ومع القسم الأخير ..
حظ المرأة من القدرات العقلية
إنّ موضوع «العقل» والإمكانيات المرتبطة به لدى المرأة أمر واسع الحدود. ومن المعلوم صعوبة المرور السردي على كل قضاياه وأطرافه في مثل هذه الفرصة المحدودة؛ لذا نتطرق إلى بعض جوانبه قدر المستطاع، ضمن ذكر عدة نقاط، تساعد على لحظ اعتبارات متنوعة في فهم دلالات الأحاديث، القائلة بمثل هذا المفهوم. بعد التأكيد المتكرر، على أنّنا نترك احتمال عدم صحة الحديث إلى مرحلة أخيرة؛ باعتبار أنّ التسرع برفض الحديث، وإلصاق الجعل والاختلاق به أمرٌ يتسم بالخطورة، خاصةً قبل استنفاد الطاقات المعرفية وإمكاناتها، في افتراض مداليل أخرى غير ظاهرة من الحديث. وما أسهل أن يقال: إنّ كتاب نهج البلاغة؛ مرسل، غير مسند، فلا يصح الاستناد به في مثل هذه الموارد. الحقيقة إن الإسراف في مثل هذه الخطورة _ إضافة إلى أنها ليست صحيحة _ لا تخدم مشروع تنمية طاقات قراءة النص، وفهمه، في ضوء تعقيدات عملية التعامل مع النصوص الدينية، وهذا ما يجعلني أؤجِّل النقاش السندي حول الروايات من هذا القبيل.
1 - علاقة هذه النصوص الواردة بأمور واقعية موضوعية، وفهم النص في ضوء البيئة الظرف أو السياق الزمني له، مما يساعد على ربط مدلول مثل هذه الأحاديث بهذه العناصر، حيث ينتهي الأمر إلى تخصيص المصاديق المرتبطة بتلك الظروف، والسياقات المستنـزلة من هذه النصوص. وأمر كهذا يقطع الطريق أمام وصف المرأة كنوع بشري، بمثل هذه الصفة وما شابهها، فتنحصر الدلالة؛ لتصدق على ظرف وحالة خاصين، كما ندرس أنّ عمدة الحديث الوارد في نهج البلاغة في هذا الخصوص، قد صدر في مناخ تاريخي خاص، حيث تقود امرأة عملية حربية عسكرية في مواجهة الإمام علي (عليه السلام). فهو في مثل هذه الأحاديث، يريد أن يتحدث عن تقييم علاقة الرجل والمرأة وإمكانيتهما في مواجهة حالات حربية كهذه. وإنّ أي محاولة تأطير فهم أوسع للمدلول؛ تتضارب مع القواعد الكلية، فلا بد من فهم الدوائر المحدودة في ظلها، وتحت سيطرتها القانونية؛ أي خلوّ النص المرجعي من أي أمر يتقارب مع القول بنقصان عقل المرأة؛ بمعنى عدم امتلاكها القدرة على تشخيص الحق والباطل، أو الخطأ والصواب في مرحلة النظر والرؤية، دون السلوك والاختبار طبعاً.
2 - الواقع التاريخي في ضوء قراءة تاريخية للتجارب الموجودة في القرآن الكريم، أو النصوص الشرعية الأخرى، كذلك المتعلقة بالتاريخ المعاصر لهذه النصوص، إلى جانب الرؤية الموضوعية للمرأة، جميعها لا تؤيد اعتبار أنّ المرأة أقل حظّاً من الرجل في امتلاك العقل، حيث أن شخصيات تاريخية من النساء استطعن إثبات غير ذلك. من الواضح، أنّ وجود الشهادة التاريخية على أنّ الظروف مؤاتية ومناسبة لها تثبت غير الذي تكرّس. إلى جانب توافر ونماذج نسائية، هي قمة في العقل والتعقل أكثر من كل الرجال في بيئتهنّ، كنّ أقوى دليل فلسفي، على امتناع وصف المرأة كجنس كلي بهذه الخصوصية؛ لوجود حالات نقص، تمنع إمكانية إصدار الحكم كلياً. إذاً، في حال صحة المقدمات الأخرى، فإن الدلالة غير صادقة في حق كل النساء. والمسألة تبقى منحصرة على أفراد من النساء، ليس باعتبارهنّ نساء، ولكن باعتبارهنّ موصوفات أحياناً بأوصاف خاصة. ما سأطرحه في الملاحظة التالية:
3 - نقصان العقل، في حال ثبوته، يطرأ على المرأة كجنس من الإنسان له خصوصياته العاطفية والإحساسية؛ حسب تعبير السيد الطباطبائي في معرض حديثه عن هذا الموضوع وفي تفسير الآيات 228 إلى 243 من سورة البقرة.
لا شك، أنّ مثل هذا التقلب والاهتزاز قد يحصل بفعل وجود مسببات وعلل خاصة من شأنها عرقلة عمليات الإدراك، أو الخضوع له، والنـزول عنده. والمسألة لا تتعلق بالمرأة، إنّما تتصل بما تتصف به في حالات كثيرة، تتجاوز ما يصاب به الرجل من حالات الهيجان والثوران في العاطفة الإنسانية المقدّسة. والأمر القابل للتبني، ليس أكثر من قبول؛ أنّ أكثر النساء (وليس كل النساء) في أكثر الحالات (وليس كل الحالات) يقعن تحت تأثير العاطفة الشديدة والإحساس القوي وضغطهما، أشدّ من أكثر الرجال؛ لأنّ بعض النساء قد لا يتأثرن بهذا المستوى، وبعض الرجال، من جهة أخرى قد يتأثرون بمشهد عاطفي فيسقطون عنده، ويصبحون غير قادرين على أي انطلاق عقلي... وهذه الاستثناءات كافية؛ لتدل على أنّ الحكم، وإن كان غالبياً، لكنّه لا علاقة بينه وبين النساء كجنس أو الرجال كجنس، إنّما العلاقة بين الإحساس والعاطفة؛ اللذين إذا اشتدا في الإنسان مطلقاً عرقلا العملية العقلية في تلك اللحظات والحالات فحسب.
الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الرجال في حالات كثيرة، منها يقع؛ لنقص عقل فاعليها في لحظة الارتكاب كسبب أساسي، فمن الطبيعي أن يتأثر الإنسان بعواطفه، فيتعثر في قراره، ولا أظنّ أنّنا في حاجة إلى إثبات وجود علاقة بين التصرف اللاعقلاني والشَّاذ، وبين تلاطم الوضعية العاطفية وتحرك العاطفة النفسية سلباً أو إيجاباً.
نجد نصوصاً دينية مهمة في ذلك، تستحق دراسات نفسية حولها، ولعل الحديث المعروف حول المحبة الإلهية في العبد (أو بدرجة خفيفة الحب المادي والجسدي) التي قيل فيها:
«المحبة نار تحرق ما سوى المحبوب»
حسب تعبير مؤلف «جامع السعادات»؛ الشيخ ملاّ مهدي النراقي، وبعض ما يتعلق بحالات الصوفية والعرفان، الذين يصلون في بعض الأوقات إلى درجة يصعب وصف ما يصدر عنهم بالعقلانية أو العقلية. يجب اعتبار مثل هذه الحالات ناتجة عن مؤثر العشق والحب... لعل مثل هذه الحالات هي نفسها لدى المرأة في أحيان كثيرة، حيث إنّ المشاهد العاطفية توصلها إلى حالة، يصعب عندها التحكم بالنفس والسيطرة على القرار العاقل، أشدّ من الرجل. وهذا أمر طبيعي، ولا يوصف بالسيئ والعيب، بقدر ما هو يوصف بالحسن والضرورة؛ لتكامل عناصر الحياة.
أمّا النقطة الأساس هنا؛ هي إثبات أنّ المسألة غير مرتبطة بالمرأة؛ لأنّها امرأة، إنّما ترتبط بشدّة العاطفة والإحساس لديها، مما يؤخرها عن الرجل في لحظة حرجة وصعبة تنطوي على مشاهد عاطفية كبيرة، قد تسبّب تجريح عاطفي للمرأة وخدشها، ممّا يجعل الرجل أكثر صلاحية في فوضى هذه الحالات الصعبة والمقتضية للخشونة، والمصابرة، والمواجهة، والعنف، وسيطرة القدرة، وممارسة التدمير، والاقتحام.
جاء في حديث عن الإمام علي (عليه السلام):
«إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».
وفي حديث آخر: «لا عقل مع شهوة».
فالنتيجة؛ أنّ شهوة الرجل وإعجابه بنفسه يسلبان إمكانية التعقل لديه والتأمل، وأخذ القرار الصائب تماماً، كما أنّ العاطفة الشديدة، والطبيعة الإحساسية في المرأة (رغم قداسة هذه الصفات، ووجود أسرار عظيمة فيها) تقلل من إمكانية أخذ القرار العاقل، المتناغم مع المعادلات والمفاهيم المادية للمصلحة والعقل الضرورية؛ حفاظاً على نظام الحياة..
أكثر هذه النصوص، وإن كانت محل سوء فهم كبير، من قِبل بعض من تصدّى؛ لفهم النص الشرعي، أدى إلى استنتاجات غير دقيقة حول الرؤية الإسلامية عن المرأة، غير أنّها جاءت؛ لصيانة المرأة من تعرضها إلى الخطر، وحمايتها من فقد الحماية والتعرض إلى الإعتداء على شخصيتها، وليست للقول بأنها دون الرجل في عقله. لعل أمر الإمام علي (عليه السلام) بعدم التعرض للنساء في قوله:
«ولا تهيجوا امرأة وإن شتمْنَ أعراضكم وسبَبْنَ أمراءكم، فإنهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول».
وكأن الإمام (عليه السلام)، بالإضافة إلى حزنه بسبب جرّ المرأة إلى الحرب وتعريضها إلى ما لم تخلق له في أصل خلقها، يريد أن ينبّه الخائضين في الحرب من أنصاره، إلى أنّها كائن لطيف ورقيق، وسريع الانكسار، وغير قادر على تحمّل القساوة والشدة، وأنّها محمية ومصونة بالرجل، وأنّ سلوكها غير السوي تحت ضغط العاطفة والإحساس، لا يحولها إلى القوي في هذه العناصر الثلاثة.
في حال صحة نسبة مثل هذا الحديث إليه (عليه السلام) فأين هو من الدلالة على أنّ المرأة ناقصة العقل، كما يعبّر عنه بشكل غير متناغم مع مناخ شخصية المرأة أو مناخ صدور الحديث؟
إنّ النص الشرعي الصادر بالأساس لأجل حمايتها ودعمها وصيانتها من أخطار وإنهيارات، لا يتحمل سوء فهم هنا أو هناك في آراء الإفراط والتفريط.
في مثل هذه اللحظة يُعرف السبب، في وجود نصوص تحثّ على عدم مشاورة النساء في رأيهنّ؛ وهي _ دون شك _ لا تمثل تخصيص الرجل بالأمر الشرعي في آيات القرآن الكريم والسنّة الشريفة بالمشاورة، والمشاركة في عقول الناس، ممّا يعني _ بكل يقين _ أنّ ما جاء في هذا الصدد، يرمي إلى تجنيب الرأي الصائب من التأثر بالحالات العاطفية القوية، القابضة على كيان المرأة وشخصيتها، فيمتنع أن يكون السبب فيها أن المرأة كائن إنساني ناقص في عقله، لا يجب مشاورته!.
والإمام (عليه السلام) نفسه يقول:
«حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء».
والأكثر صراحة منه؛ هو ما نقل عنه أيضاً (عليه السلام): «إياك ومشاورة النساء إلاّ من جُرِّبت بكمال عقل».
لا أشك، في أنّ هذه الأحاديث، إذا صحّت فإنها تشير إلى حالات خاصة تطرأ على المرأة كثيراَ، لكنّها غير داخلة في الجوهر، ولا تدل على دونية المرأة في الحالة العادية في قدرة التعقل.
إنّ اعتبار المرأة بشكل دائم وفي كل الحالات، أقل كفاءةً وعقلاً في صياغة وصناعة القرار الصائب، أو محاولة تقسيم العقل، إلى ما يُعبد به الرحمن وتكتسب به الجنان، وإلى العقل المادي الاجتماعي، ومن ثمّ اعتبار المرأة هي أضعف عقلاً من الرجل في العقل الماديّ دوماً، يُجانب الواقع ولا يتلائم مع الروح السائدة علة لموقعية الإنسان الرجل والمرأة؛ في مجمل أطراف عناصر الرؤية والنظرية الشرعيتين.
أكثر الرجال في تأمين العيش والحماية والمواجهة، أشدّ أهلية وتلاؤماً من أكثر النساء، وهنّ أكثر إطاعة للحبّ والعاطفة والعشق باتجاه الخير، وأشدّ انسجاماًَ في طباعهنّ مع تحمّل الشدائد والصعاب في سبيل بلورة الجمال الإلهي، وتجسيد قدرٍ منه على الأرض؛ لتكون بذلك مرآةً؛ لعِكس صور معبِّرة، عن الرحمة، والحب، والوفاء، وغيرها من القيم الجمالية، وبثِّها وتكريسها، وتأمين عروج المجتمع إلى الخير المحض والسعادة الدائمة. هنّ أكثر تفوقاً في ذلك من الرجال. لعلّ قول الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة يشير إلى طبيعة هذا الدور بقول: «فالمرأة ريحانة وليست بقهرمانة».
.
.