الإهتمام العقائدي عند أهل البيت عليهم السلام
بعدما عرفنا الإهتمام الكبير للشأن العقائدي نأتي الآن إلى بيان هذه الحقيقة على لسان العِدل الاساس للقرآن الكريم وهم أئمة أهل البيت عليهم السلام، والمتأمل في كلماتهم يجد كنوزا كثيرة تحتاج إلى آليات عميقة وعظيمة لاستكناهها، ولكن المعسور لا يسقط الميسور.
عند تتبعنا لكلامهم عليهم السلام في مجال الإعتقاديات نراهم عليهم السلام يؤلون إهتماماً بالغاً لذلك وبشتى الاساليب والأزمنة والأمكنة، وذلك لما تقدم أن العقيدة هي أساس كل شئ، وقد سعى الأئمة عليهم السلام جاهدين على مر عصورهم في بيان العقيدة السليمة وإبطال العقيدة الفاسدة بل وتثبيت المعتقد السليم وعدم ضلاله وإرشاد المسترشدين.
المُحقق في كلماتهم عليهم السلام في هذا المجال يجدها على ضروب وأساليب كثيرة منها:
الأول/ مناظراتهم الكثيرة مع أصحاب العقائد الفاسدة بشتى صنوفهم ومذاهبهم كما نجد ذلك كثيرا وخصوصا في أمر التوحيد من مناظرات الإمام الصادق عليه السلام مع الزنادقة(1) الملحدين والثنوية(3) بل ومع المذاهب الإسلامية الأخرى، حيث تكشف لنا أن أئمة أهل البيت عليهم السلام مارسوا الجهد الأكبر في حياتهم وهي تنقية وتصفية العقائد من كل فساد، وأنهم قاموا بهذا الدور بأنفسهم وبشكل مباشر ومن أراد المتابعة فليراجع عيون أخبار الرضا وأصول الكافي وكتاب التوحيد للصدوق وغيرها من الكتب، فإننا نلحظ إهتمامهم عليهم السلام لذلك بشكل لم يسبق له مثيل وتأسيسهم القواعد العقلية بل والفلسفية لإيجاد صبغة قوية على عقيدتهم عليهم السلام التي هي المعرفة الحقة الحقيقية، والنماذج الروائية كثيرة جدا في مناظراتهم ومنها رواية يونس بن يعقوب الواردة في أصول الكافي ج1 ص171 ح4 باب الإضطرار إلى الحجة وباختصار شديد حيث أتى رجل شامي وقال للإمام الصادق: إني صاحب كلام، يعني أنه بارع في علم الكلام والعقيدة فقال له عليه السلام بشكل مباشر: كلامك من كلام رسول الله أو من عندك: فأجاب الرجل: منه ومن عندي، فقال له: إذا أنت شريكه، فقال: الرجل لا لست كذلك: فقال الإمام هل سمعت الوحي؟ فقال: لا، فقال الإمام هل تجب طاعتك كطاعة رسول الله قال الرجل: لا.
فهنا التفت الإمام ليونس بن عبدالرحمن وقال له: (هذا قد خصم نفسه بنفسه)، فهذا نموذج لمناظرة الإمام الصادق عليه السلام فتأمل.
الثاني/ نجدهم عليهم السلام أنهم قاموا بتربية جيل صالح قادر على تحمل المسؤولية سواء في عصرهم أم لغير ذلك ولذا نراهم قد أهلوا الكثير من طلابهم كسلمان والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وأبي ذر وكهشام بن الحكم وهشام بن سالم ومؤمن الطاق وجابر الجعفي وغيرهم من أصحابهم الذين بذلوا مهجهم في ذلك، فقاموا بعدة أدوار لتخريج هذا الجيل المدافع عن الحقيقة وعمدوا إلى التخصص والتخصص في التخصص أيضا فليس كل من صاحَب الإمام الصادق أيقن بأنه يستطيع المناظرة في العقائد فإن ذلك يحتاج إلى أساليب وقواعد وقوانين رصينة تمنع من الغلط والزلل وتفحم الخصم بدون أي دنس وهذا الأمر إما على نحو تدريبهم على المناظرة والإشراف عليها وتقييمها من قبلهم أو من قبيل إرشادهم إلى مناظرة البعض كما في الرواية السابقة حيث قال يونس:
لما فرغ الإمام من مناظرة الشامي قال ليونس: لو كنت تحسن الكلام كلمته.
وهنا يتضح لنا الأمر أنه ليس كل من من تعلم له كلمتين قال أنه مقتدر على هذا الامر.
ثم أردف الإمام وقال ليونس: اخرج وانظر من ترى من المتكلمين فأدخله.
وهنا يظهر أن الإمام أعد نخبة من أصحابه لهذا الأمر وكل في اختصاصه.
فأدخل يونسُ حمرانَ بن أعين وكان حسن الكلام، ومؤمن الطاق وهشامَ بن سالم وقيسَ الماصر وكان أحسنهم عندي كلاما وأنه تعلم الكلام من الإمام علي بن الحسين عليهما السلام.
فلما استقروا في المجلس أمر الإمام كل واحد منهم أن يناظر الشامي حتى انتصر كل واحد على الشامي في مناظرته له، وكان كل واحد منهم يناظره لوحده حتى تبرز الطاقات الكامنة.
وبعد ذلك أخرج الإمام راسه من خيمته ورأى بعيرا يخب فقال: هشام ورب الكعبة، فأقبل هشام ودخل على الإمام واستقر به المجلس وكان هشام أصغرهم سنا وكان أول ما اختطت لحيته، وهذا يكشف لنا أنه على صغر سنه إلا أنه بارع كل البراعة في أمر الكلام كما سيظهر لنا الآن.
فأمر الإمام هشاما بمناظرة الشامي فتناظرا طويلا حتى انتصر هشام عليه.
فلما انتهت مناظرة أصحاب الإمام الصادق للشامي وكلهم انتصروا عليه وقد اشرف الإمام على المناظرة وتبين الحق من الباطل أقبل الشامي للإمام وقال له: أسلمت لله الساعة، فقال أبو عبدالله: بل آمنت بالله الساعة، ان الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون، والايمان عليه يثابون، فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وانك وصي الأوصياء.
وهنا نجد هذا الشامي أنه نظر بعين البصيرة لا الباصرة فأذعن للحق ولكن مع ذلك كله ولأنه لم يؤخذ علمه منذ البداية من أهله قال للإمام: أسلمت الساعة، وهذا خطأ حيث أنه يشهد الشهادتين ويصلي ويصوم وغير ذلك فهذا إسلام يحقن دمه وينكح عليه ويتوارث به، ولكن بعدما آمن بإمامة الإمام كان لابد له أن يقول: آمنت الساعة، كما علمه ذلك الإمام، وبعد ذلك أقبل للإمام وشهد له بإمامته.
وإليك تقييم المناظرة التي يكشف لك براعة كل واحد منهم وأيهم أقرب في المناظرة إلى أسلوب الأئمة وإليك ذلك:
1ـ مناظرة الشامي مع حمران: قال الإمام لحمران في تقييم مناظرته: أنك تجري الكلام على الأثر فتصيب أي أنك تستدل بآثار رسول الله وسنته فتغلب الخصم بذلك لأن الحق يعلوا ولا يعلى عليه. أي أن حمران كثيرا ما يستدل ويستشهد بأقوال الرسول لإبطال حجة الخصم.
2ـ مناظرة الشامي مع هشام بن سالم: تريد الأثر ولا تعرفه أي أنك تريد الإستدلال بالآثار النبوية ولكن لا تعرفها ولا تحفظها جيدا فقال ذلك لهشام على نحو ذم الأستاذ المرشد للمتعلم المسترشد تأديبا وتحريصا له بكسب العلوم الدينية والتعمق في حفظ وفهم آثارهم.
3ـ مناظرة الشامي مع مؤمن الطاق: حيث قال الإمام عليه السلام لمؤمن الطاق: قيَّاس روَّاق تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر، أي الميل والمراودة وطلبا لشيء بكل طريق ومنه روغان الثعلب، أي أنت قياس تعمل بالقياس كثيرا، رواغ محيل مائل عن الحق إلى طريق الباطل لتكسر به باطلَا للخصم وتتخلص منه كروغان الثعلب وحيلته ليخرج عن نظر الصائد ويتخلص منه، وينبغي أن يعلم (أن الحق لا يبطل الحق ويبطل الباطل، وأن الباطل لا يبطل الحق وقد يبطل الباطل) إذا كان أظهر في الإدراك وأشبه بالصواب كما هو المعروف في الجدليات والمغالطات، وأن مؤمن الطاق يستعمل القياس كثيرا في مناظراته وهو متخصص في مناظرة أبي حنيفة بشكل كبير ومن الطرائف أن مؤمن الطاق وكان يكنى بأبي جعفر، فصادف يوما أن التقى مع أبي حنيفة فقال لمؤمن الطاق:"يا أبا جعفر أتقول بالرجعة؟ فقال: نعم، قال يعني أبو حنيفة : أقرضني من كيسك هذا خمسمائة دينار، فإذا عدت أنا وأنت رددته اإليك، فقال له في الحال مؤمن الطاق : أريد ضميناً يضمن لي أنك تعود إنسانا، فإني أخاف أن تعود قرداً فلا أتمكن من استرجاع ما أخذت مني"(3).
ومن هذا الأثر تتبين لنا عظمة المناظرة باستخدام كل أسلوب يناسب مقام الجدال، لأنه كما هو معروف في البلاغة أن الخطاب يكون بحسب مقتضى حال الخطاب، كذلك الجواب لا بد أن يكون بحسب ما يقتضيه المقام، وكذا المناظرة والمجادلة لا بد أن تتخذ أسلوبا يناسب المقام، فتأمل.
4ـ مناظرة الشامي مع قيس الماصر: حيث قال الإمام لقيس:تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله أبعدَ ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أي أنك قريب العهد برسول الله كونك تلميذ الإمام علي بن الحسين وأنت أقرب إلى أثر الرسول ولكن تمسك بالشبهة وتتشبث بها لأنها تشبه الحق حتى تدفع بها باطل الخصم مع أنه قليل من الحق يكفي عن كثير الباطل، والمقصود بالباطل هنا هو التزامه في المناظرة بعد الأخذ بالسنة الصحيحة الثابتة والواردة عن الرسول وتمسك بأباطيل الأقوال وهي الشبهات لتثبت ما عندك وتبطل ما عند خصمك.
ثم أردف الإمام بعد ذلك بقوله لقيس الماصر ومؤمن الطاق: أنت ومؤمن قفازان حاذقان، أي أنكما تقفزان من مطلب إلى مطلب لتثبتان ما عندكما من الحق ولا تثبتان على أمر واحد وهذا الأمر صحيح من جانب وغير صحيح من جانب آخر أي على سبيل الإستطراد قد يفي بالغرض وأحيانا يشتت المطلب وتبحر عنه بعيداً.وقد وردت كلمة (قفازان) في نسخة أخرى بالراء (قفاران) يقال اقتفرت الأثر أي اتبعته وهذا يعني أنهما يتبعان زلة الخصم ويوقعانه فيها.
وحاذقان يعني من الحذاقة وهي المهارة أي ماهرا في الوثوب واقتفاء الخصم بالباطل وفي بعض النسخ بالفاء من وهو القطع أي قاطعان الباطل بالباطل.
5ـ مناظرة الشامي مع هشام بن الحكم: حيث قال لهشام: يا هشام لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم الناس، فاتق الزلة، والشفاعة من ورائها إنشاء الله. أي أنك ذو خبرة ومهارة في اقتناص الحقيقة والإتيان بالدليل الراسخ والرصين وأن قدمك لا تزل في المناظرة لشدة ثباتك وصلابة موقفك وحجتك الدامغة وأنك وأنك على رغم صغر سنك وحداثة شبابك إلا أنك تطير بالحق فلا تخلِّف زلة تُمسك عليك بل وتخصم الخصم بقليل من الحق ألا فاثبت على ذلك ودعا له الإمام بعد ذلك.
الرواية التي اقتبسنا منها الشاهد الذي نريده طويلة لم نذكرها مراعاة للإختصار فليراجعها القارئ من مصدرها (أصول الكافي ج1 ص171 ح4 باب الإضطرار إلى الحجة).
الثالث/ أن الأئمة عليهم السلام قاموا بأسلوب رائع جدا في الحث على العقائد وشأنها المعرفي فنراهم أنهم يسألون أصحابهم عن عقائدهم ليثبتوها إن كانت صحيحة ويصححوها إن كان فيها شئ من الغلط فعلى وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد منها ما جاء عن رسول الله حيث قال لسلمان وأبي ذر والمقداد: تعرفون شرائع الاسلام وشروطه؟ قالوا: نعرف ما عرفنا الله ورسوله، فقال: هي والله أكثر من أن تحصى، أشهدوني على أنفسكم وكفى بالله شهيدا، وملائكته عليكم شهود، بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصا لا شريك له في سلطانه، ولا نظير له في ملكه، وأني رسول الله بعثني بالحق ...إلخ(4)، ومنها ما جاء عن الإمام الصادق حيث قال لسدير: اذكر لنا أمرك الذي انت عليه فإن كان فيه إغراق كففناك عنه وإن كان مقصرا أشردناك ...إلخ(5).
وهناك روايات كثيرة جدا في هذا الصدد ومنها عن الشاه عبدالعظيم الحسني مع الإمام الهادي حيث قام بعرض عقيدته على الإمام عليه السلام.
ومنها ما ورد عن أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما وضع السيدة فاطمة بنت اسد أم امير المؤمنين عليه السلام وقد سألها الملكان عن ربها وعن نبيها فقد سألاها عن إمامها فقال لها النبي وهو يرى تلك المسائلة بعين المحيط والمهيمن فأشار لها أنه ابنك أي أن إمامك هو ابنك علي.
ومنها ما ورد عن أن رسول الله أتى بالحمزة أسد الله والسيدة خديجة وأقر لهما دعائم الإسلام وأصوله كما حصل ذلك مع سلمان وأبي ذر والمقداد.
وغيرها وغيرها الكثير
فالنموذجان اللذان ذكرناهما يكشفان لنا مدى إهتمام الائمة بالشأن العقائدي حيث طالبهم بعرض ما يعرفونه من معارف حقة ومع ذلك فقد زادهم النبي والإمام الصادق بمعارف أخرى غير تلك التي يعرفونها وإن كانوا يعرفونها فقد زادهم تثبيتا لها، فتأمل
ومن هنا يثبت لنا أهمية هذا العلم وخطورته وكيف أنه اساس الدين والخلقة
وفي التتمة الآتية نأتي ببعض نماذج من الإهتمام العقائدي عن أهل البيت عليهم السلام بإسلوب متميز لعل البعض الكثير لم يطرق سمعه
الهوامش:
(1) الزنادقة أو الدهريين في اصطلاح القرآن أو الملاحدة طائفة من الناس لا يعتقدون بوجود خالق لهذا الكون أصلا وهم على مذاهب شتى بخصوص أصل الخلقة فمنهم: من يعتقد بمذهب الصدفة أي أن الكون وُجِدَ صدفة، وبعضهم يعتقد بنظرية الإنفجار الكبير وهو ما يسمى بـ(bing bang)، ومنهم يعتقد أن الكون وجد بسبب التفاعلات الكيميائية، وغيرها الكثير، ومن أبرز الملاحدة في عصر الأئمة ابن أبي العوجاء وابن المقفع والديصاني وغيرهم الكثير.
(2) طائفة من الناس يعتقدون بوجود إلهين إله الخير وإله الشر أو إله النور وإله الظلمة أو الإله يزدان والإله أهرمن، ومن أبرز هؤلاء في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام أبو شاكر الديصاني وغيره وأخبارهم كثيرة في مناظراته معهم.
(3) كتاب الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة للحر العاملي الشهيد الثاني ص87 الباب الأول ـ المسألة الخامسة ثبوت الرجعة من ضروريات مذهب الإمامية
(4) كتاب الطرف للسيد ابن طاووس ص11
(5) علل الشرايع للصدوق باب 159 ح1 وبحار الأنوار ج44 ص1 ح1
(يتبع إن شاء الله)>>>>>>