<3>
وللإمام (عليه السلام) نظرية حول العالم ونظامه لا تختلف عن نظريات علماء الفيزياء في هذا العصر، مع أنه قال بها قبل اثني عشر قرنا ونصف قرن.
يقول الصادق (عليه السلام) في عرض نظريته إنك إذا شاهدت حوادث طارئة كالطوفان والسيل والزلازل وما إلى ذلك من الظواهر الطبيعية في العالم، فاعرف أنها ليست دليلا على أن العالم فقد نظامه، لأن هذه الحوادث تتبع قواعد ثابتة، ولا تقع حادثة صغيرة أو كبيرة إلا وهي في حساب عند الله.
وعلماء اليوم الذين يخضعون للقواعد الرياضية والفيزيائية دون سواها من الغيبيات، يقولون بهذه النظرية عينها. أفلا يستحق الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إكبارا لعلمه وفضله، وهو قد نادى بهذه النظرية قبل اثني عشر قرنا ونصف قرن؟
فالزلازل والطوفانات وهياج البراكين وما إليها هي في رأي علماء الفيزياء والجيولوجيا ظواهر تخضع لوانين الكون، ومن يعتبر الزلازل حادثا غير عادي يجهل قوانين الجيولوجيا التي تحدد أسباب حدوث الزلازل.
وقبل وقوف العلماء على القوانين الفيزيائية والجيولوجية التي تتحكم في الظواهر الطبيعية، كان الاعتقاد السائد طوال آلاف من السنين أن التغيير المفاجئ في الجو أو وقوع هذه الظواهر دليل على أن خللا قد أصاب نظام الكون، إذ ليس من المعقول مثلا أن تهبط درجة الحرارة في الصيف بصورة مفاجئة أم أن ترتفع في الشتاء بغتة.
أما اليوم، فقد أصبح في وسع العلماء أن يتغلبوا على عامل المفاجأة في الظواهر الطبيعية، لقدرتهم على التكهن بالأحوال الجوية قبل أسابيع وشهور.
ولا تختلف الزلازل في طبيعتها عن سائر التغييرات الجوية المفاجئة، ولو عرف الإنسان القانون الذي يحكم حدوث الزلازل، عليه التكهن بوقوعها زمانا ومكانا.
وكان الصادق (عليه السلام) يقول لتلاميذه إن الذي يراه الناس ويحسبون أنه دليل على خلل في نظام الكون، إنما يخضع لقوانين ثابتة لا تقبل التغيير.
ويؤكد جميع الفلاسفة أن للكون قواعد وأوضاعا لا تقبل التغيير، وأن ما يحسبه الإنسان تغييرا أدى إلى زلزال أو طوفان هو ناموس طبيعي من وضع الله، فالله قد خلق الكون بجميع أوضاعه ونظمه وحركاته وحوادثه، ووضع نواميس ضابطة لذلك، فكل حركات الكون خاضعة لهذه النواميس التي هي في سابق علم الله.
ويقول هؤلاء الفلاسفة إن التغييرات التي تطرأ على القوانين البشرية ناتجة عن جهل الإنسان وضعفه، وما دام الإنسان عاجزا عن التكهن بما ستكون عليه أوضاعه الاجتماعية أو الفردية، فهو يضع القانون ليومه، ويغيره متى قضت مصلحته بذلك.
ولئن كان الله قد وضع للكون في لحظة واحدة، فهي بفضل علم الله وقدرته قوانين أبدية سرمدية، وهذا ينطبق أيضا على القوانين التي أتى بها الأنبياء والمرسلون من عند الله بوحي من الله من عنده تعالى.
وجميع الفلاسفة، من كانوا يؤمنون بالله منهم ومن كانوا ماديين، يقولون بثبات القوانين التي تتحكم في الكون وعدم قابليتها للتغيير.
فهناك الفيلسوف الملحد (مترلينك) الذي يؤكد بدوره ثبات هذه القوانين، فيقول: لو انهدم العالم فجأة، وسقطت الشمس والنجوم وآلاف المجرات والنيازك والمجموعات الضوئية وغيرها، فهذا الخراب ليس حادثا مفاجئا أو غير متوقع، وإنما قد حدث طبقا لنظام كوني معين، ومن وقف على هذا القانون استطاع أن يحدد زمان وقوع هذا الخراب.
والوحيد بين المفكرين في القديم الذي تنبه إلى ثبات قواعد الكون ونظمه هو الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، بل إن الاعتقاد السائد عند القدامى هو أنكل قاعدة في الكون قابلة للتغيير، وأرسطو نفسه اعتبر الاعتقاد بتغيير الكون ونظمه وقواعده جزءا من أساس تفكيره الفلسفي، مما أكسب هذا الاعتقاد تقبلا وشيوعا باعتباره أمرا لا يقبل المناقشة أو الجدل.
يقول أرسطو إن العالم مركب من جزأين، هما المادة والصورة، وهما غير قابلتين للتجزئة أو الحل، ولا بد لكي تنطبق الصورة مع المادة من وجود حركة وتغيير، ولولا الحركة لما اتخذت المادة شكلها الحقيقي، فالحركة تلازم التغيير وتستلزمه، والتغيير يلازم قوانين الكون.
وظلت هذه النظرية إلى النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي أساسا من أسس التفكير الفلسفي الأرسطي، ولم يحاول أحد من الفلاسفة التشكيك فيها، إلى أن جاء الفيلسوف ديكارت (1650م) فأقام الدلائل على بطلان جوانب منها.
كان أرسطو تلميذا لأفلاطون، ولكننا لا نعرف على وجه اليقين آراء أستاذه أفلاطون في إمكان تغيير قوانين الكون، والمعروف أن أفلاطون بث آراءه على هيئة محاورات بقيت للأجيال المتعاقبة، ولكننا لم نعثر فيها على شئ عن إمكان تغير قوانين الكون، وهذا طبعا لا يقلل من أهمية آرائه وسيظل هو على الدوام من أعظم مفكري العالم القديم، وسيظل أسلبه الخطابي الفني الرائع مستأثرا بإعجاب الدارسين جيلاً بعد جيل.
وإلى عصر ديكارت، كان الفلاسفة يعتقدون أن قوانين الكون غير ثابتة وأنها عرضة للتغيير.