قراءة في كتاب ( الغناء )
للدكتور الفقيه العلامة : عبد الهادي الفضلي
هذه قراءة تلخيصية مختارة للبحث الفقهي الاستدلالي الذي قدمه العلامة الفضلي عن ظاهرة (الغناء : حقيقته وحكمه ) ..
وقبل البدء ننوه إلى أمر مهم ، وهو أن من يقوم بتلخيص أبحاث الفضلي يجد صعوبة وحيرة ، فبحوثه ومقالاته مصاغة بإسلوب قوي ومركز ، ومرتب ومنظم بطريقة تجعلك تقول بأن هذا البحث بحد ذاته هو خلاصة الموضوع .. وهذا مما تميز به الشيخ ، حيث عمق التحليل والاستدلال ، ومنهجية الطرح والإسلوب ، لكننا حاولنا قدر المستطاع اختيار الأجزاء التي نظن بأن فيها الفائدة ، وأن كنا نشجع كثيراً القراء بقراءة الكتاب الأصلي ففيه الفائدة الأفضل .
في البدء ، قسم الشيخ دراسته لظاهرة الغناء كالتالي :
1) الغناء في دراسات الفقهاء .
2) تاريخ الغناء وحقيقته .
3) التعريفات اللغوية والفقهية .
4) حكم الغناء والروايات .
5) مستثنيات الغناء .
وسنأتي على هذه العناصر بما يخدم قراءتنا .
أولاً : الغناء في دراسات الفقهاء .
عني الفقهاء المسلمون بموضوعات الغناء بدراسات مستقلة وغير مستقلة ، وقد ضمنت تحت عنوان ( المكاسب المحرمة ) على اعتبار أن الغناء من الأفعال المحرمة ، وقد عد الشيخ (14) دراسة مستقلة عن الغناء قديماً وحديثاً .
ولعل أهم مصدر فقهي إمامي يرجع فيه في موضوع الغناء ، كتاب ( المكاسب للشيخ الأنصاري ت1281هـ ) إضافة إلى شروحات الكتاب وحواشيه من العلماء .
وأهم هذه المصادر والشروحات وأوسعها كتاب ( المكاسب المحرمة لروح الله الخميني ت 1409هـ ) .
ثم تحدث الشيخ عن سبب وضعه لكتابه ، أنه كان استجابة لسؤال طرحه أحد المؤمنين ، ثم أعاد النظر فيه ووسعه فكانت الدراسة .
ويقول الشيخ في هذا الصدد :
(( تاركاً أمر التطبيق لهم ، لأنه تكليف شرعي يعمل فيه المجتهد وفق اجتهادة ، والمقلد حسب تقليده ، وما تنكب الصراط من سلك سبيل الاحتياط )) ص10 .
إذن هذه دراسة فقهية ، وليست دعوة لاتباع رأيه من قبل المؤمنين ، لأنهم ملزومون بالتقليد حسب ما جاء في تعبير الشيخ الفضلي السابق .
ثانياً : تاريخ الغناء وحقيقته .
عرف الإنسان الغناء ما قبل التاريخ ، حيث استعمله كوسيلة تعبير عما يعتريه من حزن أو فرح ، وكان كلاماً منظوماً يحدو به على راحتله ، أو يشدو به راجلاً في سفره ، أو يتلهى به العامل كالفلاحة أو الرعي ، أو ما يهزج به الأهالي لأفراحهم ، وما يكرم به العظماء ، وهذه البدايات للغناء لم يفرق فيه الناس بين ضيق الحياة والعيش وانفتاحه وازدهاره ..
لكن عندما قامت الدول وأترف الملوك بزهوهم ولهوهم ، وأعدت الدور الخاصة (بيوت الغناء) والمسارح والملاعب ، بما حول الحياة إلى دنيا لاهية حيث مضيعة الوقت عن جدية الحياة وفائدتها ، فصار الغناء وسيلة كسب عبر بيع المغنيات والدخل المادي للمغنية ، فتمثلت ظواهر جديدة في الغناء ، منها :
# غناء التسلية والترويح .
# غناء التلهية وكسب المال .
# بيوت الغناء المعدة للهو والكسب .
# مجالس غناء لأجل اللهو واللعب .
وقد سجل المؤرخون حوادث كثيرة عن عالم اللهو والغناء خاصة في العصرين الأموي والعباسي بما يخزي نقله ، وبما يتعفف اللسان والقلم عن ذكره ، وهذان العصران هما عصر تناقل الروايات الشرعية في شؤون الغناء ، ويساعدنا على الكشف عن مفهوم الغناء في ذلك الوقت نظرياً وتطبيقياً .
وفي هذا السياق أورد الشيخ منقولات وشواهد على ذلك تحدث فيها عن مجالس الغناء والطرب وعن تأثر العرب والمسلمين بالأمم المجاورة من حيث بدء انتشار شعر الغزل ثم المنادمات والجواري والمغنيات وبيعهن والتكسب بهن ، وما يحدث في المجالس من محرمات ولهو ، حتى عد فنا من الفنون وضعت فيه الألحان والطرق .
ويسأل الشيخ بعدها :
ما حقيقة الغناء ؟
فيجيب إلى أن النصوص الشرعية لم توضح مفهوم الغناء بما يكشف عن حقيقته ويحدد ماهيته ، بسبب أن الغناء ظاهرة اجتماعية تتطور وتتسع وتتغير بحسب الزمان والمكان والعرف والذوق .
فالغناء ليس عند العرب فقط ، إنما هو عند الأمم وعند أهل اللغات كلها .
ولقد توصل الفقهاء إلى حقيقته ومعناه عبر الوصول إلى القدر الجامع لمعناه .
فلم يجد الفقهاء إلى التعريفات اللغوية لتحديد الفهم .
ثالثاً : التعريفات اللغوية والفقهية .
استعرض الشيخ تعريفات لغوية كثيرة متتالية ومتدرجة ، بدءاً من أبي علي القالي ت356هـ ، حتى البستاني 1301هـ والمعاجم الحديثة الفنية .
وهذا الاستعراض يعد جهداً رائعاً حيث يتتبع عبر التعريفات الإضافات التي لحقت بمفهوم الغناء لغوياً واجتماعياً وأحياناً فنياً من مصادر فنية علمية .
ولن نأتي بهذه التعريفات كيلا يطول بنا الملخص ، لكن سنكتفي بإيراد خلاصته .
الغناء لغوياً ( الترنم ، رفع الصوت وموالاته ، ما طرب له ، إخراج الصوت بألحان وأنغام ، ...... )
وسنعرض تعاريف لغوية لشموليتها وأهميتها :
في المعجم الوسيط : التطريب والترنم بالكلام الموزون وغيره ، يكون مصحوباً بالموسيقى وغير مصحوب .
في معجم الهادي إلى لغة العرب للكرمي : إخراج الصوت بأنغام وألحان مضبوطة بقصد البسط والارتياح ، وهو مثل الطرب ، إلا أن الطرب يكون فيه غناء وآلات ، أو يكون فيه آلات فقط .
وفي الموسوعة الموسيقية لمحمد بوذينة :
الغناء : صناعة في أداء الألحان المقرونة بالأقاويل الدالة على المعاني ، وهيئتها إما صياغة اللحن ، أو أداء اللحن .
وفي موسوعة المورد للبعلبكي :
الغناء : الشدو بكلمات منظومة تؤدى وفقاً للحن معين ، وبمصاحبة الموسيقى في الأعم الأغلب .
إن صناعة الغناء عند الأمم تختلف باختلاف عنصرين :
1ـ عنصر اللغة وأسلوبها اللفظي وصلاحيتها للتلحين الموزون بالإيقاع ، أو التلحين المطلق المسرود .
2ـ ترتيب النغم الأساسية في مقامات الألحان .
والغناء الشرقي أكثر تمسكاً في التلحين بدقائق الأصوات ، والأجناس الموزونة بالإيقاع .
ثم يستخلص الشيخ بعد عرض التعاريف اللغوية والفنية .
1ـ أن التغني والترنم والترديد والترجيع والشدو والتنغيم والتلحين ومد الصوت ورفعه وموالاته ، كلها مصطلحات فنية تعطي معنى واحداً ، هو ( التطريب ) .
2ـ التطريب : طريقة أداء الأغنية وفق ما وضع بها من لحن .
3ـ الغناء : الصوت المسموع الملحن المطرب به حين الأداء .
عناصر الغناء =
النظم ( الشعر) + اللحن ( الصوت الإيقاعي المنظم) + التطريب ( أداء اللحن )
ويستدرك الشيخ :
ولكن تعريفات اللغويين انصبت على الأداء الصوتي المسموع الملحن ، لأن النظم وحده لا يقال عنه غناء ، وكذلك اللحن وحده [ موسيقياً دون تطبيق الكلام عليه والأداء المطرب ] لا يقال عنه غناء ، ومثلهما النظم الملحن ، إذا لم يؤد بالصوت المسموع المطرب به ، لا ينطبق عليه الغناء ,
فالغناء لغوياً هو الصوت المسموع الملحن المغنى به وفق اللحن ، وهو التعريف اللغوي المشهور .
ولقد أضاف ابن القوطية عنصر الإطراب ، وأضاف أبي البقاء اللهو واللعب .
والنتيجة الأخيرة :
1ـ الغناء هو التطريب بالصوت المسموع الملحن .
2ـ الغناء هو التطريب بالصوت المسموع الملحن المطرب للسامعين .
3ـ الغناء هو التطريب بالصوت المسموع الملحن المطرب للسامعين وفي مجلس لهو .
أما التعريفات الفقهية :
ابتداء من المولي النراقي ، حيث عرف الغناء كالتالي :
1) الصوت المطرب .
2) الصوت المشتمل على الترجيع .
3) الصوت المشتمل على الترجيع والإطراب معاً .
4) رفع الصوت مع الترجيع .
5) تحسين الصوت .
6) الصوت الموزون والمفهم والمحرك للقلب .
واعتبر النراقي رقم (3) هو أصدق تعريف . فتعريف الغناء لدى النراقي :
الصوت المسموع المطرب به وما يصدق عرفاً بأنه غناء .
ثم بدأ الشيخ يسرد تعاريف لفقهاء ، وسنتخار منها ، التعريفات التالية :
تعريف روح الله الخميني :
الغناء حرام فعله وسماعه والتكسب به ، وليس هو مجرد تحسين الصوت ، بل هو مده وترجيعه بكيفية خاصة مطربة ، تناسب مجالس اللهو ومحافل الطرب ، وآلات اللهو والملاهي .
تعريف الخوئي :
الغناء حرام إذا وقع على وجه اللهو والباطل ، بمعنى أن تكون الكيفية كيفية لهوية ، والعبرة في ذلك بالصدق العرفي .
تعريف السيستاني :
الغناء حرام فعله واستماعه والتكسب به ، والظاهر أنه الكلام اللهوي شعراً كان أو نثراً ، الذي يؤتى به بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب ، وفي مقومية الترجيع والمد له إشكال والعبرة بالصدق العرفي .
والنتيجة ، أن الغناء هو :
1ـ ما يصدق عليه عند أبناء العرف العام (المجتمع) أنه غناء .
2ـ ما يصدق عليه عند أهل العرف الخاص ( أهل الفن ) أنه غناء .
3ـ ما يقوم به أهل الفن في مجالس اللهو من غناء .
4ـ ما يتغنى بالكيفية اللهوية المتعارفة عند أهل الفن .
5ـ ما اشتمل على التطريب والإطراب مطلقاً سواء في حفل غنائي أو دونه .
إذن الغناء =
الكلام + اللحن + الأداء + الإطراب
رابعاً : حكم الغناء .
اتفقت فقهاء الإمامية على حرمة الغناء ، لكن اختلفوا فيه ، فهل الحرمة ذاتية أو عرضية [ أي بسبب خارج عن ذات الغناء ] ؟
فلقد ذهب الجمهور بالحرمة الذاتية على شهرة تقارب الإجماع .
أما القول بالحرمة العرضية فذهب له علماؤنا المتأخرين ، واختلف هذا الفريق كذلك بالحرمة العرضية :
1ـ بسبب أداء الأغاني في البيوت المعدة لذلك ( مجالس اللهو والطرب ولما يحدث من محرمات شرعية أساساً ) .
2ـ أداء الأغاني على وجه اللهو المحرم .
ثم تناول الشيخ الآيات التي استنتج الفقهاء والمفسرون منها حرمة الغناء ، وانطباق مفهوم (قول الزور ) و ( لهو الحديث ) على الغناء ، من عدمه .
بعد ذلك عرض إلى مستثنيات الغناء ، وهي :
الحداء للإبل ، والغناء في الأعراس بشروطه ، وقراءة القرآن والمراثي الحسينية .
وهذه العناصر بإمكان المكلف الرجوع فيها لمرجعه ، لكن أشار الشيخ إلى نقطة مهمة ، وهي :
لماذا استثني القرآن والمراثي ...
وأشار إلى قضية اختلاف الأداء هنا وفق الغاية الموضوعة له ، ووفق طبيعة اللحن المؤدى .
فما يختلف أمر قراءة القرآن والمراثي الحسينية هو الأداء ، وإلا فالمغني وقارىء القرآن والمراثي يستعمل نفس ( المقامات : أسس الألحان ) ، لكن طريقة الأداء وطبيعة الكلام والغاية تختلف هنا .
انتهينا من عرض الكتاب ، أرجو أن وفقت في عرض ما أريد ، هذا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
وتقبلوا تحيات : ابن المقرب