عرض مشاركة واحدة
قديم 12-10-2008, 10:14 PM   رقم المشاركة : 7
إشراقة أمل
مشرفة داري يؤثثها اختياري وMobily وشاشة عرض
 
الصورة الرمزية إشراقة أمل
 






افتراضي رد: .:][ ألم ذلك الحسين ][:.


2
ما لها المدينة خائفة هكذا ، بيوتها ترتجف ، وجدرانها تهتز رعباً ؟ .. أين مجد الكوفة الضائع ؟ .. أين هيبتها القديمة ؟ .. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة ؟!
تساءل الرجل الغريب – الذي كانت تحفه الألوف قبل ليلة .. أما الآن فهو يجوس أزقة المدينة خائفاً يترقب .. ليس معه من يدلّه على الطريق ... .
هل تراه أخفق في مهمته .. إنه سفير الحسين إلى الكوفة عاصمة المجد الغابر . أين الرجال الذين بايعوه على الثورة ؟ .. أين كل تلك السيوف والدروع ، وتلك الكلمات التي تشبه بوارق الفضاء ودويّ الرعود ؟!
كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً إلى فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور .. منقوبة في الأرض ؟.
فكّر أن ينادي بأعلى صوته : (( يا منصور أمت )) ، شعار الثورة .. ذكريات بدر .. علّهم يلتفّون حوله من جديد .. علّهم يهّبون لحصار قصر الظلم مرة أخرى . ولكن من تركوه في وضح النهار ، كيف يعودون إليه في قلب الظلام . الذين فرّوا في ضوء الشمس ، هل يعودون في غمرة الليل ؟
كان مسلم بن عقيل يسير .. ينقل خطىً واهنة . تداعت أمامه كل الصور المثيرة ، وهو يعبر الصحراء مع دليليه .. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء .. ولا حياة .. ولا شيء ، سوى الذرات الملتهبة .. الظمأ .. التيه .. .
مات الدليلان عطشاً ، أما هو فبقي يواصل سيره وحيداً . أراد أن يعود من حيث أتى .. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتى النهاية . إنه سفيره إلى الكوفة .. الكوفة التي تريد استرداد مجدها الضائع .. الكوفة التي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرة أخرى .. تنشد عدله .. رحمته .. رفقه بالفقراء والمساكين .. تريد أن تطرب على بلاغته من جديد .. تريد للمنبر المهجور أن يتدفق علماً وفصاحة .
تلك أحلام الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذعراً .
الأحلام الوردية تحتاج سواعد بقوة الحديد أو أشدّ بأساً .
((السفير)) أعياه التعب .. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء .. يحس مرارة الهزيمة .. أمام جيش وهمي ، حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير أمام شائعة كاذبة ! .. أمام جيش سوف يصل من الشام .. جيش وهمي .. صنعه الخيال المريض .. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة من القط .. من اسمه فقط .
جلس الغريب عند باب عتيقة ، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء .. يجوب الأودية .
فتحت ((طوعة)) – المرأة العجوز الني كانت تنتظر عودة ابنها ، والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة .
-هل لي في جرعة من الماء ؟.
وما أسرع أن عادت المرأة تحمل إليه الماء .. فراح يعبّ منه ، ثم سكب الباقي على صدره . أراد أن يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه .
قالت العجوز مستنكرة جلوسه :
-ألم تشرب يا عبد الله ؟! .. قم فانصرف إلى أهلك .
اعتصم بالصمت .. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسبر غوره أحد .
-قم عافاك الله .. فإنه لا يجدر بك الجلوس على بابي .
-وماذا أفعل .. لقد ضللت الطريق .. وليس هناك من يدلّني .
قالت المرأة متوجسة :
-من تكون يا عبد الله ؟!
-أنا مسلم بن عقيل .
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة :
-أنت مسلم ؟! .. انهض إذن انهض .
-إلى أين يا أمة الله .
-إلى بيتي ..
وانفتح باب في الأفق المظلم .. كوّة تفضي إلى النور .. لحظة من أمل .. قطرة ماء في لهب الصحراء .
واحتضن بيت كوفي (( مسلم بن عقيل )) – الرجل الشريد . أما بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب إلى حوافر الخيل وهي تدكّ الأرض بحثاً عن رجل غريب .
3
القافلة تطوي في طريقها إلى أم القرى .. قافلة عجيبة . لم تكن قافلة تجارية ، ولم تبدُ – كذلك – قافلة للحجاج .. ففيها أطفال كثيرون .. أطفال يشبهون ورود الربيع .. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر ، وفي حنايا صدره تنطوي الصحارى . إلى جانبه وجه يشبه البدر .. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد .. يدعى ((أبو الفضل)) أو قمر بني هاشم .. دائم النظر إلى أخيه يتأمله بخشوع .. يخاطبه : يا سيّدي .
ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً .. إنه علي .. علي الأكبر . وفي القافلة هوادج كثيرة .. كثيرة جداً .. وأطفال ... .
القافلة تسير ، والتاريخ يحبس أنفاسه ، وكلمات تتردد بخشوع ، فتمتزج مع تمتمات النوق .
-ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل .
-الطريق محفوفة بالأخطار ، فلو تنكبت الطريق .
قدر عجيب يسيّر القافلة .. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الإنساني .
الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان . الأهداف العظيمة .. الروح السامية في جلال الملكوت . كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في أعماق الأرض .. هل يكون الموت هدفاً .. كيف تخرج الحياة من رحم الموت ؟. وإذا كان الموت هو النهاية لكل كائن ، فلم لا نختار الطريقة التي سنموت بها ؟ هل يكون الموت جميلاً أحياناً ، لكي يقول الحسين : خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف .
-ولكن إذا كان هدفك الموت ، فلم تأخذ معك الأطفال والنساء ؟ وإذا كانت الآفاق مظلمة ، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء ؟ ... .
-شاء الله أن يراهن سبايا .. شاء الله أن يراني قتيلاً .. سوف أموت عطشاً .. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطوت الحيّات .
-ماذا يريد الحسين ؟.
-يريد أن يموت ظامئاً .
-لماذا ؟!
-إنها مشيئة الله !
-مشيئة الأمة .. .
القافلة تقترب من مكة .. أم القرى واد غير ذي زرع .. أول بيت وضع للناس .. مهبط جبريل فوق جبل النور .. غار حراء ، حيث التقت السماء بالأرض .. طفولة محمّد .. شبابه .. آخر النبوات في التاريخ .. .
المساء ينشر ظلاله الخفيفة .. وأنوار واهنة تحاول أن تتلألأ كالنجوم .. أضواء مدينة حائرة هزّتها أنباء قادمة من دمشق . لقد هلك هرقل وجلس مكانه هرقل آخر .
شعبان يطوي ثلاثة من أيامه .. القافلة تدخل مكة ، وتلقي عصا الترحال عند البيت العتيق . الحسين يحنّ إلى زيارة قبر جدته خديجة الكبرى .. يذكر تضحياتها من أجل محمّد .. وهو يريد أن يواصل ذات الدرب .. يريد إعادة نهج النبي العظيم .
-ماذا تريد يا سيدي الحسين .. ألا تبقى هنا في حرم الله ؟.
-إنهم لن يدعوني أعيش بسلام .. إنهم يريدون الفتك بي ، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة .. إنهم يطلبون مني شيئاً عظيماً .. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال ؟ هيهات .. هيهات .
-ولِمَ العراق ؟ .. أليس هناك مكان آخر ؟ العراق الذي قتل أباك واغتال أخاك ، وسلّم المنبر لمعاوية ! .. .
-ولِمَ الذهاب الآن .. ألا تمكث قليلاً .
-إن لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً ، إن لم أذهب غداً ذهبت بعد غد ، وما من الموت والله بُدّ .. وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه .
تنبعث من الأرض أسئلة .. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشى أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء أستار الغيب .
ينظرون فلا يرون سوى بيارق أمويّة .. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة .. أما هو فيرى ينابيع تتدفق .. أنهاراً وسواقي .. إنه يرى ما وراء الآفاق .. يرى المستقبل القادم من رحم الأيام .
عجيب أمر هذا الرجل .. يحاول أن يلوي القدر .. أن يقهر كل شياطين الأرض .. أن يهزم نظاماً مدجّجاً بالسلاح .. كيف ؟!
بقافلة صغيرة .. سبعين أو يزيدون .. أطفال ونساء .. وتصغي الصحارى لكلمات متمرّدة ثائرة .. كلمات تختصر النبوّات .. تبدأ ببسم الله .. مجراها ومسراها .. .
-هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنفية .
إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .. جاء بالحق من عنده .
وأن الجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها . وأن الله يبعث من في القبور .
وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي .
أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي ، وأبي علي بن أبي طالب .
فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين .. .
انطلقت الثورة وصدر بيانها الأول . أسلحتها الصبر والمقاومة والموت .
الموت سلاح .. بل حياة .. حياة .. كيف ؟
-أجل .. إن من يموت كريماً سيحيا .. سيحيا إلى الأبد .. هكذا علّمني أبي قال على شاطئ الفرات بصفين :
الموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين .

 

 

 توقيع إشراقة أمل :
"وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد".
إشراقة أمل غير متصل   رد مع اقتباس