اضواء - سيكولوجيا الانفصام الروائي لدي حنا مينه - بطل رواية يتخاصم مع ذاته في صراع بني العقل والروح - ناظم عودة
عبـر المرآة، حـدّق ديمتريو بديمتريو، تحديقة خصمين متباغضين ومتلازمين.
ــ حنا مينه: مأساة ديمتريو ــ
ظاهرة الانفصام ظاهرة شائعة اجتماعياً، فعندما نلحظ شخصاً معيناً مصاباً بهذا المرض النفسيّ، فإننا لا نكون معنيين بالتواصل إلا مع شخصية واحدة هي الشخصية المريضة، ذات الخواص العصابيّة المعيّنة، التي نتعامل معها تعاملاً مباشراً. وفي التواصل الاجتماعي، ثمة وسيلتان للكشف عن هذه الشخصية العصابية هما: الانزياحات اللغوية والعقلية التي تصاحب هذه الشخصية، ومخلفات الذاكرة عن الشخصية الأولي المألوفة للعصابي، وعن طريق هاتين الوسيلتين يتم الكشف عن هذه الشخصية غير السويّة. لكنّ القارئ الذي يقرأ رواية (مأساة ديمتريو) لحنا مينه عليه أنْ يكون معنيّاً بانفصام رباعي: المؤلف والراوي وديمتريو الأول وديمتريو الثاني. لأنّ هذا القارئ معنيّ بكسر الجوز الهندي الذي تحدّث عنه عبد الله بن المقفع في تقديمه لحكايات (كليلة ودمنة) الخرافية، وقد تحدثنا عن ذلك في مقدمة هذا الكتاب، وما معرفة خواص هذه الأطراف الأربعة سوي سبيل يسلكها القارئ، لبلوغ المقاصد المحيطة بكلّ عمل تخييلي. لأنّ الأعمال التخييلية تتضمن عادةً، قدراً كبيراً من اللاوعي الكامن في الكلمات والتعبيرات والأساليب البلاغية، وهذا هو منهج فرويد في تحليل الأعمال الفنية قاطبة.
وعلي هذا الأساس، لابد من قراءة رواية (مأساة ديمتريو) علي أكثر من وجه، ليس لقسر النصّ علي الاستنطاق، ولكن لتأمل المقاصد الحقيقية لـتأليف هذه الرواية، التي تبدو منهمكة في البرهنة علي أزلية فعل الحبّ، علي الرغم من المستحيل الذي يعترض طريق ديمتريو في بلوغ مرامه، وهو هنا يشبه بطل رواية عبد الرحمن منيف (قصة حبّ مجوسية)، تعترض سبيله عوائق مختلفة، قد أشرنا إليها في تحليلنا لتلك الرواية. يمكن متابعة انشطار الذوات في رواية (مأساة ديمتريو) بصورة تدريجية من الحقيقي إلي الوهمي، أو من المألوف إلي غير المألوف:
1ــ المؤلف الروائي، الذي لاريب في أنه كان ينازع لكي يحقق انفصاماً من ذاته إلي ذات أخري، هي ذات الراوي، الذي ينوب عن المؤلف الحقيقي في السرد عادة، وكانت له نيّة في ترسيخ فكرة معينة من جرّاء عمله هذا، كما سيتضح من خلال تحليل بعض جوانب الرواية.
2ــ الراوي، الذي يتقمص شخصية معينة، تقوم بوظيفة إبلاغ رسالة حكائية إلي القارئ، ولكي تحقق غرضها في التأثير وترسيخ مقاصد العمل السردي، فإنها تبتكر طريقة معينة في حكي ما جري. وكان الراوي في (مأساة ديمتريو) يلازم هذه الشخصية ملازمة الظل، ليدوّن عنها ما تقول، ويصف لنا أفعالها، ومواقفها، وأفكارها. 3ــ ديمتريو الأول، وهو شخصية حقيقية في سياق السرد الروائي، وتكون مراقبة من طرف الراوي الدقيق في مروياته، والبليغ في تعبيراته، والمثقف في إقامة موازنة بين الحكي والتحليل المنطقي.
4ــ ديمتريو الثاني، وهو شخصية وهمية، تلاحق ديمتريو الأول في أفعاله وتصرفاته، تنتقده بشدّة، وتريد أنْ تعدّل من تلك الأفعال. أو هو الصورة الحقيقية لانفصام الشخصية في هذه الرواية، ويبدو أن هذا الانفصام هو أحد الخصائص الأسلوبية في معظم الروايات السيكولوجية ذات السرد الرومانسي. وبالرغم من أن حنّا مينه أراد أن يقوّي الأساس الواقعي لروايته هذه، إلا أنّ شخصية ديمتريو تتمتع بتلك الخصائص الرومانسية، الحالمة والمأساوية في الوقت نفسه. ولم يكن ديمتريو الثاني غير صنعة فنية، من صنائع المؤلف الحقيقي، ليكشف عن العالم الباطني لشخصية ديمتريو الأول، فهذه الوسيلة هي الأكثر صدقاً في التعبير عن بواطن الشخصية الأساسية؛ لأنها الذات تتحدث عن نفسها. ومن جهة أخري، فإنّ هذه الطريقة تعدّ مؤثرة في قارئ الرواية الحديثة؛ لأنها معززة بمنطق التحليل النفسي، الذي يجد استجابة واسعة من لدن القرّاء. فهذا المنطق يضع مهمة الكشف عن بواطن الشخصية، أو العالم اللاواعي لها من أولي مهماته، وينطوي فعل الكشف عن ذلك العالم بطبيعته، علي إثارة فضول القارئ. يضع حنا مينه تصميماً شكلياً لروايته، يقوم علي الطبقات الصوتية؛ أي أنّ شخوص الرواية يتناوبون علي سرد الأحداث ذات الصلة بالرواية، مضمنين ذلك وجهة نظرهم الخاصة. ويمكننا بعد ذلك أن نتبيّن أيدي المؤلف الحقيقي في تصريف شؤون روايته، ووضع المعمار الفني المناسب لها؛ لأنّ الجامع الأخير للموروث السردي لشخوص الرواية هو المؤلف الحقيقي، الذي صنّف الأصوات، ونقحها، وربما ضمنها وجهة نظره الثقافية، وأعطاها الشكل النهائي، الذي يُقدّم كعمل روائي تخييلي لفئة من القراء، ويكون مذيّلاً بعبارة: رواية للروائي حنا مينه.
الأنا الثانية للمؤلف
وتبدو لنا الملاحظة الأخيرة، الخاصة بتضمين المؤلف وجهة نظره في الطبقات الصوتية التي كوّن منها روايته، مطلباً أساسياً يكافح من أجله المؤلف الحقيقي، فرواية (مأساة ديمتريو) ذات خلفية ثقافية قائمة علي ثنائيات متصارعة. ولكي يبدو المؤلف منصفاً في أحكامه الثقافية والأخلاقية والواقعية، فإنّ ذاته الحقيقية تعاني من انفصام ذي وظيفة تتعلق بمنطق ترويج تلك الأحكام. فهو يصنع شخصيات متضادة في أحكامها، ويدع ذاته تحقق أقصي حالات الانفصام؛ لكي يكون الصوت معبّراً عن وضعه خير تعبير، فهو يضع (فهيم المتبحر) المثقف المشبع بالفكر الفلسفي المثالي والرومانسي، قبالة (واصل الدلجي) التاجر المشبع بالأفكار المادية، والنظرة الواقعية للأشياء. ويضع (فهيم المتبحر) الذي يرمز إلي التحول من الطبيعة إلي الثقافة، قبالة ابنته (رجعة) التي ترمز إلي الطبيعة البِكْر. ومن خلال هذه الشخصيات المتقابلة، تتحرك الأنا الثانية للمؤلف بحرية تامة، للتعبير عن أفكارها، فثمة صراع بين الماركسية والرأسمالية ينشب ما بين (فهيم المتبحر) و (واصل الدلجي)، يغذيه المؤلف بطريقته الخاصة، ويتخذ موقعاً يراقب فيه ما يجري، لكي يوجه الصراع باتجاه منطق أكثر تمسكاً بالجانب الأخلاقي الملتزم. فالاشتراكية ــ في نظر المؤلف ــ الذي يعبر عن رأيه من خلال شخصية (فهيم المتبحر)، هي المُخَلِّص من النظام الطبقي الذي تخلقه الرأسمالية، التي يتبناها (واصل الدلجي) ويدافع عن نظامها الأخلاقي، ويعتقد أنّ كارل ماركس صاحب رأس المال، هو حاسد كبير، و (ناشر ضغائن، مثير فتن، وينبغي أن يحاكم، لأنه يهزّ القناعات المترسخة في عقول الناس، ويعكر صفو الانسجام القائم بين الطبقات، ويحلّ محل هذا الوئام الإنساني، صراعاً لا إنسانياً، عنيفاً، دامياً، بلغ من شأنه أن ألقي شعوباً برمتها في برك من الدماء). تعيش (راجعة) حياة قائمة علي الانفصام؛ بين ذاتٍ رومانسية تطوف مع الموسيقي، متشبعة بأفكار أبيها (فهيم المتبحر) حول الحبّ، وذاتٍ تعارض وجهة نظر زوجها (واصل الدلجي) المشبع بالأفكار المادية النفعية؛ في التجارة، في الجنس، في المال، في الثقافة، وفي العلاقات العامة. وهكذا فإنّ (راجعة)، تساير في الواقع زوجها، لكنها تؤثث عالماً متخيلاً، وتعيش فيه، وتظل تنتظر (راجع) الذي حدثها عنه أبوها، عندما كان يبسط فلسفته، في الحبّ والعلم والفكر والمعرفة. إنّ شخصية (فهيم المتبحر) هي شخصية ذات خلفية ثقافية، مرسومة بعناية من المؤلف الحقيقي، حتي كأنها صوته الشخصي الحقيقي. وتلك ظاهرة بارزة في الرواية العربية، إذْ تتسرّب من وقت لآخر ثقافة المؤلف الروائي الحقيقي، نادراً ما لا تجد قضية ثقافة مضمّنة، أو إشارة، أو قائمة من المصطلحات الثقافية، التي تنتشر عبر النصّ الروائي. وفي رواية (مأساة ديمتريو) فإنّ الشخوص يعرفون أسطورة تاو، والحكيم لقمان، وسقراط، وأرسطو، وأفلاطون، و(المادة والحركة) عند أرسطو، وأسطورة سيزيف، والفلسفة اليونانية، والفلسفة العربية، وأبو سليمان المنطقي، وأبو حيان التوحيدي، وكارل ماركس، وعدد من الموسيقيين، والفن التشكيلي الانطباعي، وإلي ما هنالك من قضايا ثقافية. بيد أنّ الشيء الأهم، هو تفلسف (فهيم المتبحر)، فهو لم يكن قارئاً للثقافة فقط، بل منتجاً لأفكار فلسفية، لنري ذلك في هذا الحوار الذي دار بينه وبين بنته (راجعة):
والدي كان حكيماً. هذا لا شكّ فيه، كان يقرأ سقراط وأفلاطون وأرسطو، كان يفضل أرسطو. يقول: (فيه شيء من عصرنا) ولما سألته عن هذا الشيء قال: (المادة والحركة) لم يتسع لي الوقت، ولم يمتد به العمر، ليشرح لي أهمية المادة، وقيمة الحركة، كل ما قاله إن أرسطو تخطي بهما عصره. حسناً! أرسطو كان حكيماً، وأنت تقدر حكمته، فما هي الحكمة، يا ولدي، باسم راجعة هذا؟ ولماذا أصررت، كما أخبرتني والدتي، علي تسميتي به؟
قال والدي:
ــ لأنك، بالفعل، راجعة.
ــ راجعة من أين؟
ــ من المجهول.
ــ أي مجهول؟
ــ لو عرفناه ما كان مجهولاً..
ــ أنا لا أفهم..
ــ ستفهمين..
ــ متي؟
ــ حين تكبرين..
ــ الكبر يعني الفهم؟
ــ يعني إمكانية الفهم.
ــ والفهم؟
ــ يتوقف علي التجربة.
ــ والتجربة؟
ــ تتوقف علي المعاناة
ــ وهذه؟
ابتسم ومسد شعري بكفه الحانية. قال: (لو أخذنا بلعبة توالد الأسئلة لما انتهينا. كنا نوغل، شأن الذين يسألون عن الخلق، حتي نبلغ بدايته. نصل إلي السؤال الخطير: من؟ وبعد ذلك انتفاء الايمان..لا..لا أريدك سائلة ملحة في مساءلتها. التجربة أنواع، أعظمها..) توقف وأضاف مبتسماً: (لكنك ما تزالين صغيرة..).
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1437 --- Date 25/2/2003
جريدة (الزمان) --- العدد 1437 --- التاريخ 2003 - 1 - 25
AZP09
AYAT
NAAO
يتبع>>>>>>>>