فجر ما بعد اليوم الأول للحرب...
كنت بجدة حينها وقد اختطفت نفسي من جميع مشاغلي المضنية والتزاماتي المتوهمة والحقيقة معاً، وجئت من الرياض لأجلس عند قدم أمي بضعة أسابيع، علَّني استشفي من دبابير التقصير المريع التي لا تكف عن نهش ضميري لما اقترفه في حقِّ نفسي من آثام وحرقة البعد عنها، وهي تتسامى على آلامها بصبر أيوب وبنذر مريم وجرأتها في الصيام عن الكلام، فتتجرّع علقم غيابي في صحبة سليلتها الصغيرة أختي حسناء لأجل حرية الحركة والتحليق التي نذرت عمرها لأنالها.
أو لعلّني حين أمرغ روحي وهامتي في تراب جنّة أقدامها أبرى من امتقاعات أسلاك الأسئلة النارية على جسدي وروحي صباح مساء، قبل أن أفتح عيني على فجر وجهها، وقبل أن أغمضها على أطيافها الشامخة.
في دوار التأرجح بين رطوبة جدة وبين الأخبار، لم أستطع النوم إلى ساعة متأخرة من تلك الليلة خاصة مع تأجُّج الجو بتلك الرائحة المريبة لاحتمال انفتاح حرب إسرائيلية جديدة في سماء لبنان، فقررت ألاّ استسلم لنعاس كنت استجدية, وأصمد قليلاً في انتظار صلاة الفجر ولعلّ انفراجة - ما - تثقب حس التوجُّس الذي أخد يلعب بأعصابنا.
أقفلت الكتاب الذي كنت أقرأ وكان بالصدفة المحضة يروي فظائع من قصة مجنّدة ألمانية في الجيش النازي، كانت مختصّة في المساعدة والإعداد لتصفية اليهود داخل الأفران الغازية, وإن جاءت الرواية بعنوان تطهيري لا يدل على موضوعها المرعب (دعني أذهب) لهيلقا شنيدر( Let me go)، (Helga Schnei der)
فتحتُ التلفزيون ...
كانت جزيل خوري بوجهها الذي عمده دم اغتيال زوجها سمير قصير بالتماعات فزع لا يموِّهها جمالها وجرأة أسئلتها المعتادة، تستضيف عدّة شخصيات لبنانية في برنامجها على قناة العربية ومنهم شقيق سمير قنطار عميد الأسرى اللبنانين والعرب، ممن مضى على اعتقالهم في السجون الإسرائيلية ما يزيد على ربع قرن، حيث كانت عملية (الوعد الصادق) التي اختطف فيها حزب الله الجنديين الإسرائيليين عشية اليوم السابق بهدف التبادل مع إسرائيل لاستعادة حرية أولئك الأسرى.
كانت الإعلامية اللامعة الملتاعة بطعنة الغدر للتو تسأل أسئلة حدّثني قلبي أو بالأحرى اكتواءاتنا من تجارب سابقة مع العدوان الإسرائيلي، أنّها قد تكون أسئلة بريئة لاحتمالات حرب تخلو تماماً من البراءة.
كانت تقول إنّها طالما تبادلت رسائل مع سمير قنطار في سجنه الإسرائيلي، وأنّ سمير لو علم أنّ ثمن استعادة حريته ضربة عسكرية توجَّه إلى لبنان، لما كان قبِل بالموقف.
وكانت ندبات السوابق الإسرائيلية ووشمها المسموم على لحم الأحياء العرب، ممن حملوا أو لم يحملوا أوزار الحلم العربي منذ تفتُّح زهرة صباهم الأولى، تقول إنّ إسرائيل لا تحتاج إلى ذريعة كاختطاف جنديين لمبادلتهم بأسرى لتقوم باقتراف جريمة الحرب. لأنّ تاريخها يقوم على اختلاق الذرائع طوال التواريخ المختلفة لحروبها واعتداءاتها في المنطقة. فلم تكن أولها حجة عملية الليطاني عام 78م ولا آخرها عدوان عناقيد الغضب بقانا 96م وقبلها اجتياح بيروت 82م. كما أنّ رياح الحرب ليست كارثة طبيعية كتسونامي قد تهب فجأة، لو لم يكن هناك تخطيط مسبق ومترصّد للقيام بحرب. إلاّ أنّ من يلوم جزيل، وهذا ما قلته لنفسي في نهاية الأسبوع الأول لحرب إسرائيل على لبنان، وقد كانت برقّتها المعهودة وإهابها النحيل تحاول أن ترد عن بلدها حرباً شرسة بشروط ما كانت تحلم به ونحلم به جميعاً، من ديموقراطية برلمانية وحوار وطني بين مختلف القوى الساسية اللبنانية، فيما كانت أمريكا تدجِّج فزاعة العصافير الإسرائلية بأسلحة مدمِّرة وتدفعها إلى أرض الجنوب دفعاً متعمّداً لتقضي على حزب الله كقوة مقاومة، وإن جاء ذلك على جثة آخر مواطن وآخر طفل لبناني، وبمحو آخر رمق للحياة المدنية في لبنان وتحويلها إلى أرض محروقة بهدف خلق (فوضى خلاقة) يجري بها (مخاض شرق أوسط جديد) كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية حين قدمت بعد أسبوع من بدء الحرب الإسرائيلية الوحشية على لبنان، تحمل في حقيبة يدها الأنيقة بشارة الخراب.