ذات صباحٍ والشمس تلاحق خفافيشَ الظلام المنتشرةَ في كل مكان , لتضع نهاية لاحتفال تلك الخفافيش بالظلام والتي تقيمه كل ليلة , فتبدأ بإرسال أشعتها والتي تتدلى في الأفق كمكانسَ ذهبيةٍ لتكنس بقايا تلك الحفلة من كؤوسٍ محطمةٍ وقماماتٍ مرميةٍ بعبثيةٍ هنا وهناك ....
يتسلل خيطٌ من النور الدافئ بين شقوق الأعواد البنية المتراصة بغباءٍ شديدٍ , لكي يذيبَ قسوةَ الأعواد العنيدة , والتي تصر على التراصِّ فيما بينها مُشكِّلةً قفصاً من الصمت الثقيل يحيط به , وتلقي بظلالها السوداء القاتمة على نواحي القفص , وخيط النور الدافئ يتسلل بين الشقوق , فتبدو على أرضية القفص معركة بين النور والظلام , كي يزيحَ النورُ امتدادَ الظلام المنتشر على تلك الأرضية البائسة , وهو مستلقياً فوق سرير وحدته يراقب تلك المعركةَ , والنور يستصرخه , فيكتفي بالمشاهدة فقط , إذ رائحة الليل الدامس تتغلغل داخل ريشه المتهالك تندسُّ كمن يبحث عن ملاذٍ يؤيه , وريشه يتداعى أمام هبوب رياح الزمن كغصنٍ يابسٍ , والزقزقات التحفتْ بغبارٍ كنسه عليها الزمنُ قبل شروق البوح ورماها في أحد الكهوف القديمة مخبأةً في صناديقَ مغلَقةٍ , جثمتْ عليها خفافيشُ الظلام لتمسحَ منها تلك النوتاتِ التي يتعلم منها هذا العصفورُ العزفَ بمزمار منقاره , وتستبدلها بنوتاتٍ سوداءَ خرساءَ تتقاطر من تلاطم أجنحتها السوداء وهي تطير فوق هذه الصناديق , ناسجةً فوق هذه الصناديق شعوذاتٍ وعُقَداً بلهاءَ تصرُّ على اعتقال هذه الزقزقات البريئة في جيوبها المعتمة بالصمت , فيكتفي بالمشاهدة فقط ....
يلوي بعنانه ناحيةَ ريشه المتهالكِ والمتناثرِ على جوانب القفص , يحاول أن يزيح الغبارَ المتراكمَ عن تلك الخربشاتِ التي رسمها الأفقُ على ذلك الريش أثناء طيرانه بالماضي , فقد كان الأفقُ طفلاً يحاول أن يرسم طفولتَه على ريشه الطائر بطبشور الهواء , وكانت الغيوم تقترض من ريشه ما يُسوّي خشونتَها لتغدو ناعمةً ورقيقةً , والأشجار كم كانت مرقصاً له وللعصافير الأخرى يرقصون على أغصانها الدبكة العصفورية ...
فيجمع ريشَه ليغطي بها شقوقَ القفص الخشبي , فيصبح قفصُه قطعةً من ليلٍ دامسٍ , ويضع نهايةً لمعركة النور والظلام , لتبدأ احتفالاتُ الخفافيش بالظلام من جديد ....