيا تحت ظل رعاية الله، بالخصائص الانسانية وفي طريق الانسانية، حراً مختاراً: إياك نعبد وإياك نستعين.
عليه أن يلتمس طريق السعادة والصراط المستقيم في حياته من الله: اهدنا الصراط المستقيم، عليه أن يشخّص جهة الأعداء والأصدقاء، وأن يتعرف أفكارهم واستراتيجيتهم ليحدد موقفه من كلتا الجبهتين بما يمليه عليه إيمانه: صراط الذين أنعمت عليهم...
سورة التوحيد:
بعد إتمام هذه المناجاة المربية المليئة بالمحتوى، على المصلي أن يتلو سورة كاملة من القرآن.
هذه التلاوة جزء من القرآن ينتخبه المصلي بحريته وإرادته، يفتح بوجهه فصلاً آخر من المعارف الالهية
[ 36 ]
الإسلامية .
فريضة تلاوة القرآن في الصلاة -كما قال الامام علي بن موسى الرضا (ع) في حديث الفضل بن شاذان: إنّما أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيّعا ويكون مدروساً ولا يضمحل ولا يجهل.
نكتفي هنا بالإشارة إلى سورة التوحيد المتعارف تلاوتها في الصلوات.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيّها الرسول قل واعتقد وبلّغ الآخرين بهذه الحقيقة {هو الله أحد} فليس له شريك ولا مثيل ولا منافس كالذي تعرفه عقائد الأديان المنحرفة.
ليست ساحة الخليقة مسرحاً لتنازع الالهة وحربهم، بل إنّ جميع سنن العالم وقوانينه صادرة عن إرادة واحدة وقدرة واحدة، ولذا يسود عالم الخليقة النظام والاتساق فجميع القوانين والتحولات والتحركات الطبيعية في العالم تتحرك باتجاه واحد. الانسان وحده الذي متّعه الله بالارادة والاختيار والقدرة على التصميم -يمكنه أن يتمرد على هذا النظام ويعزف لحنا شاذاً مخالفاً للعزف الجماعي، كما يمكنه أيضاً أن يصنع لنفسه حياة تنسجم مع قوانين الوجود.
[ 37 ]
الله الصمد:
ليس الله بحاجة إلى شيء أو أحد، فأنا أتواضع أمامه وأعظمه وأحمده ليس كباقي الأرباب المحتاجة في إيجادها واستمرارها في الحياة وقدرتها إلى رعاية غيرها، فان إلها كهذا لا يستحق التكريم والتعظيم من قبل الانسان، إذ أنّه موجود كالانسان أو أدنى منه، الانسان هذا الموجود العظيم والعميق لا ينبغي أن يعظم سوى قدرة ليست محتاجة أدنى احتياج إلى أيّ وجود وأيّ عنصر، لأنّ وجودها وقدرتها وخلودها نابع من ذاتها.
لم يلد:
إنّه ليس كما ذكرته الأديان الخرافية والمنحرفة والعقائد المشركة، ليس إله المسيحيين والمشركين الذين تصوروا له ولداً أو أولاداً، إنّه خالق كل شيء وكل شخص، لا أنّه أبوهم بل كلّ سكان السموات والأرض هم عباده لا أولاده.
إنّ نسبة الربوبية والعبودية بين الله والانسان هي التي تمنع عباد الله الواقعيين من عبادة أيّ شيء أو أحد غير الله، إذ انّ عبادة إلهين غير ممكنة.
إنّ الذين جعلوا الله أبا عطوفاً للخلائق، وأن البشر هم أولاده، لم تتضّح لهم حقيقة عبودية الانسان لله، وانّها مقام تكريم لهذا الانسان، إنّهم في الحقيقة قد فتحوا طريقاً لعبادة
[ 38 ]
غير الله، وأصبحوا عملياً عبيداً للكثير من أرباب الدّنيا ممّن نزعت منهم المروءة، وصاروا آلة بيد النخاسين من باعة الرقيق.
ولم يولد:
فهو ليس حادثاً، لم يكن في وقت، ثمّ جاء إلى ساحة الوجود، وليس هو وليد أحد أو فكرة أو اعتقاد، وليس وليد نظام أو طبقة أو شكل من أشكال حياة البشر، إنّه اكرم الحقائق وأسماها، إنّه حقيقة أزلية، كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد.
ولم يكن له كفوا أحد:
ليس له مثيل ولا يمكن أن يشبهه شيء، لا يمكن تقسيم مناطق نفوذه ومناطق حكمه (وهي عالم الكون بأجمعه) بينه وبين شخص آخر، ولا يمكن أن يكون جزء من حياة الانسان له والآخر لغيره، من الأرباب الأحياء وغير الأحياء، ومن مدعي القدرة والألوهية.
هذه السورة هي من جهة تعرف المسلمين وجميع العالمين الاله الذي يستحق العبادة والتمجيد بنظر الاسلام، وأنّ الاله الذي لا يكون أوحد، ويكون له مئات وآلاف المشاكلين في العالم، ليس جديرا بالربوبية والألوهية، إنّ القدرة المحتاجة لاستمرارها إلى موجود آخر لا يمكن ولا
[ 39 ]
ينبغي أن تفرض على البشر، إنّ الذي يعظّم وينحني للأرباب الواهية، المحتاجة والمحدثة والزائلة يسحق كرامته الانسانية، ويسقّط نفسه والانسانية، هذه هي الجهة الايجابية في سورة التوحيد التي تستعرض مميزات المعبود وربّ الانسان، وتثبت بطلان الأرباب على طول التاريخ.
ومن جهة أخرى ، تحذر عباد الله والمسلمين من تدنيس أنفسهم بالنظر الفلسفي الذي يولّد الشبهات والوساوس بشأن ذات الله وصفاته، وأن يذكروا الله ويدعوه بكلام بسيط، كما يمكن أن يذكر مدعو المقام القدسي للربوبية زوراً، بدل أن يستغرق الانسان في الفلسفة والذهنيات، عليه أن يفكر في الالتزامات النابعة من عقيدة التوحيد.
وكما جاء في حديث الامام علي بن الحسين (ع) : إن الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد) والآيات من سورة الحديد إلى قوله: (عليم بذات الصدور)، فمن رام وراء ذلك فقد هلك (نور الثقلين : ج 5 نقلا عن أصول الكافي .) .
كأنّما تقول هذه السورة (قل هو الله أحد) للمصلي:
[ 40 ]
إنّ الله قدرة فريدة وعالية، وهو مستغنٍ ذاتاً وغير محتاج (لم يلد ولم يولد) وليس له مشابه ومشاكل و.. هذا وكفى، والعلم والرؤية والحكمة وباقي صفات الله التي يكون فهم المسلم لهاً واجباً، والتي تكون مؤثرة في حياته وعروج روحه، ذكرت أيضاً في آيات أخرى من القرآن، ولا تتعمق أكثر من هذا في ذات الله وكيفية صفاته، إنّك ستحصل على معرفة أكثر خلال العمل، لا تتصور أنّك ستحصل على معرفة أكثر بالبحث والتنقيب الذهني العميق، بل حاول تحصيل المعرفة عن طريق التحلي بالصفاء وروحانية الباطن والروح، عن طريق العمل بمستلزمات التوحيد، وهكذا كان الأنبياء والصديقون، إنهم عباد الله الحقيقيون، والموحدون والصادقون والعارفون.
التسبيحات الأربع:
قبل أن ندخل في بيان الذكر في الركوع والسجود، نوضح الجمل التي يرددها المصلي في الركعتين الثالثة والرابعة قائماً، هذه الجمل هي أربعة أذكار تنطق بأربعة حقائق عن الله تعالى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
لمعرفة هذه الخصوصيات الأربع تأثير عميق في تكوين فهم صحيح وكامل عن التوحيد، إذ أنّ كل واحد من هذه
[ 41 ]
الأذكار يعدّ مثالاً لعقيدة التوحيد .
تكرار هذه الجمل ليس من أجل زيادة المعلومات الذهنية للإنسان واطلاعه فقط، بل إن أعظم فوائد العلم بصفات الله وخصوصياته وتكرار ذكرها هو أنّها تبعث في الانسان الحركة والمسؤولية، وتجعله مكلّفا تجاه تلك الحقيقة التي أدركها.
بشكل عام يجب أن تكون العقائد الإسلامية خارج الذهن وفي مسرح الحياة منشأً للعمل والحركة، إذ أنّ هذه العقائد لا تستمد أهميتها واعتبارها من جنبتها الذهنية والتجريدية، بل إنّ أغلب ذلك مستمد من جهة كونها ناظرة إلى حياة الإنسان وسلوك الفرد والمجتمع صحيح أنّ كل عقيدة إسلامية معناها معرفة حقيقة معيّنة، ولكن إنّما يجب الإعتقاد بها، فيما إذا استلزمت تعهداً من الانسان، ووضعت على عاتقه تكليفاً جديداً.
العقيدة بوجود الله من هذا القبيل، فانّ كلاً من الاعتقاد بوجود الله وعدم وجوده يشكل نمطاً وشكلاً خاصاً في الحياة والعمل، إنّ الفرد والمجتمع الذي يعتقد حقّاً بوجود الله يحيا نمطاً وشكلاً خاصاً في الحياة، وأمّا الفرد والمجتمع المنكر لهذه الحقيقة فانّه يعيش بشكل آخر، إن اعتقد الانسان أنّه والعالم مخلوق من قبل قدرة الله وعن إرادة شاعرة
[ 42 ]
وحكيمة، فسيؤدي به هذا الاعتقاد إلى اعتقاد آخر وهو أنّ هذا الخلق كان لهدف ولغاية، ويوقن بأنّ له أثراً ومسؤولية لبلوغ هذه الغاية، وهذا الاحساس بالمسؤولية هو الذي يدعوه إلى العمل والجد وتحمل ثقل المسؤولية، ويشعر تجاه ذلك كلّه بالرّضا ويتقبله عن طيب نفس.
وهكذا الاعتقاد بالمعاد والنبّوة والامامة و.. كلّها تلقي مسؤوليات وتكاليف على عاتق المعتقد، وتشخص له بأجمعها منهج سيره وحياته.
وإن شوهد في الواقع الخارجي من يرون أنفسهم معتقدين بهذه الاصول الفكرية، متساوين مع أولئك الذين ليس لديهم أدنى اطلاع عليها، ولا يعتقدون بها، فما هذا إلاّ بسبب عدم الاطلاع الكامل أو لعدم تجذّر إيمانهم وتسليمهم، في المواطن الحساسة وفي منعطفات الحياة يمتاز صفّ المعتقدين الواقعيين عن المقلدين الجاهلين والمنتهزين للفرص، وبهذه الرؤية نرجع إلى مفاد الأذكار الأربعة ومحتواها.
سبحان الله:
إنّ الله منزّه عن أن يكون له شريك، ومنزّه عن الظلم، وعن أن يكون مخلوقاً، وعن أن يفعل ما هو مناف للحكمة والمصلحة، وعن جميع النواقص والاحتياجات
[ 43 ]
والعيوب الموجودة في الكائنات، وعن جميع الصفات المستلزمة لكونه مخلوقاً أو ممكناً.
بالتلفظ بهذه الجملة وذكر هذه الخصوصيّة لله يفهم المصلي ويستذكر أنّه أمام أيّ عظيم، ولأيّ ذات حريّة بالتمجيد قام بالخضوع والتعظيم، إنه يشعر أنّ تعظيمه وتواضعه أما الاحسان والكمال المطلق، هل يشعر أحد بالحقارة عندما يحترم الطهارة والاحسان والجمال المطلق؟ إنّ صلاة الإسلام هي التواضع والتعظيم لهذا المحيط المتلاطم للاحسان والكمال والجمال، إنّها ليست خضوعاً يذلّ الانسان ويقلل من شأنه وكرامته وعزّته الانسانية، وليست مدحاً يذلّ الانسان ويحقره، أليس الإنسان كائناً مدركاً للجمال باحثاً عنه؟ -إذن- فمن الطبيعي جداً أن يسجد للكمال المطلق، وأن يعبد الذات الواجدة له ويمجّدها بتمام وجوده، هذا التمجيد وهذه العبودية تسحبه نحو طريق الكمال والاحسان والجمال وتجعل حركة حياته في هذا الاتجاه وهذا المسار.
إنّ الذين يرون العبادة الاسلامية محققة لإذلال الانسان، وقاسوها بالتقديس للقدرات المادية، قد أغفلوا نكته دقيقة وهي: إنّ الثناء على الاحسان والطهارة هو بحدّ ذاته أكبر دافع ومحفز نحو الاحسان والطهارة، هذه النقطة
[ 44 ]
هي التي نستذكرها عندما نتلفظ "سبحان الله".
الحمدلله:
إنّ الانسان في طول حياته المملّة كان دوماً ولأجل الحصول على الفوائد المتنوعة والامتيازات الصغيرة والكبيرة ولأجل البقاء بضعة أيام أخرى على قيد الحياة، وحتى في كثير من الاحيان من أجل الخبز يفتح فمه بالثناء على الذين يساوونه في الخلقة وليس لديهم ما يسمو بهم عليه، ويضحي بنفسه وماله من أجل أسياده، لانّه كان يراهم مصدر النعمة، فيستجيب ويرضخ لعبودية سيّده، عبودية الجسد للروح والفكر.
إنّ استذكار كون جميع المحامد لله يفهم أنّ جميع النعم لله، فاذن في الحقيقة لا أحد يملك شيئاً ليمكنه عن هذا الطريق ويحق له أن يسترق أحداً ويجعله مطيعاً وأسيراً له، ويعلم الارواح الضعيفة والقلوب المسحورة والعيون المنخدعة بالنعم أيضاً أن لا تحسب رحمة وعطاء الارباب والاسياد الضئيل شيئاً، ولا تعدّه منهم، ولا تسلم قيادها، أو تتحمل الحرمان من أجله، ولتعلم أنّ مالكه محتكر لع وغاضب ومعتد.
[ 45 ]
لا إله إلا الله:
هذا هو شعار الاسلام الذي يظهر الرؤية الكونية والايديولوجية لهذه العقيدة وفي هذا الشعار نفي وإثبات.
ففي البداية ينفي كلّ القدرات الطاغوتية وغير الالهية، ويخلّص نفسه من ربقة العبودية لكلّ القوى الشيطانية، ويقطع كلّ يد أو رجل تسحبه بكلّ شكل من الاشكال نحو طريق ما، ويرفض كلّ قدرة غير قدرة الله، وكل نظام إلاّ النظام الالهي، وكلّ البواعث التي يرتضيها الله، وبهذا النفي العظيم يتحرر من كلّ ذلّ وانكسار وقيد وأسر وعبودية.
عندها يحكّم أمر الله وارادته التي تتحقق فقط في ظل نظام ربّانّي -يعني أمة اسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة- على وجوه ويتقبل عبودية الله التي ترفض كلّ العبوديات الاخرى.
عبادة الله تعني صياغة الحياة طبقاً لأوامر الله الحكيمة، والعيش في ظل ربّاني رسمت خطوطه العريضة وفقاً لأوامر الله، والتحرك بجميع القوى والجهود الممكنة لايجاد هذا النظام وهذه السعادة.
وأمّا النظم الاخرى التي بنيت على أساس من التفكير
[ 46 ]
البشري، بسبب من الجهل وعدم الاطلاع والانحراف الفكري وأحيانا لعدم خلوّها من المطامع فانّها ليست قادرة على إسعاد البشر وإيصاله إلى الكمال الانساني المطلوب.
والمجتمع والنظام الالهي فقط هو الذي يمكنه -لكونه نابعاً من حكمة الله ورحمته، منطلقاً من الاحاطة بما يحتاجه الانسان، قادراً على تلبية هذه الاحتياجات- أن يكون محيطاً مناسباً لنمو هذا البرعم الذي يسمّى بالانسان.
نحن لسنا أعداءً للنظم الاخرى، بل نحن نشفق عليها، هذا كلام الانبياء وهم آباء البشر المشفقين عليبهم، إنّهم يعلمون صانعي ومهندسي البيوت التي يجب أن تسكن فيها الانسانية، أي من يشيّدون النظم والمجتمعات، إنّ البشر لا ولن يمكنه أن يسعد إلاّ في ظل ربانيّ وتوحيدي، لقد اثبت التاريخ وشاهدنا وسنرى ما الذي يتجرعه الانسان في ظلّ النظم غير الربانيّة، وكيف مسخت الانسانية وبأيّ يوم عصيب قد ابتليت؟
الله أكبر:
وبعد هذا النفي كلّه يشعر الانسان العادي الذي ما زال متمسكا بالحقائق الجاهلية، بالغربة والوحدة، فهو من جهة يرى عياناً إنهيار الاسس التي كانت تبدو حتّى وقت قريب راسخة، ومن جهة أخرى توحي له الجاهلية بأنّها ما زالت
[ 47 ]
ثابتة كالجبل، نفس الاشياء التي نفاها تعرض له وجودها فتقضّ مضجعه، في نفس اللحظة التي يقول فيها -الله أكبر- من كلّ شيء، من كلّ شخص، من كلّ القدرات والمقتدرين، ومن أن يوصف، وهو مهندسي السنن والقوانين الكونية للعالم سواء في مجال الطبيعة أم في التاريخ، إذن لا يتيسر النصر النهائي المتوقف على التعاطف مع هذه القوانين والسنن إلاّ بالتمسك بأوامره، فاطاعته وعبادته هي الجبهة الوحيدة المنتصرة في خضم تاريخ البشرية.
وكان محمد (ص) مدركاً لهذه الحقيقة تماماً ويؤمن بها من أعماقه، وكان يلمسها بيده، ولذا ثبت بمفرده بوجه جميع الضالين في مكّة، بل بوجه كلّ العالم، وقاوم بإصرار كما يتوقع من إنسان بارز في حدود قدرته أن يقاوم، من أجل تخليص قافلة البشر الضالة من التبعية الذليلة للقدرات الطاغوتية وتوجيهها نحو المسار الفطري ألا وهو مسار التكامل.
إنّ من يجد نفسه ضعيفاً مسلوب الارادة أمام القدرات البشرية إذا أدرك أنّ أعلى القدرات وأكبرها هو الله تعالى فسوف يطمئن قلبه، ويهدأ وتتوهج في باطنه قوّة فريدة تجعل منه الافضل والاقوى.
[ 48 ]
هذه كانت خلاصة محتوى ومفاد الجمل الاربع التي تتكرر في الركعتين الثالثة والرابعة حال القيام.
الركوع:
بعد إتمام القراءة يدخل المصلي في الركوع، أي ينحني أمام الله، القوة الكامنة وراء ذروة التفكير الانساني في آفاق الخصال الحميدة والعظيمة .
الركوع مثال لخضوع الانسان أمام القدرة التي يعتقد أنّها أقوى منه، ولاّن المسلم يرى أنّ الله فوق كلّ القدرات فهو يركع أمامه، ولانّه لا يرى أيّ موجود غير الله أعلى وأفضل من إنسانيته فهو لا ينحني لايّ شيء أو شخص آخر.
وفي هذه الحال يظهر أمام الله بمظهر الخضوع ولسانه يلهج بحمد الله وبيان عظمته.
سبحان ربيّ العظيم وبحمده( وبالامكان أيضاً استبدال هذا الذكر بقول : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله)
إن هذه الحركة التي تؤدى بشكل متناسق مع ما يلهج به تظهر له ولمن يراه على هذه الحال العبودية لله، وبما أن من يعبد الله لا يكون عبداً لغير الله فهي تعلن له صراحة حريته من
[ 49 ]
عبودية غير الله .
السجود:
من رفع الرأس من الركوع وفي حين التهيؤ لتواضع وخضوع أكثر يهوي إلى الأرض. إنّ وضع الجبهة على الارض علامة لأعلى مستوى لخضوع الانسان، وإنّ المصلي يرى هذا الحد من نصاب الخضوع يناسب الله، إذ أنّ الخضوع لله هو خضوع لكل ما هو حسن وللجمال المطلق، ويرى ذلك حراماً وغير جائر بالنسبة لكل شيء وشخص غير الله، إذ أنّ جوهر الانسان وهو أثمن بضاعة في متجر الوجود يتحطم بهذه العملية ويغدو الانسان ذليلاً ومنكسراً، وبينما هو واضع رأسه على الأرض، غارق في عظمة الله، يبرز اللسان قائلاً باتساق تام ما يفسر في الحقيقة عمله ويشرحه.
سبحان ربيّ الاعلى وبحمده( بالامكان أيضاً أن تقول ثلاثاً : سبحان الله ) .
الله الاعلى، الله المنزّه والمطهرّ، وأمام هذه القوة فقط ينبغي للانسان أن يلهج بالثناء ويضع جبهته على التراب.
فاذن -سجدة الصلاة- ليست انحناءة أمام موجود ناقص وضعيف لا قيمة له كالهوي أمام الاصنام والقدرات
[ 50 ]
الخاوية، بل هو هوي أمام الاعلى والاطهر والاعز.
إنّ المصلي بهذه الحركة يعلن بشكل عملي إنصياعه لله الحكيم والبصير، وقبل كل شيء يلقن نفسه هذا التسليم والانقياد، إنّ قبول هذه العبودية المطلقة لله -كما أسلفنا- هو الذي يرفع عن الانسان قيود عبادة كلّ شيء وشخص، ويخلصه من الاسر والذلة التي هو فيها.
إن أهم أثر يرتجى من هذين الذكرين (ذكر الركوع والسجود) هو تعليم المصلي أمام أي شيء يجب أن يخضع وينثني، وهذا معناه نفي كل ما عدا الله، وربما يشير إلى هذا الامر الحديث المنقول عن الامام (ع): أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد(سفينة البحار (ج1) مادة سجد) .
التشهد:
في الركعة الثانية وفي الركعة الاخيرة لكلّ صلاة بعد أن يرفع المصلي رأسه من السجدتين يتلفظ بثلاث جمل تبيّن كل واحدة منها حقائق من الدين، وتسمى هذه العملية المقترنة بالالفاظ (التشهد).
يشهد في الجملة الاولى بتوحيد ربّ العالمين: أشهد
[ 51 ]
أن لا إله إلاّ الله، ثمّ يؤكد هذه الحقيقة بهذا النحو: وحده، ثم يؤكدها بنحو آخر: لا شريك له.
كلّ ما يجر الانسان إلى عبادته ويصيّره مطيعا له فهو إلهه، الهوس والميول الحيوانية، أو الشهوات والآمال الانسانية، أو النظم والمقررات الجماعية وواضعوها وزعماؤها، كل واحدة منها تدعو الانسان بشكل من الاشكال إلى عبوديتها وتأليهها(يلتفت إلى آيات من قبيل {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} سورة الجاثية/ الآية(23) و {ما أمروا إلاّ لعبدوا إلاّ إلها واحداً} و {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} سورة التوبة/الآية( 31) و {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} سورة القصص/الآية(38) ، وروايات من قبيل {ألهتهم بطونهم}.) وإنّ (لا إله إلاّ الله) نفي لكل هذه الروبيات، والتشهد شهادة من المصلي على هذا النفي، أي أنّ المصلي يتقبل ويعتنق فقط أنّ الله وحده هو الذي له حقّ الامرة والألوهية عليه، وأنّ جميع ما عداه ليس له أيّ حاكمية عليه.
وعندما يعتقد الانسان بهذا الشيء فسوف لا يحق له هو أيضاً أن يعبد كائناً آخر من قبيل البشر أو الحيوانات أو الملائكة أو الجماد أو الهوى والشهوات النفسية.
[ 52 ]
وليس معنى ذلك أنّ الموحد لا يخضع لايّ التزام في المجتمع، ولا يحكم أيّ قانون، إذ من الواضح أنّ الحياة الاجتماعية بحسب ماهيتها لا بدّ لها من الالتزام والانقياد، بل بمعنى أنّه لا يقبل ايّ تحكم ونظام لا يستمد من أوامر الله، وهو في حياته الاجتماعية يصغي لامر الله، وما أكثر ما يقتضي الشكل والنمط الذي يريده الله من أجل إدارة حياة البشر أن يطيع أشخاصاً ويلتزم بتعهدات، فإذن الامتثال والتعهد بحسب المتطلبات الذاتية للحياة الاجتماعية لا يمكن انفكاكه عن حياة الانسان الموحّد أيضاً، ولكن ليس هذا الامتثال امتثالاً لهوى النفس أو زخرف الحياة والانانيات التي لدى أمثاله من البشر، بل هو امتثال لامر الله البصير الحكيم، إذ أنّه هو الذي يعيّن المقررات التي يجب إجراؤها، والقادة الذين تجب إطاعتهم، وأنّهم يحكمون البشر في حدود الاوامر الربّانية فقط.
إنّ هذا الامر الربّاني ناظر إلى هذه الحقيقة(التدقيق في هذه الآيات والروايات من قبيل:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} سورة النساء/ الآية(80) {انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون} سورة المائدة/آية (55).
(وانظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر ..) و (العلماء أمناء الله على خلقه..) يمكن أن يكون موضحاً للحدود التقريبية لهذه الحقيقة.)
[ 53 ]
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }(سورة النساء / الآية (59).)
وربّما من أجل ملاحظة هذا المعنى ومتابعة لها يقول المصلي في الجملة الثانية من التشهد: وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
إن قبول محمد(ص) مرسلاً من قبل الله هو في الحقيقة قبول للاستخلاف الالهي، أي اتباع طريق الله عن طريق اتباع طريق محمد، وأخذ أوامره من عبده المجتبى.
كثير من عباد الله أخطأوا في معرفة طريق ما يرضي الله -إن معرفة محمد (ص) وقبول كونه رسول الله، محدد وموجّه للجهد والحركة التي ينبغي للانسان العابد إبرازها، لكي يثبت صحة دعواه عبادة الله.
في هذه الجملة بالاستناد على عبودية محمد (ص) واستخدام كلمة (عبده) كثيراً، عوضاً عن (رسوله) كأنّما أريد التعريف بأهم فضيلة في الاسلام، وحقا إن الامر لكذلك، فانّ جميع الفضائل الانسانية تتلخص في عبادة الله الحقيقية والاخلاص لله، وكل من حاز في هذا المضمار على سهم أوفر من الجميع، فستكون كفته الانسانية أثقل ميزاناً من الجميع.
[ 54 ]
لا حاجة للاستدلال على هذا المعنى بالنسبة إلى الشخص العارف لمفهوم (عبادة الله)، فان كان معنى عبادة الله هو الخضوع أمام الحكمة والبصيرة والرحمة والاحسان والجمال اللامتناهي، الملازم للتحرر من عبادة النفس وعبودية الغير، فأيّ قيمة أسمى من هذه يمكن العثور عليها؟ أفليست جميع المساوئ والانحطاط والشقاوة والامور المذلّة وانعدام المروءة، وبشكل مختصر، جميع ما هو مظلم، وليد عبودية الانسان لجموح النفس أو جموح وطغيان المدّعين من البشر؟ أفليست عبادة الله تحرق جذور كلّ عبودية أخرى وتحطمها؟
إنّ النقطة الدقيقة الموجودة في هاتين الجملتين من التشهد هي التذكير بالتوحيد والنبوة ضمن شهادة من قبل المصلي بوحدانية الله وبرسالة محمد (ص) وعبوديته.
هذه الشهادة في الحقيقة عبارة عن قبوله بجميع الالتزامات المترتبة على هاتين العقيدتين، وكأنما المصلي بهاتين الشهادتين يريد أن يقول: إنّي أعتنق جميع التكاليف التي تنشأ من قبل هاتين العقيدتين (التوحيد والنبوة)، ولا قيمة في الاسلام للعلم التافه الفارغ الذي لا يستتبع تعهداً، ولا للاعتقاد الذي لا يكون منتجاً، إنّ الشهادة على حقيقة بمنزلة الوقوف عليها وقبول جميع التعهدات والاعمال الناتجة
[ 55 ]
عن العلم بها، القبول الناتج من اعتقاد خالص وإيمان فعّال وموجب، فاذن تشهّد الصلاة في الحقيقة تجديد بيعة من المصلي مع الله ورسوله.
الجملة الثانية من التشهد هي طلب ودعاء، اللّهم صلّ على محمد وآل محمد -إنّ محمداً وآله الاطهرين (ص) هم العلامات البارزة لهذه العقيدة، وإنّ المصلّي يذكر هؤلاء العظام بلسان الدعاء، وبالصلاة عليهم ليعزز ارتباطه الروحي بهم.
إنّ أتباع كل رسالة إن لم يجعلوا نصب أعينهم قادة ذلك المذهب الحقيقين، فمن المحتمل جدّاً أن يضلّو الطريق، وإنّ إراءة العلامات الحقيقة هي التي عززت ثبات عقيدة الأنبياء على مرّ الزمان.
يذكر التاريخ كثيراً من المفكرين الذين ابتكروا خططاً ومناهج لتأمين حياة أفضل، توفر للانسان سعادته، ورسموا المدن الفاضلة وخلّفوا كتباً ومآثر لهم، ولكنّ الأنبياء بدل أن يدخلوا في بحوث فلسفية جسّدوا أطروحاتهم عملياً، وصنعوا من أنفسهم وأوائل المعتقدين بهم نماذج تحتذى، وبنوا على عواتقهم النظام المطلوب.
ولهذا بقي مذهب الأنبياء حيّا ولم يبق لمخططات
[ 56 ]
الفلاسفة والمفكرين سوى حبر على ورق.
إنّ المصلي يدعو من أعماق قلبه لمحمد وآله (ص)، وهم خلاصة تبلورات هذه العقيدة، يدعو للذين أفنوا عمرهم وعاشوا مجسدين لهذه العقيدة، وأظهروا للتاريخ إنسانا من الطراز الاسلامي، ويطلب من الله أن يصلي عليهم ويرحمهم، ويعمق ويوثق الاتصال الروحي بينه وبينهم، إذ بإمكانهم كجاذبة قوية جذبة نحو طريقهم والهدف الذي كانوا ينشدونه.
إنّ الصلاة على محمد وآل محمد (ص) هي المجسّدة للاشخاص المخلصين، والنخبة المسلمة. وبتجسيدها هذه الوجوه، وجعلها نصب الاعين، يتمكن المسلم دوماً من معرفة الطريق الذي يجب عليه قطعه ويتهيّأ لسلوكه.
سلام الصلاة:
إنّ هذا السلام يشتمل على ثلاث تحيات( يمكن أن يقتصر على الثالثة فقط إذ أنّ الأوليين مستحبان) ، مع ذكر الله وذكر اسمه، فاذن تبدأ باسم الله وتختتم باسمه، وبين هذه البداية وهذه النهاية طريق حافل بذكر الله، إنّ ذكر النبي أو آله في جملة سيكون أيضاً مصحوباً بذكر الله، بصورة استمداد من لطفه ورحمته.
[ 57 ]
الجملة الأولى تحية من المصلّي للرسول (ص) وطلب الرحمة من الله لذلك العبد المجتبى: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته.
الرسول، مؤسس الاسلام، أي رأس الحركة والجهود التي يستعد المصلي الآن للعمل بها بنفسه، هو الذي صرخ بهتاف التوحيد، والذي قلب الدنيّا رنينه وأسس الحياة الافضل للانسان إلى الابد، هو الذي رسم الخطوط العريضة لوجه النموذج الاسلامي للانسان، والأمة التي يمكنها أن تكون معهداً لهذا الانسان، إنّ المصلي يعكس هذا الشعار في صلاته وتعاليمها الضمنية في حياته وفضاء زمانه، ويخطو خطوة خطوة نحو ذلك المجتمع الأفضل وتكوين ذلك الانسان النموذجي، فاذن ليس اعتباطاً ذكر رسوله وهاديه الذي جعله مرشده في هذا الطريق في نهاية الصلاة بتحية، فبهذا اللسان يعلن عن حضوره إلى جانبه وفي طريقه.
في الجملة الثانية يسلم المصلي على نفسه وعلى جميع سالكي مسلكه والعباد الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وبذلك يحيي ذكر عباد الله الصالحين في ذهنه ويجعل وجودهم وحضورهم مادة تبعث الإطمئنان في نفسه.
في الدنيا التي انتشرت فيها مظاهر العصيان، والقبائح
[ 58 ]
والدناءات والعداوة والظلم، وتقبل التلوث وعدم التطهر، وطوت كل شخص في المحيط الذي يتراءى فيه للانسان العاقل أن كل شيء ينذر بافلاس الانسانية وانهيارها، وان زبارجها في نظره ليست سوى ألوان ليس لها واقع وراء مظاهر الابتذال والترهات. أجل في العالم الذي لا يتمكن فيه مدّعو الحق والعدالة أن يتستروا على فضائح الانانيات وطلب الجاه، وحيث لا يمكن التعتيم على مكانة الحسين وعليّ والصادق (ع) بالصخب الخادع الذي يطلقه أمثال معاوية ويزيد والمنصور.
وبشكل مختصر، في العصر الذي يستولي فيه أعوان الشيطان على مناصب رجال الله الصالحين، هل يمكن ترجي إحسانهم وصلاحهم والنظر إليهم بعين الواقعية، وينتظر منهم ما ينتظر من رجال الله؟ أفهل يمكننا أن ننظر شيئاً سوى المعاصي والآثام والضلال وإماتة الحقّ بين البشر؟ علينا أن نعترف بأنّه لو أمكن ذلك فأنّه لا يمكن بسهولة.
إنّ السلام على عباد الله الصالحين يأتي في هذا الخضم ليبعث الدفء والطمأنينة في القلوب الحزينة المضطربة، وكأنّه ملاك يخبر في قلب الظلم بحضور النور والضياء، ويبشر المصلي بوجود الانصار والاصحاب، يقول له: لست وحيداً، فانّ في قلب هذه الصحراء القاحلة توجد
[ 59 ]
براعم مثمرة ومتأصلة يمكن العثور عليها، كما أنّه في طول التاريخ كانت المجامع المنحرفة رحماً لميلاد الارادات القوية للرجال البارزين الذين كانوا في النهاية هم المخططين لعالم جديد وواضعي حجر الأساس لحياة جديدة. والآن أيضاً وطبقاً لسنة الله في التاريخ، فأنّ قوى النور تلك هي التي تخلق الاحسان في صورة جدّ وسعي في باطن هذه الدنيا المظلمة. أجل إنّ الصلحاء يعبدون الله بالشكل الذي يناسب عظمته ويمتثلون أوامر، ويقفون في صف واحد منتظم بوجه الطغاة.
من هم هؤلاء الصالحون؟ وأين هم؟ ألا يجب التعلم منهم والسير إلى جانبهم؟ فعندما يجعل المصلي نفسه في عدادهم، ويسلم عليهم وعلى نفسه في جملة واحدة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) يسطع على قلبه نور من العزّة والافتخار والاطمئنان، ويسعى لان يكون حقّا في عدادهم، ويشعر بالخجل، إذا لم يستطع أن يسير إلى جانبهم، وهذا يملي عليه تعهداً وتكليفاً جديداً.
كيف هم العباد الصالحون؟ والصلاح في ماذا؟ فليس الصلاح فقط في الصلاة، الصلاح أن يتمكن الانسان من تحمل التكاليف الإلهية الثقيلة، ويعمل بالشكل الذي يكون فيه إطلاق (عبد الله) عليه مناسباً أو منسجماً، تماماً مثل
[ 60 ]
الطالب الممتاز في صفَّه.
وفي الختام يقول المصلّي في الجملة الثالثة مخاطباً هؤلاء العباد الصالحين، أو مخاطبا -الملائكة(وكأنّه بعنوان درس لتحصيل صفات الملائكة)-، أو مخاطباً المصلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبذلك يستذكر مرّة أخرى الصلاح والإستحقاق للصفات الملائكية أو الاتصال بباقي المصلين، يذكر المخاطبين الاعزاء بدعاء الخير وينهي صلاته.
والحمد لله ربّ العالمين
[ 61 ]
الفهرس
الموضوع الصفحة
تنويه 7
الله أكبر 20
سورة الحمد 21
سورة التوحيد 35
التسبيحات الأربع 40
الركوع 48
السجود 49
التشهد 50
سلام الصلاة 56
الفهرس 61