الموضوع: فاختر أنت
عرض مشاركة واحدة
قديم 16-05-2007, 07:21 PM   رقم المشاركة : 1
محمود درويش
شاعر قدير






افتراضي فاختر أنت

إني أشم رائحة المقبرة , وكأن رطوبة ترابها الممزوج بالمطر الذي يتساقط في تلك الليلة الشتوية يدبُّ على مسامات جلدي المتجعد ...
وأعشاب تلك المقبرة التي تترنح تحت تساقط المطر الشديد تتراقص أمام عيني رقصة الموت وتدعـوني لمخـاصرتها على حافة قبر ...
وثمة أشباحٌ بيضاءُ تُدهِّن بزيوت النـزع مجاريَ عروقي الناشفة , وتُؤثّثها فيمر عليها موكبُ الروح البهيج ...
والشيخ الذي بجواري يُقطِّرُ عسلَ الذكر الإلهي في حلقي كي تحلو فيه مرارةُ الموت ...
إني مسافرٌ يا ولدي فإما أن أرجع إليك أو أن تلحق بي فاخترْ أنت .... ؟!!
لقد تركتُ أشيائي مكوّمةً تحت سريري الخشبي المتهالك : السُبْحة والكوت الرمادي والبشت البني الغامق والكُمَر , فخّختُها برائحتي , فحاذرْ أن تمسّها , كي لا تنفجرَ فيك وتُحوّلك إلى شظايا من الحزن تتناسل فيها الذكرى ...
لقد أقفلتُ عليها في صندوقي المعدني ...
لا أريد يا ولدي أن يخدش زجاجَ وجهكَ تساقطُ الدموع من عينيكَ ...
لماذا رحلتَ في ليالي الشتاء القارسة ... ؟! لماذا تسللتَ خِلسةً من خيمة بشتك الدافئ التي كنتَ تنصبها على عتبة الدار في أيام الشتاء , وذهبتَ لتستلقيَ على الفراش والذي لازمتَه عدة سنوات .. هل يُشعرك هذا الفراشُ بأبوتك كي تحنو عليه ... ؟؟!! لماذا استبدلتَ قبلاتك الحانية على وجهي الصغير بقوارير الدواء المر .. ؟! هل اكتشفتَ أن في الدواء طفولةً ضائعةً فلملمتَها بشفاهك الحانية .. ؟!
لا أظن ذلك فكم شاهدتُك مراراً وأنت تلفظ ذلك الدواء المر من شفتيك المرتعشتين ليندلق على رقبتك النحيلة , فتُسلمك أمي بيديها الخائفتين إلى الوسادة والتي أدمنتْ التحاف رأسك ...
وكم شاهدتُك مراراً وأنت تضغط بيديك فروة الكنبل الذي تلتحفه من شدة الألم وتمسح عليه بيديك إذا خفّتْ حدةُ الألم , فلكم كنتُ أشعر بالغيرة الخانقة .. لماذا استبدلتَ فروةَ شعري بذلك الكنبل الهزيل .. ؟! هل لأنك تشعر بأبوة طافحة فتحنو على كل شيء في البيت .. ؟!
في تلك الليلة ازداد هطول المطر بشدة .. هل لأن جبينك له رائحة السماء ولون الغيوم , والذي كان يغرق عرقاً لعدة أيام قبل وفاتك .. ؟!
إني مسافرٌ يا ولدي فإما أن أرجع إليك أو أن تلحق بي فاخترْ أنت .... ؟!!
رأينا نخلةً أتتْ إلى ناحية المقبرة في تلك الليلة الشتوية حفرتْ قبرَه وفرَشَتْ على اللحد سعفةً خضراءَ نديةً كقلب عاشقةٍ ... ثم توارت من خلف بساتين النخيل ....
هل لأن هذه النخلة التي لملمتْ جذورها وحزمتْ حقائب عذوقها من وسط بيتنا الترابي تشمُّ رائحة الفراق من على بعد أميالٍ من الذكرى , وأنها أدركتْ أن من كان يحبو على عتبات جذوعها ليكنسها من السعف اليابس ويراقصها في حفل القطاف الشهي , سوف يسافر بعد سنواتٍ قلائل ففرتْ هاربةً إلى أحد بساتين النخيل ككل النخلات الثكالى ... ؟!
صوتٌ يجيء من داخل الغرفة العتيقة : لقد مات .......... !!!
لا لم يمت , لعله ذهب ليتسلق تلك النخلة كما كان يفعل دائماً كل ليلة بعد أن رحلتْ من البيت , حيث كان يقول لي قبل أن يذهب إليها :
إني مسافرٌ يا ولدي فإما أن أرجع إليك أو أن تلحق بي فاخترْ أنت .... ؟!!
فاختارُ الإنتظار على عتبة الدار بجوار خيمة بشتك الدافئ ....
أنت يا من يحمل نعشَه توقف ... هل تحمل فوق ذراعيك جسداً أم غاباتِ نخيل ... ؟!
يا كل الأشياء تشكلن مناديلَ بيضاءَ .. وأنتِ أيتها الشجيرات المثخنة بقطرات المطر تعالين أعاقرْكنَّ كؤوس الوجد في أحد زوايا المقبرة ... تعالين أسرحكن سراحاً حزيناً ...
وأنت أيها المطر المجنون إنهمرْ أكثر لعلَّ قطراتك تندسُّ داخل مسامات جسدي النحيل لتصل إلى قلبي الذي يستوطنه خريفُ الفراق ...
وكلما اقترب النعشُ من القبر ازداد المطرُ انهماراً ... أنتم أيها الدفّانون القساة دعوا أبي يسبح في بحيرة قبره , ولا تنشفوا القبر ... دعوه يبحر في زورق كفنه الأبيض إلى مكانٍ ما ...
ولا شيء غير صوت صرير باب المقبرة الذي يُغلقُ بعد الإنتهاء من الدفن , وهمهمة الرجال الخارجين ...
فأرجع إلى البيت لأرى فراش والدي مرمياً بجوار عتبة الباب بدلاً من خيمة بشته التي انطوت كالطفل اليتيم داخل الصندوق المعدني , ففـراش الميت لا يُوطَئُ بعده كما في عرف حارتنا خوفاً من العدوى ...
صوتٌ يجيء من الأفق : رأينا النجومَ تحمله من قبره إلى مكانٍ ما ....
تقول أمي : إنه المكان الذي كان يعشقه ...

## ##

والآن بعد مرور عشرين سنة من تلك الليلة الشتوية ... رائحتك العتيقة التي حطّمتْ القفل الذي يعقلها في الصندوق المعدني لتهاجر أشيائك لفرط حنانها , تستوطن أعماقي ... تتمشى بعكاز الذكرى كالشيخ الهرم في دهاليز عروقي وتمتطي صهوةَ أنفاسي في كل شهيقٍ وزفير ...
وقبرك شاطئٌ ذهبيٌّ نبتتْ على جوانبه أعشابٌ خضراء يفوح منها عبقُ الحنان الأبوي , إذ تتغلغل الجذور داخل القبر وتأخذ من قلبك النابض تحت قسوة الصفيح والتراب ذلك العبق , فكأنك تُوفدُ هذه الأعشاب لتنوب عنك في هذه المهمة الحانية ... عجيبٌ هو قلبك الذي يؤنسن الأشياء ... !!!
إني مسافرٌ يا ولدي فإما أن أرجع إليك أو أن تلحق بي فاخترْ أنت .... ؟!!
فألتفتُ هنا وهناك وأنا أتمشى في الممر الترابي الذي يتوسط المقبرة ... فلا صوت ولا صدى ...
غير صوت خشخشة أوراق الشجر اليابس الذي يتكسر تحت حذائي وصرير باب المقبرة الذي أغلقه بصعوبة إذ لا همهمة رجال ولا مطراً شتوياً هاطلاً ...
ثم أمشي ليلتهمني الشارع الإزفلتي فيقذفني في نهاية المطاف إلى البيت كمن يبتلع شيئاً لايستسيغه فيلفظه ...

 

 

 توقيع محمود درويش :
سجل
أنا عربي
ورقم بطاقتي
الأحساء

التعديل الأخير تم بواسطة محمود درويش ; 16-05-2007 الساعة 07:22 PM. سبب آخر: خطأ لغوي
محمود درويش غير متصل   رد مع اقتباس