حيا الله الأخوة المتابعين والمشاركين
يتبع الفصل الأول
...............
من حماية كيان العـلم إلى حماية الوَطَنْ
يعززّ وجود الإمام السيستاني في النجف الأشرف يوماً بعد يوم فرضية أصالة الوطن في أذهان المجتمع العراقي وكل الفرقاء السياسيين الذين باتوا يشكون بإمكانية أن تتحول الفوضى الأمنية والسياسية والتناكف الحزبي والفئوي والعرقي والقومي في البلاد إلى وطن بديل!!.
لقد أمضى الإمام قُرابة ستة عقود في العراق وعاصر أهم الحوادث التي وقعت سواء لمستوى ما كان يجري في الحوزة العلمية ومرجعياتها الدينية وشدة الصراع السياسي بين السلطة السابقة وتلك المرجعيات أو ما كان يحدث في رأس السلطة من وقائع وما مرَّ به العراق في ظل سطوة وسيطرة الفئة البائدة من مؤامرات وحروب إبادة وكبت للحريات واضطهادٍ غير مسبوق للأكثرية العربية في العراق.
كان الإمام يشهد كل تلك المواقف والمشاهد والتفاصيل ويعي تماماً حجم الأزمة القائمة آنذاك ويدرك أن حلها لن يأتي بالهين والسهل خصوصاً وأنه شهد في مراحل الثمانينات قمع سلطة صدام للحوزة العلمية في النجف وتصفيتها لأبرز رموزها وقياداتها البارزة وفي مقدمتهم المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر سنة 1980. لكن الإمام وكغيره من المرجعيات العقلانية والواقعية والمتنورة كان يسلك نهج المرجعيات الدينية التي سبقته في حماية المنجز الفقهي والمعرفي والعلمي الكبير للحوزات العلمية في النجف وكان يعتقد أنّ الدخول بصدام مع السلطة وهي سلطة مستنفرة ضد الإسلام ومرجعياته وقياداته الدينية سيطيح بهذا التراث الضخم من الجهود العظيمة التي حرص مراجعنا الكبار (دام ظلهم) على حفظها والتمسك بها وإيصالها إلى الأجيال العقائدية العلمائية على مر التاريخ، ما يعني أن تلك المهمة كانت بالن سبة للإمام مهمة رسولية ـ عقدية والتفريط فيها يعني التفريط بالإسلام وعقيدته وشريعته السماوية السمحاء.
هذا يعني أن الإمام السيستاني شهد العديد من تجارب العمل الإسلامي في العراق وكان يقرأ بدقة وقائع الحياة العراقية ويقدر جهود العلماء والمتصدين والقيادات الدينية التي كانت في النجف أو تلك التي وفدت إليها من الخارج خصوصاً دول الجوار العراقي. وفي هذا نلحظ أن اهتمام الإمام بالحوزة العلمية جاء منسجماً مع سياق الاهتمامات العلمية والدينية والقيادية التي سبقته وأكدت على ضرورة حماية كيان الحوزة العلمية بوصفها الجهاز والمؤسسة القادرة على حماية الدين وتأصيل الفكر الإسلامي والحفاظ على جوهر العلاقات الإسلامية وإثراء المدرسة الإمامية عبر الإفادة منها في ترشيد الحياة الاجتماعية ـ الإسلامية.
كان الإمام ينظر وما يزال للمرجعية الدينية من خلال مهمته ووظيفته الاجتماعية في حياة الشعب العراقي وشعوب الأمتين العربية والإسلامية ولم يمارس الإمام الفصل في وظائف الحوزة كمدرسة دينية تشرف على رعاية الفكر والتراث والتاريخ وتعليم الأحكام والعلوم الإسلامية ـ الشرعية وبين المرجعية الدينية كمؤسسة قيادية في المجتمع الإسلامي وظيفتها إيضاح مبادئ الإسلام ومواقفه وتجديد الفكر واستنباط الأحكام الشرعية وقيادة الأمة.
إن هذا التفاعل بين الموقعين أثرى المدرسة الشيعية الأمامية وطورها وقدمها للأمة بمختلف مذاهبها ومدارسها الفقهية والمعرفية ومنابع استنباطاتها باعتبارها مدرسة متطورة تجديدية قادرة على بناء المجتمعات الحية والنصوص المعرفية والأحكام الشرعية الديناميكية المتطلعة إلى أن تأخذ الأمة الإسلامية دورها الأساس في النظم والمجتمعات البشرية المحيطة.
هذا المعنى كان الإمام ولا زال يضعه في صلب اهتماماته وأولوياته في كل المسائل والقضايا التي ترتبط بالحوزة والمرجعية الدينية تارة أو ما يتعلق بالقضايا والمفاصل التاريخية المهمة في الأمة أو العلاقة الحقيقية والتاريخية التي تتحكم بإيقاع حركة الأمة والحوزة والأمة والمرجعية الدينية.
إن الإمام لا يتساهل أبداً في القضايا المتعلقة بالقيادة المتصدية للحوزة العلمية الشريفة أو موقع المرجعية الدينية ويقف الموقف المبدأي والتاريخي الذي تقفه كل المرجعيات الدينية المتطورة والمتنورة والكفوءة والزاهدة والقائدة.
وبهذا يحفظ الإمام السيستاني أهلية موقع المرجعية الدينية في الحياة الإسلامية بشكل عام والحياة العراقية بشكل خاص على أن الإمام لا يدافع عن نفسه أو شخصه حين يدافع عن موقع المرجعية الدينية وشروط بقائها وتطورها وديناميكيتها في المجتمع العراقي بل يدافع عن (الموقع) كي تبقى للمرجعية الدينية المكانة الرسولية ـ النبوية الشريفة باعتبار المرجعية هي الامتداد الطبيعي والتمثيل الحقيقي لخط أهل البيت (ع) في حياة أبناء الأمة الإسلامية. وبالتالي فإن حماية الموقع من الزلل ومواطن الضعف ولحظات الضرورة التاريخية القصوى التي تفترض التصدي الحقيقي من المرجع هي من الواجبات التي تلقى على عاتق المرجع المتصدي لشؤون الإفتاء والقيادة.
إن الإمام السيستاني يدرك أيضاً أن المرجعية الدينية في زمن غيبة الإمام المعصوم (ع) تعني إدارة شؤون الناس وتصريف أمورهم ورعاية الأمة والاهتمام بالقضايا الحسبية وما يتعلق بحفظ النظام العام وأجراء الأحكام. وهذا يعني بصراحة مطلقة أن الإمام يشعر بتكليف حقيقي إزاء المسائل الكبرى في حياة العراقيين خاصة وإلا لو كان الإمام في وارد أجراء أخر لكان اختط لنفسه سياقاً سلوكياً آخر غير ما نراه اليوم من قيامه (دام ظله) بإدارة الشؤون السياسية الكبرى في البلاد وإصداره عشرات الفتاوى المتعلقة بالقانون الانتخابي وكتابة الدستور غير الافتاءات العديدة التي وردت بشأن مختلف القضايا خصوصاً تلك التي لها علاقة بالعناصر التي نتجت بعد انهيار السلطة الفاسدة السابقة وما تلاها من اشكالات وأزمات وارتباكات اجتماعية وأمنية وتصدعات نفس ية وقانونية متوقعة.
ويتعامل الإمام (دام ظله) مع المسائل الاجتماعية والأمنية والسياسيّة الجارية في ظل وجود سلطة احتلال وحاكم مدني أميركي بذهنية المرجع المسؤول لا ذهنية السياسي التي عادة ما تدخل في طياتها حسابات وامتيازات وأغراض قد يكون (الوطن) و(مصالح الناس) في آخر قائمتها! هذا لا يعني أن كل السياسيين براغماتيون. أننا نتحدث هنا عن معادلة واضحة وبينة ولدينا تجارب وأمثلة معاصرة فيها.
لهذا اتسم تعامل الإمام مع القضايا الكبرى كمسألة نقل السلطات في 30/6من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة للشعب العراقي وقيادته المنتخبة وكتابة الدستور وإجراء الانتخابات وضرورة فسح المجال للحريات العامة في التعبير عن آرائها بشأن تقرير مستقبل البلاد أتسم بالعقلانية والهدوء والواقعية والاتزان والابتعاد عن الفوضوية والحماسة (الثورية) والفوران المؤقت والصخب وإثارة الأجواء أو البحث عن الإثارة السياسية. وقد ساهم هذا المنهج في تصليب المواقف الشعبية والتفاف الجماهير المليونية العراقية من أقصى بغداد إلى آخر مدينةٍ وقريةٍ في الجنوب حول مرجعيته.
إن المرجعية الواعية هي الجهاز المؤمن بخيارات الناس الاستراتيجية لا الجهاز الذي تُملى عليه الخيارات من الخارج. ولهذا السبب بقيت المرجعية الدينية في عراق النجف الأشرف تتوارث قيم الاعتداد والإصرار على مطالب الناس وتقود الحركات الاستقلالية في العراق وتنبذ الخيارات المملية من الخارج عبر تاريخها الذي يمتد لأكثر من ألف عام من الآن أي منذ أن أسس شيخ الطائفة الطوسي العظيم الحوزة العلمية وأقام صروحها المعرفية إلى جانب مرقد الخليفة الإسلامي المرشد للأمة وأمير المؤمنين الإمام علي (ع).
ولأنها واعية ومتصدية وخلاقة وقادرة على إبداء الدرجات المفترضة من الواقعية والليونة والتشدد تبعاً لمسارات حركة المواقف السياسية الراهنة في البلاد ازدادت شعبية المرجعية الدينية الممثلة بالإمام في الأوساط المراقبة للشؤون العراقية وقادته الاهتمامات هذه إلى تكوين وجهات نظر معينة إزاء تلك المرجعية التي تمكنت خلال سنة أي بعد انهيار القيادة الرسمية السابقة تحت ضربات القوات الأميركية والبريطانية والقوات الحليفة لهاـ تحقيق مكاسب جمة لجهة إعادة الثقة للشارع والشارع بإمكانياته وقدراته الذاتية والإيمانية والاجتماعية ولم يستطع قادة الاحتلال الأميركي والبريطاني إلاّ أن يرفعوا القبعات الزرق والخضر أمام دقة وواقعية وعقلانية وحسابات المرجع. رغم أنه ـ وباعتراف عدد غير قليل من الكتاب الأميركيين والغربيين ـ يشكل في موقعه وفتاواه وقيادته للعملية السياسية خطورة غ ير عادية في الوقت الراهن إزاء الترتيبات السياسية والعسكرية التي تقوم بها سلطة الائتلاف المؤقتة بما يعزز فرص بقاء النفوذ الأميركي في العراق حتى بعد تسليم السلطة للعراقيين في 30/6.