كان لابدَّ من ذلك رغمَ تخوُّفيَ الشديدِ والذي استقرَّ في داخلي منذُ أنْ سمعتُ بتلكَ الكوارثِ التي تحيلُ
الإنسانَ إلى عدمٍ، وهي تهوي بهِ في مكانٍ سحيقٍ .
لم يكن رفضي يظهر عليَّ، فما كنتُ أصرِّح بهذا الخوف إلا في وقتٍ قريبٍ .
ولأوَّل مرَّة أدخل هذه التجربة وكأنني أقوم بعمل استشهادي، هكذا يخيَّل لي وأنا أقرأ بعضاً من
القرآن وصوت في داخلي: ألا تؤمن بالصَّدقة التي دفعتها مسبقاً؟؛ وقد قيل عنها: بأنها تدفع البلاء
وتنسىء الأجل، واستقلُّ الطائرة ويبدأ كل شيء بالدَّوران؛ تفكيري .. دمي .. رأسي ..جسمي
وحتى نشوة الفرح تدور هي الأخرى، هنا لامناصَ للتراجع أو الرفض إنه الشعور بالخوف والقلق
المتزايدين والذي لازمني طيلة هذه الرحلة وقد استمرَّت 8 ساعات متواصلة، وكأنَّني
موكَّلٌ بفضاءِ اللهِ أذرعُهُ-على رأي شاعرنا ابن زريق- ، لم يهدأ لي بالٌ رغم تظاهري بالتصرف الطبيعي
أثناء الرحلة أمام صاحبيَّ، فلم أردْ أن يكون هذا الإحساس جليَّاً رغم الصمت المطبق الذي انتابني أثناء
الإقلاع والذي لاحظه صديقي (قنبلة الضحك) وهو يرميني بصوته الخفيض هذه المرة، ويساعده على ذلك
صديقي الآخر (المشطوط) بنظراته ولمزاته المازحة؛ لتكتمل الفرجة على هذا الآدميِّ المسكينِ المنسمطِ
على كرسيِّه دونَ حراكٍ عدا التفاتات منهُ عبرَ النافذة؛ ليصدِّقَ أو لا يصدِّق أنَّه معلقٌ في الجوِّ فعلاً، وأنه
فوق هذا العالم الذي كان قبلاً يمشي عليه.
لأول وهلةٍ يجتاحك فرحٌ غريب، ودغدغة في داخلك تحيلك طفلاً يريد أن يصنع كلَّ شيءٍ، لكنَّ مشاهدة
الغيوم وأنت تمرُّ بجوارها وفوقها وبينها تثير في قلبك نشوةً منغصةً بالخوف أحياناً والأسئلة البسيطة:
ماذا لو حدث خلل في هذه الطائرة؟
ماذا لو سقطت فجأة ؟ ماذا لو .. ؟ النتيجة هي الاستسلام لمصير حتميٍّ لا أمل فيه للنجاة !
تلك هواجس سوداء لا ترحل مهما سليت عنها بقراءة كتابٍ أو ديوان شعر أو مجلةٍ أو مشاهدة فلم ضاحك
لمستر بن أو ابتسامةٍ خاطفة من مضيفة أو لمسةٍ حانيةٍ منها، لا أدري لما كل هذه الأفكار السوداء ؟
ولماذا تحل في لحظةٍ كهذه ؟ ليس في وسعك أن تخلق أفكاراً كما تشاء في لحظاتك الجميلة، لأن ذلك
خارج عن إرادتك، فالأفكار تنبع من بئر تجهله داخلك .
لحظة أخرى هي أشدُّ فزعاً رغم ما فيها من تفاؤل وارتياح نفسي إنها لحظة الهبوط حيث تتملَّكك موجتان :
موجة السعادة بسلامة الوصول وموجة القلق الذي صاحبك منذ البدء إلى هذه اللحظة؛ إذ كيف ستهبط هذه
الطائرة؟ وأنا انظر إلى الأشجار الكثيفة والجزر المتفرِّقة والطرق الملتوية والسيارات، تلك مشاهد لم أعتد
على رؤيتها من قبل إلا من خلال الأفلام.
كيف إذن ستلامس الأرض دون ارتطام أو خلل ؟ صديقي (قنبلة الضحك) يقول:
إن مهارة الكابتن تكمن في إنزال الطائرة على الأرض بطريقةٍ لا يشعرك فيها بأنَّها ترتطم أو تحدث خضةً
مخيفة، إلا أنني بعيدٌ عنه، وعن فلسفاته الزائدة.
ويا لها من لحظة ! كنتُ متعجلاً ومترقباً سماع صوتِ العجلات وهي تلامس المدرج، وأنا أكثر من التهليل
والتكبير في حالةٍ غير مألوفة لديَّ، وكأنني سأخرج من معركةٍ أوشكتُ فيها على النصر .
وصلتُ .. وصلتُ .. أكاد لا أصدِّق .
8 ساعات خارج الحياة إنه أصدق عنوان وجدته لهذه الرحلة .
.
.