يتبع الفصل الأول
............
الأدوار التوفيقية والفتاوى التلفيقية
يحاول البعض التشكيك بالأدوار الوطنية والإسلامية التي تنهض بها مرجعية الإمام فيضعها في الخانة الشيعية تارة والفارسية تارة أخرى ويجتزأ البعض الآخر من (معاني) و(دلالات) مواقف و(فتاوى) الإمام ليلبسها ثوب الفتنة التي يريد سعياً لتشكيل مواقف وقرارات من شأنها أن تحدث ارتباكاً واضحاً وفاضحاً في الصف الوطني العراقي.
ومن جملة المواقف و(الفتاوى) التي لعب ولا يزال هذا البعض (لأسباب طائفية محضة) على منوالها وإيقاعها موقف الإمام من وجود قوات الاحتلال الأمريكي في العراق. ولأن هذا البعض يستهدف الإساءة للإمام ولموقع المرجعية الدينية ومنزلتها الاجتماعية والسياسية في العراق والعالم الإسلامي فقد حاول الطعن بموقف الإمام الواضح من هذا الوجود في البلاد. تارة عبر القول بأن الإمام ليس لديه فتاوى واضحة إزاء ضرورة القيام بجميع الأساليب لطرد القوات الأمريكية والمتحالفة معها من العراق وتارة يتذرع بعدم وجود موقف أساسي من مجمل الأفعال العسكرية ـ الميدانية التي تستهدف القوات الأمريكية في العراق.
الإمام المرجع (دام ظله) لا يتصرف في الشؤون الاجتماعية المتعلقة بمصائر الأمة وأعراضها وأموالها وممتلكاتها وسيادتها كأي سياسي أو قيادي في الساحة العراقية (مع حفظ الألقاب) بل يتصرف باعتباره الأب الروحي والسياسي لكل العراقيين الذين يبحثون عن أهداف الحرية والأمن والاستقرار.
ومنذ اليوم الأول لسقوط بغداد ودخول القوات الأمريكية البلاد والإمام يقود الشعب العراقي بعقلية وحكمة ودراية وواقعية كبيرة، ولو كان الإمام يفتقد هذا الهدوء الجم في الساحة على الرغم مما واجهه ويواجهه مجتمع المقابر الجماعية والمرجعية الدينية وعموم الشعب العراقي في المدن والمحافظات العراقية من تحديات وظروف استثنائية في ظل واقع الاحتلال لكانت البلاد تغرق للآن في محيط من الفتن والحروب والمواجهات العرقية والقومية والطائفية.
كان لابد من ممارسة سياسية وفتوى شرعية هادئة ـ عاقلة فيها من الإتزان والواقعية والعقلانية ما يقود المرجعية إلى موقعها الحقيقي في حركة الأمة وما يقود الأمة إلى دورها في سياق التحول الاجتماعي والسياسي المنشود.
فكانت مجمل فتاوى الإمام التي تحرّم مثلاً التعامل مع الاحتلال والاحتكاك به وتذكير قياداته وجنوده وضباطه بأنهم محتلون في كل لحظة. في الشارع والسوق وأثناء تجوالهم في الأزقة والمحال التجارية والطرقات العامة واضحة وتعبر عن حس وطني وإسلامي مقرون بالعمل من جهة أخرى مع القوى السياسية العراقية سواء في مجلس الحكم أوخارجه لتسهيل شؤون أبناء الشعب العراقي الإدارية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية وتمكينهم من مهمتهم الوطنية وعدم وضع العقبات والعراقيل في طريق إنجاح تلك المهمة.
مع إلفات النظر إلى أن الإمام وفي الوقت الذي يعطي للمجلس هذا الدور يقف في ذات الوقت ضد كل المحاولات اللاقانونية واللادستورية داخل المدستورية داخل الميات المتحدة الأمريكية وبعض الأطراف في الانتقالي الرامية إلى الهيمنة على البلاد عبر وجود بنود غير قانونية أو (مهازل) كما صـرح الإمام بذلك في وصفه لبعض نصوص قانون إدارة الدولة العراقية الذي وقع من قبل جميع أطراف وشخصيات مجلس الحكم.
إن الإمام يعتقد أن وجود القوات الأمريكية في العراق وجود غير شرعي وأن البلاد محتلة وأن الجنود والمراتب العسكرية الأمريكية والبريطانية والغربية في العراق هي قوات ومراتب محتلة. وهذا الموقف لا غبار عليه عند القاصي والداني في العراق وخارجه لكن الإمام يشعر أن المعركة من أجل الاستقلال بحاجة إلى عقلية عليا ومرجعية سياسية ودينية متظافرة وجهود كل الأطياف والقوى والاتجاهات السياسية والاجتماعية في البلاد واستخدام الأساليب المتحضرة والديمقراطية والمدنية سبيلاً لتجنيب العراق المزيد من الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء.
هذا الكلام يواجه بالاستنكار والاستهجان من قبل أولئك الذين يريدون المزيد من سفك دماء العراقيين لكي يحولوا البلد إلى ساحة واسعة ومفتوحة وغير مقيدة بقانون لتصفية الحسابات وقتل الخصوم وإرباك القانون والنظام وذبح الناس وإدخال العراق في فوضى وفلتان أمني غير محمود العواقب والسبب أن بعض الاتجاهات الأصولية والمتطرفة والأجهزة الإسرائيلية والعربية التي لا تريد الخير للعراق يُغيظُها أن يستقر العراق لأن استقراره لا يصب في مصلحة مشروع الطائفية التي يريدونها تجتث كل عناصر الإخاء والتعايش والانسجام المذهبي والديني التاريخي الذي طبع مشهد العراق منذ بداية تشكل البلاد بحدودها الجغرافية والسياسية والاجتماعية والدينية.
الإمام يدرك هذه المؤامرة ويعدها ذات خطر مماثل لخطر استمرار احتلال العراق من قبل القوات الأجنبية. بل نعتقد أن الفتنة الطائفية لو نجحت مؤامرتها في البلاد فإن العراق التاريخي الذي حافظ على حدوده الحضارية والسياسية والدينية وتعايشه المذهبي طيلة قرون مديدة لا يلبث أن يتحول إلى ساحة حرب مفتوحة وصدامات لا قبل للعراق بها.
لهذا فإن الإمام لن يسمح لموقع المرجعية الدينية أن ينجر لمثل هذه المزالق أو ينجرف إلى اتخاذ خطوات غير عاقلة أو يستغرق في تفاصيل يومية وشؤون غير ذات أهمية تلهيه عن المهمة الوطنية العراقية الحقيقية المتمثلة بقيادة الحركة الاستقلالية عبرإخراج القوات المحتلة من العراق وتشكيل حكومة وطنية من الوطنيين والمخلصين وأصحاب الخبرة والتجربة والدراية في شؤون الوزارات والدوائر الحكومية أو ما يسمونه بالتكنوقراط وليس من بقايا تجار (الشورجة) كما يحلو لبعض (الناقمين) على ممارسات وأداء الوزارات العراقية اليوم أن يصفوا وزراء الحكومة العراقية الحالية.
إن الأمام يريد أن يعمل كل المعنيين بالمسألة الاستقلالية وحركتها الوطنية بكل السبل والإمكانيات على خروج القوات الأميركية بأقل الخسائر البشرية والسياسية من العراق وأن يبقى على مسافة واحدة متساوية من جميع فرقاء وقادة واتجاهات الساحة العراقية. على أن الهم الوطني الأساسي يبقى المرجع الأعلى هو الذي يتحمل أوزاره ويعيش استحقاقاته ذلك أن هذا الاستحقاق والعمل من أجل تحقيق كامل شروطه وأجوائه والخروج بنتائج تعيد الأمن والاستقرار للبلاد يعتبره المرجع الأعلى مسؤولية شرعية وأدائه من الواجبات الملقاة على عاتق حملة الدين وقادة ألوية المسلمين وفي مقدمتهم المراجع العظام دام ظلهم.
إن مسألة الدماء واحدة من أهم العقد الفقهية التي تتجاوز إطار المسألة إلى التفاصيل الدقيقة ذات العلاقة بأرواح الناس في العراق فيشدد الإمام على ضرورة سيادة منطق الحكمة في التعامل مع الأساليب والممارسات الخاصة لقوات الاحتلال في العراق.
ويوجه في ذات الوقت انتقاداً شديد اللهجة للقوات الأميركية التي تمارس تلك الأساليب بحق الشعب العراقي. أن تلك الرسائل السياسية (الفتاوى) كان لها وقعها وتأثيرها في الأجواء الجماهيرية العراقية مثلما كان لها فعلها السياسي الخاص لدى الإدارة المدنية والعسكرية لقوات التحالف في العراق عبر تأكيدات الأمريكان أن (مرجعية السيستاني) بإمكانها أن تفعل ما تريد في أوساط الجمهور العراقي لأنها مرجعية مسيطرة وقادرة على تلبية حاجات وضرورات الناس وتحمي السيادة وتحقق للبلاد الاستقرار وعودة الحكمة للعراقيين من دون فوضى أو استثمار الفلتان الأمني والإرباك الاجتماعي واستهداف الأجانب وخطفهم لتحقيق أغراض سياسية.
في رسالة لجمع من المؤمنين يؤكد الإمام السيستاني هذا المعنى الرافض لأساليب قوات الاحتلال ويشدد على ضبط النظام وعدم إراقة الدم وقصد الإمام من ذلك الوقوف بوجه كل المحاولات التصعيدية والفتنوية التي تحاول جر العراق إلى المآسي والحروب الجانبية.
تقول الرسالة التي بعثت لمكتب سماحة الإمام في النجف:
مكتب سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني (أدامه الله)
السلام عليكم ورحمة الله وبعد.
أنكم على علم بالأساليب القاسية التي تستخدمها قوات الاحتلال في المصادمات المستمرة منذ عدة أيامٍ في مناطق بغداد وفي عدد من المحافظات في الغرب والوسط والجنوب والتي أسفرت لحد الآن عن وقوع إعدادٍ كبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين. وقد حدثت أيضاً ممارسات مؤسفة حيث تعرض عدد من المراكز والمؤسسات الحكومية للنهب والسلب واستولى على عدد آخر منها بعض المجموعات المسلحة مما خلق حالة من الفوضى والانفلات الأمني في عدد من المدن. ولا زال الوضع يسير من سيء إلى أسوء. فما هو الموقف بازاء كل ما يجري؟
جمع من المؤمنين
ويجيب الإمام: بسمه تعالى
إننا نشجب أساليب قوات الاحتلال في التعامل مع الحوادث الواقعة، كما ندين التعدي على الممتلكات العامة والخاصة وكل ما يؤدي إلى الإخلال بالنظام ويمنع المسؤولين العراقيين من أداء مهامهم في خدمة الشعب. وندعو إلى معالجة الأمور بالحكمة وعبر الطرق السلمية والامتناع عن أي خطوة تصعيدية تؤدي إلى مزيد من الفوضى وإراقة الدماء وعلى القوى السياسية والاجتماعية أن تساهم بصورة فعالة في وضع حدٍ لهذه المآسي.
والله ولي التوفيق 16 صفر 1425.
إن الأمام يخاطب القوى السياسية العراقية كلها أن تضع حداً لهذه الممارسات والأساليب التي تقود البلاد نحو الفوضى والفلتان الأمني والهزيمة الاجتماعية الشاملة وهو هنا يقف إلى جانب كل الجهود العاملة من أجل إنقاذ البلاد ولا يقف مع طرف دون طرف آخر أو يقرب حزباً أو فصيلاً سياسياً معيناً ويبعد الآخرين خلاف ما كان سائداً أيام (المعارضة العراقية) ويشير أكثر من مراقب ومطلع على شؤون الساحة العراقية إلى القول بأن القوى السياسية والاجتماعية في البلاد أفضل في أدائها وفي سمات خطابها السياسي وعلاقاتها الداخلية اليوم وهي في العراق وبالقرب من منابع المرجعيات الدينية ووجهاً لوجه مع مختلف التحديات الوطنية الداخلية بموازاة ما كانت عليه حين كان لها أكثر من مرجعية سياسية ودينية عربية وإقليمية ودولية . نقول هذا الكلام من دون أن نعني بالضرورة أن كل الحركات والأحزاب العراقية الإسلامية منها والوطنية لها علاقات مباشرة أو غير مباشرة بالمرجعية العليا.
إن وجود المرجعية الدينية الواعية ـ المتصدية ـ العربية للجمهور وأمانيه وأهدافه السياسية والإنسانية بالدولة الوطنية ـ دولة القانون والعدالة والمساواة والحرية ـ أحد أهم العوامل الصانعة للقيادات التاريخية والبلدان النامية المتطورة. وبذلك نلحظ اليوم أن المرجعية الدينية تلعب دوراً أساسياً ومفصلياً في كل الشؤون الوطنية وفي جميع القضايا التاريخية الهامة من حياة العراقيين.
إن المواقف التلفيقية ستؤدي بالأمة إلى السقوط في سحيق الأزمات والحروب والمجاعة وكثرة المليشيات والقتال الضروس من أجل الحظوة والامتياز والمواقع الوزارية. وقد كان الإمام أول القيادات الدينية الذي دعى إلى ضرورة قيام كتلة قيادية وطنية عراقية عبر استشارة الأمم المتحدة وتشكيل حكومة ذات خبرة ودراية. وإلا لو كان الإمام (دام ظله) يريد حظوة أو جاهاً أو سلطاناً أو موقعاً في الوضع العراقي الجديد لجاءته المواقع إلى عتبة باب بيته الترابي المتواضع لكنه كان يعمل وسيبقى من أجل تركيبة سياسية يتجاوز بها العراق أزمته لا تركيبة سياسية تتجاوز العراق وتسقطه في منحدرات الفتن ومستنقعات الرذيلة السياسية والمحاصصات الطائفية.
بعد سقوط النظام في بغداد وإقالة الحاكم المدني الأمريكي الأسبق جي غارنر طلب بول برايمر الحاكم المدني الأمريكي الحالي زيارة الإمام السيستاني لكن الإمام رفض ولرفض الإمام أسباب منها:
1ـ إن اللقاء يعني شرعية واضحة للاحتلال وترحيب به وموافقة بينة على أن كل ما يفعله السيد برايمر له علاقة بشرعية اللقاء لا بشرعية المشروع الذي جاءت الولايات المتحدة الأميركية به إلى العراق.
2ـ إن الإمام يدرك بأن الشعب العراقي موزع في انتماءاته المذهبية والسياسية والاجتماعية وأن التناقضات التي يشهدها المجتمع العراقي حيال الأوضاع الجارية في ظل الاحتلال أكبر من أن تعد وتحصى. ولذلك لا يمكن اللقاء بالحاكم المدني الأمريكي في ظل هذا التفاوت السياسي والاجتماعي والجماهيري والحزبي والمذهبي ومواقفه من الاحتلال الأمريكي وما دام الواقع العراقي متناقضاً إلى درجة يصعب التمييز فيها بين المرحب والمستنكر، بين الذي يعتبر القوات الأمريكية (محتلة) والآخر الذي يعتبرها (محررة) فإن السيد المرجع يعمل بأصول الاحتياط القاضية بعدم اللقاء بالسيد برايمر.
3ـ إن الإمام برفضه يظهر مهارته وخبرته وأهليته في القيادة السياسية عبر الترفع عن الدخول في تفاصيل الحركة السياسية اليومية للقوات الأمريكية وقياداتها العسكرية والمدنية والمخابراتية أو مجمل الحركة السياسية العراقية وتعقيداتها وتفصيلاتها اليومية. فالأهلية السياسية تقتضي أن يقف الإمام مع الغالبية العظمى من الناس التي ترغب بزوال الاحتلال وقيام حكومة وطنية عادلة بعيداً عن استفزازات جنود الاحتلال كما أن اللقاء بالسيد برايمر (سيخفف) من مكانة وموقع المرجع والمرجعية في عيون كل العراقيين بمختلف مشاربهم ومدنهم ومذاهبهم. فلو صح القول أن شريحة ما (كما أظهر استطلاع محايد في العراق) تعتبر وجود القوات الأمريكية (وجوداً محرراً) فإن شريحة أخرى تعتبره (وجوداً غازياً) وأمام هذه التعددية في الرأي يقف الإمام لكي يعزز من وجهة نظر الش ارع عبر الاندكاك بضمير الناس والحديث بألسنتهم والوقوف مع أهدافهم وأمانيهم لا الوقوف مع المصلحة الفئوية دون تقدير وافي للموقف السياسي العام.