فَقدُ الشباب
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
شيئان لو بكتِ الدماء عليهم
عينيَّ حـتى تـأذنـا بذهَـــابِ
لم تبلغ المعشار مِن حقيهمُ
(فقدُ الشبابِ)وفرقةُ الأحبابِ
لا يعتبر أمير المؤمنين البكاء الحارق والمشاعر العارمة التي تصيب الإنسان إزاء فقد عزيز أو فراق حبيب إلا وفاء وإخلاصاً.
فلو بكيتي أيتها العين على مَن ودعنا بلا عودة،وانهارت بفراقه كل طموحاته وآماله،وانطفأت إشراقته من ناظركِ لم تبلغي معشار حقه.
لأنَّ الشباب أمل الأمة، ودم المجتمع الدافق بالحياة، وبهجة الدنيا.
***
ها أنا أقف متأملاً بالقرب مِن بوابة المسجد،أرى عن يمني وشمالي وأمامي ومن خلفي عشرات المُعَزين، وأهل الوفاء مِنْ أبناء قريتي،فهذا متوكؤٌ على عكازهِ محدودبٌ ظهره لم يمنعهُ الضعفُ والمرضُ من الحضور لمشاركة القرية مصابها ،فشبابها أبناؤه وشيوخها اخوانه..وفي الناحية الأخرى أنظر أسراباً من النساء يتجِهـنَ صوبَ العزاء..وهناك شباباً تبدو على وجوههم علائم الحزن والأسى..وهذا تتحدر دموعه على خديه كالنهر الجاري..وذاك خنقته العبرة،و.. و..
لم أجد فرقاً بين أقرباء الفقيد وغيرهم،فالكل خاشعٌ منهم حزينٌ.والكل صاحب عزاء
***
اتصلنا على أب الفقيد لأخذ اذن التغسيل،وينتابنا الكثير من الحرج،وتفاجأنا بقوة شكيمته،وشدة تجلده،وعظيم صبره،وبعد أخذ الاذن طلب تأخير الجنازة إلى أن يأتي.
***
سألتُ مَن بجانبي:ألم يصل أبوعلي بعد؟
- ها هي سيارة تتجه نحونا يبدو أنه هو
اشرأبت الأعناق،أفسحت الحشودُ المكتظة الطريق،وقريباً من بوابة المسجد وقفت السيارة.
فُتِحَت الأبوابُ.. اتجه العديد من الأحبة لاستقبال الأخ موسى واحتضانه مجهشين بالبكاء.
موسى:دعوني لأسجد لربي لحظات
ترجلَ من السيارة ،خرَّ على الأرض ساجداً،وبصوتٍ لم أتمالك معه عبرتي،وجليلَ إعجابي بهذا الموقف الإيماني الجليل.
سَجَدَ منادياً بصوتٍ حزين:ربي أسجد لكَ لا رياءً ولا سمعةً
(ربي رضاً بقضائكَ لا معبود سواك)
ربي أعطيتني نعمتك،وأخذتها فلك الحمد
(إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)،خذ قلبي وعقلي وسمعي وبصري وروحي..
ربي أخذت عيني اليمنى فلك الحمد
وتبعتها باليسرى فلك الحمد..لا اعتراضاً على حكمك وقضائك.
هذا شيء مما حفظته من تلك السجدة الخاشعة في محراب الرضا .
حسبتني وأنا أسمع تلك الكلمات العارمة المفعمة بشموخ الإيمان، وخشوع التسليم كأني أسمعُ عالماً مفوهاً بليغاً،وأنى للكثير من العلماء باستحضار مثل ذلك!!
تمنيت تسجيل هذه المشهد الذي قلَّ نظيره.
وهل كان هذا كل ما لديه؟
*كلا...جاءه بعض أقربائه مثكولين مألومين بعويلهم الذي يقطع الأكباد،فما كان منه إلا أن يُصبرهم،ويسليهم.
دخل المسجد،وما زلت أتابعه:ربي رضاً بقضائك... لله صبرك يا أبا عبدالله ترى أبناءك وإخوتك وأهل بيتك وأصحابك مجزرين وتستقبل ذلك بالصبر والرضا ..
لله صبركِ يا زينب..
ربي ألهمني الصبر والرضا بما قضيت.
تغلب العبرة أحد الأقرباء فينعاه باكياً،وإذا بالأب الصابر يُصَبِرُهُ:صل على محمد يا ابن العم،واذكر الله.
ثم أردفَ بكلمة أثارت دهشتي: أعرف أنَّ هذا سيحدث!،(إنَّا للهِ وإنا إليه راجعون )
لم يكن الظرف مناسباً لسؤاله:كيف ذلك؟
ولكني سأسأله يوماً ما .
أي روح متوهجة بالإيمان والتسليم هذه التي لم تهدأ من عبرة فقد ابنها الأكبر،وتلحقها هذه المصيبة فتصبر؟
وأي قلب هذا الذي توهجت فيه أنوار اليقين والمحبة،فوجد ما أخذه الله أمانة مستردة لا اعتراض على ما أصابه ولا سخط؟!
***
إنَّنا لنفخر باعتزاز بمثل هذه الروحية المتألقة في عالم الملكوت.
وفي الوقت الذي استذكر بسمة أبي علي الذي لم تفارق وجهه المشرق حتى بعد فقد ابنه علي بأيامٍ قلائل،وأكبرُ فيه رضاه وإيمانه،أنحتُ في مخيلتي هذه اللوحة الإيمانية المشرقة التي تستحقُ كُلَّ إكبار.
***
أعانكَ الله يا أبا علي ورفع درجتك عنده وأعطاكَ خير ما يعطي الصابرين،وربط على قلبك وقلب رفيقتكَ وأهل الفقيد وعلينا بالصبر والسلون.
جاسم المشرف