الحوار والحوار وحده ولاشيء غير الحوار
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من العجيب أن ينزل الحوار منزلة الحقيقة ، فكما أن الأصل في الكلام من جهة مضمونهُ هو الحقيقة فكذلك الأصل من جهة قائله هو الحوار ،
وكما أن المتكلم الشاهد خصوصاً ان يقول الحقيقة فكذلك على المتكلم العادي عموماً أن يمارس الحوار وكما أن على الأول أن يقول الحقيقة وحدها
فكذلك على الثاني أن يمارس الحوار وحده وكما أنه على الأول أن لايقول شيئاً غير الحقيقة فكذلك على الثاني أن لايمارس شيئاً غير الحوار
وبيان هذه الحقيقة الحوارية من الوجوه الثلاث الآتية :
أولهـا : أن طريق الوصول إلى الحق ليس واحداً لاثاني له ، وإنمـا طرق شتى لا حد لها لأن الحق هو نفسه على خلاف الرأي السائد ليس ثابتاً لايتغير
بل أصله أ، يتغير ويتجدد وماكان في أصله متجدداً فلا بد أن يكون الطريق الموصل إليه متعدداً وحيثما وجد التعدد في الطرق فثمة حاجة إلى قيام حوار بين المتوسلين بهـا .
والوجه الثاني : أن تواصُل الحوار بين الأطراف المختلفة فئات أو أفراد يُفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم وذلك لدخول هذه الأطراف
في استفادة بعضها من بعض حيث إن هذا الطرف أو ذاك قد يأخذ في الإنصراف عن رأيه متى تبين له عند مقارعة الحجة بالحجة ضعف أدلته عليه ثم يتجه تدريجياً إلى القول
برأي من يخالفه أو يأخذ على العكس من ذلك في تقوية أدلته متى تبينت له قوة رأيه مستحلباً مزيد من الإهتمام به من لدن مخالفه حتى ينتهي هذا المخالف إلى قبوله
والتسليم به وهكذا ، فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق فإن الحوار ينزل منزلة الدواء الذي يُشفي منه .
الوجه الثالث : أن الحوار يسهم في توسيع العقل وتعميق مداركه بما لايوسعه ولايعمقه النظر الذي لاحوار معه إذا الحوار هو بمنزلة نظر جانبين اثنين وليس النظر من جانب واحد
كالنظر من جانبين اثنين فمعلوم أن العقل يتقلب بتقلب النظر في الأشياء وأنه على قدر تقلبه يكون توسعه وتعمقه والعقل الذي لايتقلب ليس بعقل حي على الإطلاق
والعقل الذي يبلغ النهاية في التقلب فذلكم هو العقل الحي الكامل وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يكون تقلب العقل في حالة النظر من جانبين ضعف تقلبه في حالة النظر من جانب واحد
فيكون عقلاً أوسع وأعمق ، وغلا فإن تقلبه أكثر من هذا متى علمنا أن أدلة الجانبين لايجتمع بعضها إلى بعض فحسب بل يزدوج بعضها ببعض ومعلوم أن في الإزدواج
من الكثرة ماليس في الإجتماع بحيث تزداد سعة العقل وعمقه درجات كثيرة في حالة الإزدواج عنها في حالة الإجتماع .
مقتسبه من مقدمة كتاب : حوارات من أجل المستقبل
للكاتب : طه عبدالرحمن