عرض مشاركة واحدة
قديم 19-10-2008, 07:55 PM   رقم المشاركة : 20
إشراقة أمل
مشرفة داري يؤثثها اختياري وMobily وشاشة عرض
 
الصورة الرمزية إشراقة أمل
 






افتراضي رد: .:][ ألم ذلك الحسين ][:.


13
الشمس ما زالت مسمّرة في زرقة السماء تصبّ لهيباً يشوي الوجوه ... وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة .. تتخطف رجالاً لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ... .
تقدم ((جون)) .. دفعته الأيام من أصقاع بعيدة ، وكان فتى لأبي ذر الغفاري ..
قال الحسين :
-يا جون إنما تبعتنا طلباً للعافية ، فأنت في إذن مني .
أجاب جون بضراعة :
-أنا في الرخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم .. لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم .
واندفع جون يقاتل القبائل .. والأرض تهتزّ تحت قدميه بشدّة .. كطبول أفريقية .
وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش أسطوري .
تمتم الحسين ، وهو يتأمل جراحه النازفة :
-اللهم احشره مع محمد وعرّف بينه وبين آل محمد .
وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي ، وكان شيخاً كبيراً صحابياً ، رأى النبي وسمع حديثه ، وشهد معه بدراً ، وحنيناً ، ومعارك دامية أخرى .
الشيخ الذي حنت ظهره الأيام .. ووقفت عاجزة أمام إرادته .. نزع عمامته ، وشدّ ظهره المقوّس بها ، ورفع حاجبيه بالعصابة .
كان الحسين يراقبه ، وعيناه تنهمران دموعاً .. ثم أجهش بالبكاء ..
-شكر الله لك يا شيخ !
تقدم الصحابي بخطى واهنة ، وعزم كالحديد أو أشد بأساً .. وتداعت أمامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشركين كافّة .. وها هو اليوم يقاتل أبناءهم وأحفادهم ... ودوّت في أذنيه كلمات الرسول في المعارك : يا منصور أمت ...
ووجدت القبائل فيه ثأراً قديماً من ثارات بدر وحنين .. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب . وعندما هوى الصحابي الكبير إلى الأرض ، ولامس وجهه الرمال ، شعر بأنه يقبّل وجه النبي .
الصحراء تئنّ من وقع سنابك الخيل ، والرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد ، والقبائل تنتشي بثارات قديمة .. قديمة جداً .
الفرات يجري .. تتدافع أمواجه ، فبدا غير مكترث لما يدور على شواطئه .. بل لعلّه كان يسرع ممعناً في الفرار .. لا يريد أن يشهد الأهوال .. أو ربّما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين .
لم يبق مع الحسين من أصحابه أحد .. ودّعوه وذهبوا بعيداً ..
لم يبق مع الحسين سوى أهل بيته ... فتقدم علي الأكبر .. إعصار يختزن غضب الأنبياء .. الأب يودّع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة .
كانت دموع الحسين تنهمر . وبصوت ، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر ، هتف :
-قطع الله رحمك يابن سعد كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله .. وسلّط عليك من يذبحك على فراشك .
الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح .. والحسين يرفع وجهه .. يحدّق في السماء :
-اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمد خلْقاً وخُلُقاً ومنطِقا ، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه ، اللهم فامنعهم بركات الأرض .
العلوي يخترق أحراش الرماح .. وبين الفينة والأخرى يلوح بريق سيف غاضب كوميض الصواعق بين سحب مشحونة .. مخزونة بالرعود .
هزّ (( مرّة بن منقذ )) رمحه ، وقد عصفت في نفسه الحمية .. حمية الجاهلية :
-عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه .
واخترق رمح وحشي طيفاً نبوياً . فاعتنق فرسه . فانطلقت وسط أحراش السيوف وغابات الرماح .. وتختطفه القبائل المتوحشة .. وانبثقت كلمات ((الأكبر)) كنافورة حبّ أزليّة :
-عليك مني السلام أبا عبد الله ، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول إن لك كأساً مذخورة .
وعندما وصل الأب المفجوع ، كان الابن قد رحل بعيداً .. بعيداً جداً .. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة .
الجراح النبوية تنزف . ملأ كفّه من ينابيع الحياة ، ثم رمى بها إلى السماء .. الرذاذ الأحمر يصّعّد إلى الفضاء اللانهائي .. يتحول إلى نجوم تنبض أملاً ، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام .
-على الدنيا بعدك العفا ... ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول .
الراية ما تزال تخفق بعنف .. تعلن الثورة .. الرفض .. الإباء ..
الدماء تنزف .. تروي الرمال .. تنفخ فيها روحاً ، وتبثّها أسراراً لا يدركها أحد من العالمين .
-هل رأيتم القمر يمشي على الأرض
تمتم التاريخ متعجباً ، وهو يرى القاسم بن الحسن .. فتىً لم يبلغ الحلم بعد . يمشي الهوينى .. عليه قميص وإزار ، وفي رجليه نعلان ، في يمينه سيف .. يطوّح به يميناً وشمالاً .. يقاتل الذين غدروا .. إنهم لا إيمان لهم . انقطع شسع نعله اليسرى ، فانحنى يشدّه .. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوّامة ما لها من قرار .
شدّ عليه رجل يلهث ، فاستنكر آخر :
-ما تريد من هذا الغلام ؟! يكفيك هؤلاء الذين استوحشوه .
-لأشدّن عليه .
وارتطم سيف جبّار ، فانشقّ القمر :
-يا عماه !
وهبّ الحسين عاصفة مدمّرة .. إعصار فيه نار . وما أسرع أن هوى العم على قاتل ابن أخيه بسيف مشحون غضباً . وصرخ القاتل لهول الضربة . وأرادت الخيل أن تدفع عنه الموت ، فداسته بحوافرها .. وضاع بين سنابك الخيل . وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه .
وقف الحسين عند الفتى الشهيد :
-بعداً لقوم قتلوك . خصمهم يوم القيامة جدّك . عزَّ – والله – على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثم لا ينفعك .
الموت يتخطف القافلة .. والمسافرون يعرجون إلى السماء .. أرواحاً شفافة خلعت أهابها الأراضي ورحلت إلى عالم معمور بالنور .
لم يبق مع الحسين سوى حامل الراية ، رجل يدعى أبو الفضل ، أبوه أبو الحسن ، وأمه امرأة ولدتها الفحولة من العرب .
الراية تخفق في شماله ، وفي يمينه بتّار يقصف الأعمار .
ثمة عيون تتطلع من وراء خيام .. تنظر إلى الراية .. تخفق كشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان .
القلوب التي صدّعها الظمأ تنشد الماء ، والفرات دونه غابات من الرماح ، وأبو الفضل يكاد يتفجر غضباً كلما سمع أنّة بنت أو صراخ صبي : العطش ... العطش ... ولا شيء سوى السراب ، سراب يحسبه الظمآن ماء .
تقدم صاحب الراية من أخيه الذي بقي وحيداً .. الحسين ينظر إلى آخر القرابين السماوية :
-يا أخي أنت صاحب لوائي .
قال أبو الفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ :
-قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثاري .
-إذا كان ولابدّ ، فاطلب لهؤلاء الأطفال ماء .
انطلق أبو الفضل إلى القبائل .. إلى قلوب قاسية أقسى من الحجارة .. وإن من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار .
-يا عمر بن سعد ! هذا الحسين ابن بنت رسول الله .. قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء .. قد أحرق الظمأ قلوبهم . وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلي لكم الحجاز والعراق .
صاح الأبرص بصوت يشبه رنّة الشيطان :
-يابن أبي تراب ! لو كان وجه الأرض كلّه ماء ، وهو تحت أيدينا ، لما سقيناكم منه قطرة .. إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد .
الأطفال يصيحون .. القلوب الظامئة تئنّ .. الشفاه الذابلة تهتف : العطش .. العطش . والفرات يجري .. تتدافع أمواجه .. كبطون الحيّات . اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد ...
حمل القربة ، وفي أذنيه كلمات قالها أبوه على شاطئ الفرات بصفين : روّوا السيوف من الدماء ، ترووا من الماء .
انطلق أبو الفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال .. رجال القبائل يفرّون بين يديه مذعورين .. كأنما يفرّون من الموت الزؤام ..
الفارس يشقّ طريقه غير مبالٍ بالألوف التي أحدقت به .. يتوغّل في أعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حوريّة .. أبو الفضل يقحم فرسه النهر ، فيتطاير رذاذ الماء . اهتزّت سعفات نخلة لكأنما طربت لشجاعة وبأس ستذكرهما الأيام .
المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام ، والفارس الظامئ يغترف من الماء غرفة .. فيتذكّر قلباً يكاد يتفطّر عطشاً ، تمتم وهو يطوّح بقبضة الماء بعيداً
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعـده لا كنت أن تكـوني

ملأ القربة ماءً ، ثم قفز فوق جواده ، وانطلق نحو مضارب الخيام ...
القبائل تقطع عليه طريق العودة ، وقد غاظها منظر القربة تموج بمياه الفرات .
الفارس يسطر الملاحم وينشد :
لا أرهب الموت إذا الموت زقـا
حتى أوارى في المصاليـت لقـى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا
إني أنا العباس أغـدو بالسقـا
ولا أخاف الشرّ يوم الملـتقـى

رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة .. في يده سيف ورثه عن ((ابن ملجم)) .
السيف الغادر يهوي – على حين غفلة – فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء :
والله إن قطعتـم يميـني
إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبي الطاهر الأمين

أبو الفضل يشقّ طريقه . أصبح هدفه إيصال الماء إلى قلوب تتصدّع عطشاً وتحلم بمواسم المطر .
سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة ، فيطيح بالشمال . سقطت الراية ومن قبلها سيف علوي .. وأبو الفضل يشقّ طريقه في وابل السهام والنبال . وعندما اخترق القربة سهم وانثالت المياه ، فقد الفارس المقطوع اليدين حماسه في العودة إلى المخيم ، ودارت به القبائل كدوّامة مجنونة ، وهوى الرجل – وما هو برجل – بعمود على رأسه ففلق هامته ، وانطلق صوت يبشر بالسلام القادم .
-عليك مني السلام أبا عبد الله .
وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة..صاحت زينب ومعها نسوة وبنات :
-واضيعتنا بعدك .
فتمتم الحسين وهو ينشج :
-واضيعتنا بعدك !

 

 

 توقيع إشراقة أمل :
"وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد".
إشراقة أمل غير متصل   رد مع اقتباس