حيا الله جميع الأخوة
نتابع معكم عرض مابدأنا
..................
الرؤية السياسيّة الثاقبة
والإمام كما بقية المراجع يتفاوتون في رؤية واقع البلاد. فمنهم من يقدر ضرورة تأسيس الحزب الإسلامي لإحداث التغيير والتحول وإقامة النظام الإسلامي كمرجعية السيد الشهيد الصدر ومنهم من يرى في صلاة الجمعة منبراً لإقامة مشروع الأمة الواحدة القادرة على اقتلاع جذور الطاغوت كمرجعية السيد الشهيد الصدر الثاني.
هذا لا يعني أن تلك الخيارات لم تفعل فعلها الاستراتيجي المؤثر في حركة الأمة ولم تنعكس في علاقة الأمة بالإسلام وحركته ومشروع تطوره وسطوته الروحية الغالبة في أوساط الشعب العراقي.
لكن المرحلة الحالية التي يمر بها الإسلام في العراق والمنطقة العربية والإسلامية والتطورات السياسية الاستثنائية في البلاد تفرض على الإمام السيستاني أن يبتدع نمطاً جديداً من التعامل ينفتح فيه على الأمة ومصلحتها وقواها السياسية وأهدافها الإنسانية الطبيعية ويلحظ في ذلك كل المؤثرات والقوى ومراكز النفوذ وتفاوت الرغبات والبرامج والرؤى والأحزاب والمناطق والمرجعيات والفعاليات من دون أن يؤثر هذا كله على الهدف الأسمى المتمثل بإنجاز وعد الاستقلال وعودة العراق العربي ـ المسلم إلى دائرته الإسلامية مركزاً للحضارة والدين والعقلانية والثقافة.
ومن هنا تميزت فتاوى الإمام السيستاني بلغتها المعتدلة الحريصة على الأرواح والوجود والأعراض والكرامة في محاولة لتهذيب النفوس واستشراف الأفق وإعادة الأمور إلى نصابها، على أن الإمام يمارس في إصداره الفتاوى المتعلقة بتصريف الشؤون العامة في البلاد ومسائل التعاطي مع الميليشيات والسلاح وقضايا الإدارة باعتباره الحاكم الأكثر نفوذاً في أوساط مقلديه من أبناء الشعب العراقي وهم بالملايين في المدن والمحافظات العراقية.
ولذلك يبادر الإمام دائماً إلى توجيه تسديداته الأبوية بضرورة ترك مشاجب العنف وتسليم السلاح للشرطة العراقية في محاولة لإعطاء هذا الجهاز وكافة أجهزة الحكومة العراقية الحالية ـ وهي حكومة تحت الاحتلال ـ صفة الشرعية والاعتراف بها حكومة تمثل العراقيين وبالتالي الإيحاء للاحتلال وللشعب العراقي معاً أن التعامل مع تلك الحكومة هو اعتراف بعراقيتها أولاً ولأنها الخطوة الأولى في إطار ترتيبات وضع الخطط النهائية لتسليم السيادة والسلطة معاً إلى العراقيين.
ولو كان لويزار في إطار هذا الفهم الموضوعي لسياق إصدار الإمام المرجع للفتاوى السياسية لما قسم المرجعيات الدينية إلى مرجعيات طمأنينيّة وأخرى ذات أهداف وخطط سياسية وتتجاوز العمل بمنطق الاحتياط الفقهي. مع شكي القائم للآن بان لويزار يخفي (لؤماً) حين يعتبر أن قرار الإمام بتسليم الأسلحة إلى القوى الأمنية الرسمية بعيد جداً عن المواجهة المسلحة لقوات الاحتلال الأجنبي في إشارة إلى دفع أو ضرورة دفع الاتجاه القائم للفتوى إلى استخدام السلاح وعدم تسليمه إلى القوى الأمنية لإشعالها حرب استفزاز بالفتوى والأسلحة لإعادة إنتاج خريطة سياسية لا وجود (فرنسياً) للمرجعية الدينية فيها ومفسحة في المجال أمام القوى المتطرفة لكي ترسم بالعنف والسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة مستقبل العراق اللامستقر لكي يتحول البلد ساحة مفتوحة تواجه فرنسا وكل الدول الغاضبة على الاحتلال القوات الأمريكية والسياسة الأمريكية فيه!!.
يقول لويزار:
(والسيستاني بحكم اضطراره للتوفيق بين الطمأنينة والشان السياسي ليس وحده المسؤول عن هذا الالتباس، بل هناك أيضاً وضع الشيعة العراقيين في شكل عام. فمنذ الانتفاضة عام 1991 يترقب الشيعة من ينقذهم من النظام، ثم جاء الاحتلال الأمريكي ليضعهم ويضع السيستاني أمام معادلة صعبة، تقضي بعدم الظهور في مظهر من لا يعارض الاحتلال العسكري للعراق، وفي الوقت نفسه عدم إبداء أي اعتراض على سقوط النظام وهذه الذهنية أدت إلى مواقف غريبة منها مثلاً أن بعض رجال الدين الذين كانوا منفيين إلى إيران عادوا إلى العراق ليضعوا أنفسهم في خدمة سلطات الاحتلال الأمريكي).
ومن أجل إجمال الملاحظات، ولأننا تحدثنا عن إشكالية علاقة المرجعيات الدينية المباركة بحدث الانتفاضة الوطنية ـ الإسلامية التي جرت سنة 1991 ضد النظام القمعي السابق. لذا لابد من تركيز الإجابة بالنقاط التالية بالنظر لدخول عناصر جديدة في إطار (إثارات) لويزار (الثأرية) من شيعة العراق.
1ـ ما تحدث به لويزار بالقول أن علماء شيعة عراقيين منفيين في إيران عادوا إلى العراق ويتعاملون مع قوات الاحتلال كلام مردود وبحاجة إلى أدلة وأسماء والفرنسيون يعرفون قبل غيرهم أهمية التدقيق بالأسماء والمعلومات في الحديث عن أي إشارة أو قضية في هذا الإطار خصوصاً إذا كانت من الوزن الثقيل وتعني طرفاً أساسياً في المعادلة الاجتماعية والسياسية في العراق وأقصد بذلك شيعة العراق. وإذا كان لويزار يملك مثل هذه المعلومات لما وفرها لكنه أراد أن يثير الغبار ضد الموقف الشيعي ـ الطرف الأكثر حظوة في إطار الحملة الأميركية على النظام الفاشي من حيث لا يشعر الأميركيون وا لفرنسيون بذلك ـ وهو موقف تميز على الدوام بمناهضة السياسات الشوفينية في بغداد. وهي سياسات وجدت بل كانت تجد كل الدعم والمساندة والصمت من قبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة على الرغم من كلام فرنسا عن حقوق الإنسان ولوائح قيمها وأحاديثها عن الديمقراطية والتباهي بثورتها التي كانت كما تقول السياسات والقيم الفرنسية من أجل الإنسان في كل مكان. إنها لكل الناس إلا ناس العراق؟!
إن العلماء العراقيين الذين عادوا من إيران عملوا في كل المجالات الخاصة بخدمة الشعب العراقي حتى وصل الأمر بهم أنهم يعملون اليوم في تنظيف الشوارع والساحات ومجاري الصرف الصحي ـ الأمر الذي يعجز عن القيام به لويزار وكل قادة الحكومة الفرنسية اليوم!!. وإذا كان هناك نخبة دينية تتعامل بحذر مع القوات الأميركية والوجود الأميركي في العراق فهم شيعة العراق العلماء. ولعل لويزار يدرك اليوم ما تتعرض له النجف الأشرف كقيمة ومركز معرفة وتجمع سكاني من حصار وطوق عسكري أميركي من خارجها وتهديد بتدميرها واعتقالات بالجملة للعديد من العلماء ووكلاء المرجعيات الدينية في كافة مدن العراق. كل ذلك يجري تحت مرأى ومسمع الفرنسيين ولم يسمع الشعب الفرنسي من حكومته أو مراكز الأبحاث الاستراتيجية في باريس كلمة استنكار أو شجب أو إدانة لما تقوم به القوات الأميركية ضدهم.
إنها فرية لويزار التي من المؤكد أنها لن تنطلي على أحد!!.
2ـ الإمام السيستاني يعارض الاحتلال الأميركي للعراق جملة وتفصيلاً لكنه لا يعارض على الطريقة الفرنسية أو على طريقة السيد لويزار، ثم كيف يرى لويزار ـ شكل المعارضة هذه في حركة الإمام ومواقفه السياسية وملاحظاته حول مختلف المسائل الجارية والتطورات الدستورية وتشكيل السلطة ونقل السيادة والانتخابات والإصرار عليها والمظاهرات المليونية التي اجتاحت العراق من أقصاه إلى أقصاه تلبية لنداء الإمام بضرورة إجراء الانتخابات لاختيار الحكومة والقيادة السياسية الرسمية في البلاد؟ أليس هذا تدخلاً حقيقياً ومباشراً في الشؤون السياسية؟. أليس ذلك يعكس النمط السياسي غير التق ليدي في إدارة العراق في ظل وجود سلطة احتلال؟ ثم كيف يكون موقف الإمام ملتبساً بين الطمأنينة والعمل المباشر غير المؤمن بالاحتياط والإمام حاضر في كل القضايا فاعلاً ومنبهاً ومرشداً وقيادة تحرك الجمهور وتدفعه لأخذ دوره الأساس في عملية صناعة المستقبل السياسي في البلاد؟.
3 ـ إن الإمام السيستاني لا يعارض وجود القوات الأميركية الأجنبية في العراق وحسب ولا يدعو إلى جلاء هذه القوات من أرض العراق ويكتفي بحدود ذلك بل يذهب إلى أبعد من ذلك إلى تأكيد ضرورة أن يكون هناك دور أممي في المسألة العراقية في محاولة لإشراك كافة الجهود السياسية الدولية لمساعدة الشعب العراقي ودعم خياراته الوطنية في اختيار نمط الحكم الديمقراطي الذي يريده لذلك نرى أن الإمام يطالب بضرورة أن يكون دور للأمم المتحدة في العراق وأن تجري الانتخابات وأن يكون للعراقي رأي وتصور ومشاركة حقيقية في اختيار النظام القادم وكما يعرف الجميع أن الإمام يصر ولا يزال على إجراء الانتخابات لكنه يأخذ بوجهات نظر الأكاديميين في إمكانية إجرائها من دون إسقاط المبدأ بالتقادم والتطورات المتسارعة في العراق ويعلم الجميع أن الإمام لديه ملاحظات واعتراضات كبيرة على قانون إدارة الدولة العراقية. ما يمكن أن نقوله في هذا الصدد. أن السكوت على ممارسات قوات الاحتلال شيء والدخول في مواجهات غير متكافئة ولا محسوبة فضلاً عن كون المرجعية الدينية لم تكن طرفاً فيها منذ البداية شيء آخر.
الإمام شخصية داخلة بقوة وبشكل مباشر في كافة تفاصيل الشؤون السياسية في البلاد. لكنه حين دخلت القوات الأميركية اشتغل بمنطق صيانة الدم العراقي وعدم إدخال العراقيين في دوامات التصعيد إذ يكفيهم ما عانوا من حروب وإبادات وفضل استخدام الآليات والأساليب والأدوات التي فيها الكثير من الحكمة والمثاليات العقدّية والاتزان العقلي والسياسي عن الآليات والأدوات العنفية. على أن منطق الإمام السيستاني اليوم في كافة شؤون تصريف وإدارة أحوال الأمة هو الراجح على غيره من الأساليب.
إن الإمام ينطلق في الفتوى وإبداء النصح وتعيين المواقف من قراءة واقعية للوقائع والأحداث والتحولات ولا ينطلق من المزاج الشخصي ومنطق التيارات الحـزبية والعصبيات الطائفية والقراءات المحدودة.
4 ـ إن الرأي القائل بأنه كان على الإمام إصدار فتوى بمعارضة وجود القوات المحتلة بداية دخولها إلى العراق (رأي ساذج) فالإمام لم يكن طرفاً في الأزمة التي افتعلها صدام مع الأميركان ولم يكن على رأس السلطة بل كان كغيره من أبناء العراق تحت قهر وجبروت وضغط النظام القهري الدكتاتوري.
ما فعله الإمام ما كان يفترض أن يفعله كل فقيه ومسؤول وقائد في وطنه بعد أن تكالبت الدنيا لاجتثاث شأفة ووجود الإسلام والمسلمين في العراق وهو حماية الوجود والتعامل مع الوقائع والتخفيف من الاحتقان واستيعاب زخم الحرب والتعاطي بحكمة مع المحتل وإخراجه بأقل الخسائر.